وانضم القعقاع بقواته إلى سائر الجند، وأقام مع الناس ينتظر أمر النعمان بالهجوم، وكان اليوم يوم جمعة، وكان النعمان قد أمر الناس ألا يقاتلوا الفرس حتى تزول الشمس ثم يأذن لهم، وأدرك الفرس المسلمين قبيل الزوال، فرموهم بالنشاب فأفشوا فيهم الجراحات، فأشار قوم على النعمان في الحملة فلم يفعل، وقال له المغيرة بن شعبة: لو أن الأمر إلي علمت ما أصنع، وأجابه النعمان في سكون وتؤدة: «رويدا تر أمرك، وقد كنت تلي الأمر فتحسن، فلا يخذلنا الله ولا إياك! ونحن نرجو في المكث مثل الذي ترجو في الحث.»
وحان للشمس أن تزول، فركب النعمان برذونا له أحوى قريبا من الأرض؛ وجعل يمر على الرايات راية راية يشجعهم ويحرضهم ويحركهم بأحسن ما فيهم، يذكر أن الله أنجز لهم صدور وعده بنصرهم، فلم تبق إلا أعجازه وأكارعه، ويذكرهم ما مضى إذ كانوا أذلة، وما استقبلوا من هذا الأمر وهم أعزة، وأن عدوهم إنما يخاطر بأرضه في حين يخاطرون هم بدين الله ودينهم فلا يكن الفرس على دنياهم أحمى من المسلمين على دينهم، «فكل رجل منكم مسلط على ما يليه، فإذا قضيت أمري فاستعدوا، فإني مكبر ثلاثا، فإذا كبرت الأولى فليتهيأ من لم يكن تهيأ، وإذا كبرت الثانية فليشد عليه سلاحه وليتأهب للنهوض، وإذا كبرت الثالثة فإني حامل إن شاء الله فاحملوا معي، اللهم أعز دينك وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك.»
جعل النعمان يقول هذه العبارات ومثلها لكل راية مر بها، فلما فرغ من حث الناس وقضى إليهم أمره، رجع إلى موقفه وأعين الجند مشدودة إليه وهو معلم ببياض القباء والقلنسوة، فكبر الأولى والثانية والثالثة والمسلمون عطاش للحرب يريدون أن يطيروا إليها وأن يفنوا عدوهم فيها، وليس منهم أحد يريد أن يرجع إلى أهله حتى يقتل أو يظفر، وما لبث النعمان حين أتم تكبيراته أن اندفع واللواء في يده، فانقض على الفرس انقضاض العقاب على فريستها، وجعل يطيح بالرءوس ويجدل الفرسان، فإذا هم حوله صرعى يتخبطون في دمائهم، وشد المسلمون حوله، فكان كل منهم النعمان بطشا وبأسا، ورأى الفرس صدق المسلمين في حملتهم فشدوا كذلك عليهم، فالتقى الفريقان متصافحين بالسيوف، فلم يكن يسمع إلا وقع الحديد على الحديد، وإلا صيحات الأبطال وكلهم الحماسة المتقدة والشجاعة التي لا تعرف من الموت فرارا، وبلغ القتال من الشدة مبلغا لم يسمع السامعون بمثله في غير هذه الموقعة، وكثر القتل في الفرس لكثرة عددهم ولاستماتة المسلمين في قتالهم حتى تخضبت الأرض بدمائهم، واستحرت الحرب وانهمرت الدماء، فكان الناس والدواب تزلق عليها لكثرة ما تلطخ به أديم الأرض منها، وتحدرت الشمس إلى ناحية المغيب والنعمان على جواده واللواء في يده يهزه يمنة فتهوي بسيوف المسلمين رءوس الفرس يمينا، ويهزه يسرة فتهوي رءوسهم يسارا.
وبينا يشق طريقه في قلب العدو زلق جواده في الدماء فصرعه، وأراد الله أن يستجيب في هذه الساعة لدعائه، فيستشهد في سبيله، فأصابه سهم في خاصرته، ورآه أخوه نعيم هوى فسجاه بثوبه، وأخذ اللواء من يده ودفعه إلى حذيفة بن اليمان، فأقامه حذيفة مكان أخيه وأمره بإخفاء ما حدث حتى لا يتزعزع الناس، وسار باللواء إلى حيث كان النعمان فأقامه، وأقبل الليل والوطيس حام والمسلمون يدفعون عدوهم أمامهم ويندفعون في صدره يضعضعون روحه، وانتشر الظلام وقد أصاب الفرس الإعياء فانكشفوا وتراجعوا منهزمين، فإذا حسك الحديد وراءهم يقف تراجعهم، فيمعن المسلمون فيهم قتلا، فيردي ألوفهم وكأنهم غنم مصرعة، وأراد الناجون اتقاء الحسك فانحرفوا، فإذا من خلفهم خندق عميق أعماهم الخوف عنه وستره الظلام عنهم، فهووا فيه بخيولهم، فهلك منهم فيه خلق كثير قدره بعض المؤرخين بثمانين ألفا غير الذين قتلوا في المعركة وكانوا ثلاثين ألفا، وكذلك قضي على هذا الجيش اللجب الذي اجتمع من كل أرجاء فارس يريد أن يجلي المسلمين عنها، فإذا المسلمون يذيقونه الموت نكالا فلا يفلت منه إلا الشريد.
