الأشخاص
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الأشخاص
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
فران البندقية
فران البندقية
مأساة ذات خمسة فصول
تأليف
إلياس فياض
الأشخاص
بتروتاسكا:
فران عاشق آنلا.
ماركو:
والد بترو.
لورنسو باربو:
أحد أعضاء مجلس العشرة.
بوندميني:
رئيس أعضاء مجلس العشرة.
جواني:
رئيس خدم بيت لورنسو باربو.
فيلنشي:
صاحب الخمارة.
برتلو:
قندلفت الكنيسة.
ويدو:
نقاش فلورنسي.
كواردو:
إشراف.
ليوثي:
إشراف.
سجان:
إشراف.
الدوج:
إشراف.
حاجب المجلس:
إشراف.
نوتي:
امرأة لورنسو باربو.
كليمنسا:
خادمتها.
آنلا:
أم كليمنسا.
مرتي.
سيدتان من الشعب.
الحادثة وقعت في البندقية من أعمال إيطاليا.
الفصل الأول
(ميدان في البندقية، إلى اليمين خط أول قصر لورنسو باربو، شباك يطل على الملعب، وباب أمامه مصباح منار، في الخط الثالث كنيسة، إلى الشمال خط أول خمارة على بابها لوحة مكتوب فيها اسمها في مؤخرة الملعب قناة الماء.) (عند فتح الستار ظلام دامس ينيره المصباح المعلق على باب القصر إلى اليمين، تصدح الموسيقى بلحن منخفض.)
المنظر الأول (تمثيل بدون كلام مصحوب بالموسيقى.) (يدخل لورنسو باربو من الشمال من الخط الثاني، وينظر إلى بيته، ثم يتوارى وراءه، وإذ ينفتح باب البيت، ويخرج منه رجل مقنع يشير إلى الداخل إشارة الوداع، ويمشي نحو الشمال، فلما يتوسط الملعب، يخرج باربو من مخبئه ويطعنه بسكين في صدره، فيقع قتيلا، فينحني عليه باربو؛ ليتأكد موته ثم يقترب من الشاطئ، ويصفر فيأتي النوتي بقارب فيركب به، ويذهب، ويكون قد وقع منه قراب الخنجر على الأرض، ويبقى الخنجر مغروزا في صدر القتيل.)
المنظر الثاني
بترو وحده (يسمع صوت بترو يغني من داخل الكوليس، ثم يظهر بلباس فران وفي يده سلة فيها أرغفة، فيتقدم جهة القصر فيعثر بالقراب فيأخذه، ويضعه في السلة، ثم ينظر إلى البيت مليا وينشد):
بترو :
سلام أيها القصر الفخيم
سلام فتي تساوره الهموم
أتيت إليك مشتكيا غرامي
وليس سواك لي منه غريم
أتراها لا تأتي قبل طلوع النهار؟ مسكينة آنلا، إن وقتها ليس لها بل لسيدتها. أف من الخدمة، ما أصعبها! على أنني قد مللت هذه الحياة فلا نستطيع أن نجتمع إلا تحت ستار الظلام؛ كأنما نحن لصوص نخاف أن يرانا أحد، ولا بد لي من إقناعها بتقريب ميعاد الزواج؛ فترتاح هي من هذه الخدمة، وأرتاح أنا من هذا العذاب، ها هي.
المنظر الثالث
بترو - آنلا - ألويزو قتيلا
بترو (ينشد) :
يا من هواها بقلبي ليس ينصرف
عطفا على مغرم أودى به الشغف
إن كان قلبك صخرا في قساوته
فإن حالي عليها الصخر ينعطف
آنلا :
أحسنت يا حبيبي بترو، بمجيئك قبل الميعاد، ولو تأخرت قليلا لضاع كل غنائك سدى.
بترو :
ولماذا؟
آنلا :
لأسباب كثيرة؛ إنه لم يغمض لي جفن طول الليل.
بترو :
لعل بك ألما، فإني أراك مصفرة الوجه.
