132

صدق يا أمير المؤمنين، قد آمنته!

عمر :

ويحك يا أنس؟ أنا أؤمن قاتل مجزأة والبراء؟ والله لتأتيني بمخرج أو لأعاقبنك!

أنس :

قلت له: لا بأس حتى تخبرني، وقلت له: لا بأس حتى تشربه.

وأقر الأحنف بن قيس ومن حوله كلام أنس، وذكروا جميعا أن أمير المؤمنين أمن الهرمزان، فنظر إليه عمر مغضبا وقال: «خدعتني! والله لا أنخدع إلا لمسلم!» وأسلم الهرمزان، وفرض له عمر ألفين، وأنزله المدينة.

ويروي البلاذري عن أنس بن مالك حديثا مسندا إلى مروان بن معاوية عن حميد عن أنس أنه قال: «حاصرنا تستر فنزل الهرمزان فكنت الذي أتيت به إلى عمر، بعث بي أبو موسى، فقال له عمر: تكلم، فقال: أكلام حي أم كلام ميت، فقال: تكلم لا بأس، فقال الهرمزان: كنا معشر العجم ما خلى الله بيننا وبينكم نقضيكم ونقتلكم، فلما كان الله معكم لم يكن لنا بكم يدان، فقال عمر: ما تقول يا أنس؟ قلت: تركت خلفي شوكة شديدة وعدوا كلبا؛ فإن قتلته يئس القوم من الحياة فكان أشد لشوكتهم، وإن استحييته طمع القوم في الحياة، قال عمر: يا أنس، سبحان الله؟ قاتل البراء بن مالك ومجزأة بن ثور السدوسي؟ قلت: فليس لك إلى قتله سبيل، قال: ولم؟ أعطاك؟ أصبت منه؟ قلت: لا! ولكنك قلت له: لا بأس، فقال: متى؟ لتجيئن معك بمن شهد وإلا بدأت بعقوبتك؟ فخرجت من عنده فإذا الزبير بن العوام قد حفظ الذي حفظت فشهد لي فخلى سبيل الهرمزان فأسلم ففرض له عمر.»

كان المغيرة بن شعبة يتولى ترجمة كلام الهرمزان إلى عمر وكلام عمر إلى الهرمزان، وكان لا يحذق الفارسية ما يحذقها زيد بن ثابت، فدعا عمر بزيد فجاء فتولى الترجمة، فلم يجد عمر في كلام الهرمزان جوابا على نقضه عهد المسلمين مرة بعد مرة، عند ذلك وجه عمر القول إلى الوفد الذين جاءوا من تستر فسألهم: لعل المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى فلهذا ينتقضون بكم، قال رجال الوفد: ما نعلم إلا وفاء وحسن ملكة، قال عمر: فما بالهم ينتقضون؟ وتتابع رجال الوفد يحاول كل منهم أن يجد لهذا الانتقاض علة مع وفاء المسلمين لهم، فلم يجد عمر في كلام أحد منهم شيئا يشفيه ويبصره، عند ذلك قال الأحنف بن قيس «يا أمير المؤمنين أخبرك، إنك نهيتنا عن الانسياح في البلاد، وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا، وإن ملك فارس حي بين أظهرهم وإنهم لا يزالون يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم، فلم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يخرج أحدهما صاحبه، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئا بعد شيء إلا بانبعاثهم وغدرهم، وملكهم هو الذي يحرضهم ويبعثهم ولم يزل هذا دأبهم حتى تأذن لنا بالانسياح فنسيح في بلادهم ونزيل ملكهم ونخرجه من مملكته وعز أمته، هنالك ينقطع رجاء أهل فارس ويسكن جأشهم.»

استمع عمر إلى الأحنف مليا، وأطرق إطراقة طويلة، ثم قال له: «صدقتني والله وشرحت لي الأمر عن حقه.» وعرف الهرمزان حديث الأحنف فأقره، فازداد عمر ثقة به واطمئنانا له، ثم إن الأنباء جاءت باجتماع أهل نهاوند لقتال المسلمين، فلم يبق لدى أمير المؤمنين في صدق هذا الحديث ريب، فخرج من تردده، ورأى أن الوقوف بالفتح في حدود العراق لم يعد مستطاعا، وأن الحوادث تحمله طائعا أو كارها على العدول عن هذه السياسة، وتدفعه للتوسع في بلاد الفرس حتى يجلي يزدجرد عن أرضها جميعا؛ لذلك أذن أن ينساح المسلمون في بلاد فارس وعبأ الألوية لقتال أهلها.

وأقام الهرمزان بالمدينة وحسن إسلامه، وصار لا يفارق عمر ولا يضن عليه بالمشورة، فلما قتل عمر اتهم الهرمزان بالممالأة عليه وتدبير المؤامرة لاغتياله، وقد اقتنع عبيد الله بن عمر بذلك، فقتله وقتل جفينة معه، وسنفصل ذلك من بعد ونتحدث عن آثاره.

Página desconocida