وكان الفيرزان فيمن فر يطلب النجاة بنفسه، فاندفع وحيدا شريدا يركض جواده نحو همذان يرجو الاحتماء بها، ورآه نعيم بن مقرن فدفع القعقاع بن عمرو في أثره، فأدركه القعقاع حين انتهى إلى ثنية همذان، إذ كانت دواب من الحمير والبغال تحمل العسل سائرة في الثنية بين الجبال، فسدت على القائد الهارب طريقه، فترجل يريد النجاة في الجبل، فاتبعه القعقاع وأدركه وقتله، وعرف المسلمون يومئذ ما حدث فقالوا: «إن لله جنودا من عسل.» فصارت مثلا، وسميت تلك الثنية من بعد: «ثنية العسل».
ومضى الفلال من جيش الفرس مشردين حتى بلغوا همذان، ولم يدعهم المسلمون يدخلونها آمنين، بل طاردوهم إليها وحصروهم فيها، وأقسموا لا يبرحونها حتى تفتح أبوابها، وعرف أميرها ما أصاب الفيرزان وجنوده: فبعث إلى المسلمين يستأمنهم ويصالحهم عليها، وصالحه القعقاع على أن يضمن لهم همذان ودستبى، وألا يؤتى المسلمون منهم، وأن يؤمنهم المسلمون فلا يغير عليهم مغير، بذلك أمن الناس وعاد كل هارب، وسكنوا إلى طمأنينة الحياة.
رجع القعقاع ومن معه من المسلمين فألقوا حذيفة دخل نهاوند بعد المعركة بجيشه واستولى على ما فيها من الأسلاب والغنائم، ودفعها إلى السائب بن الأقرع الذي عينه عمر على الأقباض، وقد بلغت الأنفال يومئذ مبلغا فاق كل ما توقعه المسلمون، فقد قسمها حذيفة بن اليمان في الفاتحين، ونقل ذوي النجدات، وأعطى من أرصدهم من الجند ليحفظوا ظهر المقاتلين حتى لا يؤتوا من خلفهم، كما أعطى من كان ردءا للمسلمين ومنسوبا إليهم مثل الذي أعطى لأهل المعركة، مع ذلك بلغ نفل الفارس من هؤلاء جميعا ستة آلاف ونقل الراجل ألفين.
هذا، ثم إن كسرى كان قد استودع صاحب المعبد الذي به بيت النار جواهر أعدها لنوائب الزمان ولم يكن المسلمون قد عثروا بها، وإنهم لفي جذلهم بما أفاء الله عليهم إذ أقبل صاحب بيت النار مستأمنا لنفسه ولمن شاء على أن يدل حذيفة على الذخيرة الثمينة، وأمنه حذيفة؛ فأخرج له سفطين مملوءين جوهرا ثمينا لا يقوم، ورآهما المسلمون وكانوا قد أترعوا مما نالهم من الفيء، فعفوا عنهما، ورأوا أن يجعلوهما لعمر خاصة، فلما اطمأن الناس إلى مقامهم وإلى فيئهم، حمل السائب بن الأقرع السفطين وخمس الفيء وسار إلى المدينة يبلغ عمر أنباء النصر ويدفع إليه هذه المغانم العظيمة.
بينا يجري كل ذلك بنهاوند كان عمر بالمدينة يتسقط أنباء المسلمين، وهو أشد ما يكون إشفاقا أن يبلغه منها ما لا يحب؛ لذلك لم يكن يذوق النوم إلا غرارا، ثم يقضي سائر ليله يستنصر الله لجنده، فلما كانت تلك الليلة التي قدر للقائهم، جعل يخرج ويتلمس الخبر، وقد ألقي في روعه أن الله نصر جنده وأنجز وعده، وكان حذيفة قد بعث طريف بن سهم ليسرع بالخبر إلى المدينة، فلما بلغها وسأله عمر ذكر له ما أنعم الله به على المسلمين من نصر وفتح وكتم عنه إلا ما سره، واغتبط عمر والمسلمون بما سمعوا، فرفعوا أكفهم إلى الله تضرعا وخشية، وهرعوا إلى المسجد فصلوا شكرا لله، ثم خرج عمر في جماعة من أصحابه وكله الشوق أن يقف على الجلية من الأمر، وأمعنوا في الطريق الذي يؤدي إلى فارس، فبصروا عن بعد براكب توسم فيه عثمان بن عفان أنه السائب بن الأقرع، فلما دنا منهم وسلم عليهم قال له عمر: ما وراءك! قال: البشرى والفتح، وسأل عمر: فما فعل النعمان؟ قال: زلت فرسه في دماء القوم فصرع فاستشهد، قال عمر وقد أفزعه النبأ وهزه: إنا لله وإنا إليه راجعون! ولم يتمالك أن بكى حتى نشج كأنما أصيب في بعض ولده أو في أعز عزيز لديه، فلما سكنت عنه ثورة الحزن سأل السائب عمن قتل من المسلمين فذكر له أعيان الناس وأشرافهم، ثم قال : وآخرون من أفناء الناس لا يعرفهم أمير المؤمنين، قال عمر، والحزن لا يزال آخذا بخناقه: وما ضرهم ألا يعرفهم عمر! لكن الله يعرفهم وقد أكرمهم بالشهادة! وما يصنعون بمعرفة عمر!
وانطلق القوم والسائب معهم، حتى إذا دخلوا المدينة أدخلوا خمس الفيء إلى المسجد وأمر عمر نفرا من أصحابه، منهم عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم، بالمبيت فيه، ليقسمه بين المسلمين متى أصبح.
Página desconocida