أيا كان السبب الذي أدى بنعيم إلى مصالحة أهل همذان فإن الجموع التي انضمت إلى إسفنديار كانت تزداد على الأيام عددا وقوة، وبلغ نعيما، وهو على رأس اثني عشر ألفا من المسلمين بهمذان، أن هذه الجموع تتحرك نحوه من جهات مختلفة: تحرك الديلم وعلى رأسهم أميرهم موتا، وتحرك أهل الري وعليهم الزينبي
4
أبو الفرخان، وتحرك أهل أذربيجان بإمرة إسفنديار، وجعلوا واج روذ وجهتهم وملتقاهم، وكانت دستى أقرب محلة من واج روذ؛ لذلك جعل نعيم عيونه بها يتنطسون الأخبار ويبعثونها إليه، وسبقت الديلم إلى الملتقى، فبعث العيون بأنبائهم إلى همذان، فخرج نعيم منها واستخلف يزيد بن قيس عليها، وسار في جنده حتى نزل قبالة القوات المتحالفة التي اجتمعت لقتاله، وكانت هذه القوات قد كمل عددها، فلم تمهل المسلمين أول ما نزلوا الميدان أن شدت عليهم، وفي ظنها القدرة على الظفر بهم، بل على استئصالهم، واشتد القتال بين الفريقين شدة ذكر بها الناس يوم نهاوند، وكان المسلمون قد ألفوا النصر فلم يكن التغلب عليهم يسيرا، أما هذه القوات من الديلم والفرس فلم تعرف لواء يجمعها فهي تدافع عنه وتموت دونه؛ لذلك انكشفت منهزمة حين أقبل المساء بعد أن قتل المسلمون منهم عددا غفيرا.
كان نعيم قد بعث إلى عمر بإخضاع همذان ومصالحته أهلها، وذكر له ما ترامى إليه من اجتماع الديلم وأهل الري وأذربيجان لقتاله، وفزع عمر لهذا النبأ وجعل يدعو الله أن يؤازر جنده وأن يؤيدهم بنصره، وأقام بالمدينة ينتظر أنباء هذا الجند وهو أشد ما يكون إشفاقا عليهم، وإنه لكذلك إذ قدم عليه عروة بن زيد الخيل، وكان قدم عليه من قبل بنبأ غزوة الجسر حيث قتل أبو عبيد الثقفي وانهزم المسلمون، فلما رآه عمر قال: بشير! وأجاب الرجل: بل عروة، فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون! عند ذلك فطن عروة فقال: بل أحمد الله فقد نصرنا وأظهرنا، وحدثه بما كان، فلما أتم حديثه قال عمر: هلا أقمت وأرسلت؟ وأجاب عروة: قد استخلف أخي وأحببت أن آتيك بنفسي، ومن يومئذ سماه عمر البشير، وأمر عمر فقرئ الكتاب الذي حمله عروة من نعيم بالفتح والنصر، فحمد الناس الله وصلوا شكرا لأنعمه.
وعاد عروة إلى همذان يحمل من عمر إلى نعيم كتابا فيه: «أما بعد فاستخلف على همذان وسر حتى تقدم للري وتلقى جمعهم، ثم أقم بها فإنها أوسط تلك البلاد وأجمعها لما تريد.» ولم يلبث نعيم حين قرأ هذا الكتاب أن أقر يزيد بن قيس على همذان وسار بالناس إلى الري وهو لا يشك في أن الله سيفتحها عليه، وكيف يخامره في ذلك شك أو تخالط نفسه فيه ريبة، وقد لقي جموع الري مع الديلم وأهل أذربيجان، فهزمت وقتل منهم موتا ملك الديلم! ولعله أفرط في تفاؤله؛ فقد كان الملك بالري يومئذ سياوخش بن مهران بن بهرام جوبين، وكان قد أيقن بعد واج روذ أن المسلمين لن يصيروا حتى يهاجموه ليفضوا عليه عاصمته؛ لذلك استمد أهل دنباوند وطبرستان وقومس وجرجان وقال لهم: قد علمتم إن هؤلاء حلوا بالري أنه لا مقام لكم، فأمدوه بقوات اجتمعت فكانت أضعاف القوات التي سار بها نعيم عددا وعدة، وتحصنت هذه القوات كلها بالري، وكان سياوخش قد زاد معاقلها مناعة وقوة؛ فلما رأى ما اجتمع في هذه المعاقل أيقن أن المسلمين لن يظفروا به، ولن يستطيعوا أن يفضوا عليه حصونه.
لم يكن عجبا أن يجتمع أهل الشمال للدفاع عن الرى؛ فقد كانت العاصمة الكبيرة لهذه الأرجاء، والحصن الحصين تلوذ به وتلجأ إليه، وكان بها من المعابد القائمة حول بيوت النار ما جعل نفوس كثيرين تهوي إلى زيارتها في المواسم الدينية، وترى في الاعتداء عليها اعتداء على قدس يجب الدفاع عنه ، ثم إنها كانت بموقعها من الأقاليم المحيطة بها، ملتقى تجارة واسعة تجلب إليها من الشرق ومن الغرب، وتجعل أهلها في رخاء ورفه عيش، وكان أهلها وأهل الأقاليم المحيطة بها مطمئنين لمناعتها، مطمئنين بذلك إلى مقامهم بها أو في جوارها، فلما رأوها تتعرض للغزو تعاهدوا للدفاع عنها وذهبوا بجموعهم إلى واج روذ يصدون غزاتها، ثم لم تثنهم الهزيمة عن الاجتماع كرة أخرى والتحصن بالمدينة والدفاع عنها.
ولعل حماستهم في الدفاع عنها كانت تكلف المسلمين الضحايا الكثيرة لفتحها، لولا أن أرادت الأقدار أن يتم هذا الفتح بأيسر مما قدر له نعيم وأصحابه؛ فقد أساء سياوخش ملك الري لقاء الزينبي أبو الفرخان بعد وقعة واج روذ، وعنفه على ارتداده أمام المسلمين وعزله عن عمله، وأحفظ الزينبي ما حدث، فخرج من الري حين عرف مقدم نعيم لفتحها، فلقيه بظاهرها فتحدث إليه مسالما وحالفه على سياوخش، ونزل المسلمون في سفح جبل الري، فلقيهم حماتها وأنشبوا معهم قتالا لم ينته آخر النهار إلى ظفر أي الفريقين، فلما كان الليل قال الزينبي لنعيم: إن القوم كثير وأنت في قلة فابعث معي خيلا أدخل بهم مدينتهم من مدخل لا يشعرون به وناهدهم أنت، فإنهم إذا خرجوا إليك لم يثبتوا لك، واطمأن نعيم لقوله، فبعث معه من الليل خيلا عليهم ابن أخيه المنذر بن عمرو، فأدخلهم الزينبي المدينة دون أن يشعر بهم أحد، وبات نعيم يشاغل حماة الري يرميهم بالنبل والنشاب فشغلهم عما يدور داخل مدينتهم، فلما كان الفجر برزت خيل المسلمين بالمدينة وعلت أصوات الفرسان بالتكبير، فأيقن الفرس حين سمعوه أنهم أخذوا على غرة من ورائهم فانهزموا، فاتبعهم المسلمون يمعنون فيهم قتلا، ودخل نعيم المدينة، وانهزم سياوخش فلم يقف له أحد على أثر، واستفاء المسلمون من الري نحوا من فيء المدائن، وكتب نعيم إلى عمر بالفتح وبعث إليه بأخماس الفيء.
ما عسى أن يكون مصير الري بعد أن تم فتحها؟ أليس من أبنائها من يصالح المسلمين عليها؟ نعم! صالح نعيم الزينبي على أهل الري ونصبه مكان سياوخش مرزبانا عليهم بعد أن هدم قلاعهم وخرب حصونهم، وأمر ببناء مدينة جديدة بجوار مدينتهم العتيقة، بذلك سقط آل بهرام، وآل شرف الملك من قبل المسلمين إلى الزينبي الأمير وأبنائه، وبقيت الري مع ما أصابها مدينة عظيمة وثغرا من ثغور المسلمين في عهد بني أمية وبني العباس، على أن نجمها هوى من بعد ومنذ بنيت طهران على مقربة منها إلى شمالها الغربي، وإن بقيت أطلالها إلى اليوم بارزة للعيان تحدث عما كان لها حين عزها من جلال وعظمة.
وكان نصر المسلمين بالري حاسما؛ لذلك أسرعت المدن والأقاليم القريبة منها تطلب الصلح وتؤدي الجزية، فلما سار سويد بن مقرن بأمر عمر إلى قومس لم يقم له أحد فأخذها سلما، وعسكر بها وصالح أهلها، وكان أهل دنباوند قد صالحوا أخاه نعيما بعد انهزام الحلفاء عن الري وعود كل منهم إلى مقره.
ودنباوند مدينة قائمة على جبل قريب من الري، وكان أهلها قد دخلوا حصون الري للدفاع عنها، فلما فتحت المدينة أبوابها، وجلا حلفاؤها ومنهم أهل دنباوند مرتدين إلى منازلهم لم يكن أمام أهل دنباوند غير الصلح عقدوه على جزية مائتي ألف درهم يدفعونها كل سنة، على ألا يغار على أرضهم وألا يدخل عليهم بغير إذنهم ما وفوا بعهدهم، أما قومس فكورة كبيرة واسعة بها مدن وقرى ومزارع، تقع إلى الجنوب من جبل طبرستان ممتدة بين الري ونيسابور، وتفصل طبرستان بينها وبين بحر قزوين.
Página desconocida