آنلا :
كلا، ولكني اضطررت أن أسهر من أجل سيدتي؛ فإنها لم تكن تحب أن تنام.
بترو :
إنها لمعيشة صعبة يا حبيبتي، وأمر الخلاص منها في يدك أنت، فقد قلت لك مرارا إن أبي راض عن زواجي بك، ومتي صرت امرأتي فلا تجبرين بعدها على السهر من أجل أحد، بل تنامين ساعة ما تريدين.
آنلا :
مسكينة سيدتي، إنها طيبة القلب، وتحبني كثيرا، فلا أقل من أن أتعب قليلا من أجلها، أعطني السلة واذهب الآن؛ فإني في حاجة إلى الرقاد.
بترو :
رويدك قليلا. إني أريد أن أقول لك ...
آنلا :
تريد أن تقول لي أنك تحبني كثيرا، ولا تفتكر إلا بي. هذا درس حفظته غيبا؛ لأنك أعدته علي مليون مرة.
بترو :
ولكن لو كنت أنت تقولين لي ذلك مئة مليون مرة، لما شعبت من تكراره.
آنلا :
ألم أقل لك مرارا أني أحبك كما تحبني؟
بترو :
القول سهل، ولكن ...
آنلا :
ولكن ماذا؟ (بتعنيف.)
بترو :
لا شيء ... لا تتكدري مني، إنما أريد أن أقول إن لكل شيء نهاية، ونهاية الحب الزواج، وبما أن والدي موافق على زواجنا فأود التعجيل به؛ فقد سئمت حياة التخفي هذه؛ إذ أضطر أن آتي تحت ستار الليل كاللص؛ لكي أسرق نظرة منك. إن دوام ذلك لا يحتمل، وأنا من طبعي أحب الحرية والصراحة، فقولي إنك قابلة بي، واهجري هذا القصر الكبير، وتعالي إلي؛ إن القصور جميلة ولكن ليس لنا نحن الفقراء.
آنلا :
إنك مخطئ يا بترو، فليس لي ما أشكوه من خدمتي في هذا القصر، وأنا قابلة بك كما سبق مني الوعد إليك، على أنه يجب أن تصبر إلى ما بعد عيد القديسة مريم؛ فإن سيدتي قد وعدتني بهدايا كثيرة و...
بترو :
إن المال والهدايا تغير القلوب، وتفسد الأخلاق، ولكني لا أصدق ما تقولين بل أنا أعلم من الذي يضع في نفسك هذه الآمال.
آنلا :
من؟ لا أحد إنما هو حبي لك الذي يطمعني بكل ذلك لأزيد سرورك بي.
بترو :
دعينا من هذا الآن.
آنلا :
بل أريد أن أعرف من تعني بهذا القول؟ ومن هو هذا الذي يضع بنفسي هذه الآمال؟
بترو :
لا تلجئيني لأن أعيد عليك ما قلته لك ذلك اليوم.
آنلا :
إنك يا بترو لسيئ الظن.
بترو :
لست بسيئ الظن، ولكني واثق كل الثقة بأن في هذه الليلة قد دخل رجل إلى القصر سرا، فإذا لم يكن من أجلك أنت، فمن أجل من؟
آنلا :
إنك واهم، وتظن الخيالات والأشباح أشخاصا حقيقية، أنت لا تستحق محبتي؛ لأن الذي يحبني ينبغي عليه ألا يشك بي، هل فهمت؟
بترو :
بل أنا أحبك، وأثق بك، ولا أعيش إلا لك يا آنلا، وكل ما أرجوه أن يعجل يوم ...
آنلا (تقاطعه، إذ تنظر إلى السلة فترى القراب) :
ما هذا؟
بترو :
هذا قراب خنجر وجدته في الطريق.
آنلا :
إنه لثمين، وبديع النقش.
بترو :
إذا راق لك فإني مهديك إياه.
آنلا :
لا، وأشكر لك؛ فإني لا أحب الهدايا التي تجرح.
بترو :
إذن هاته فإني صانع له نصلا ينفعني عند الحاجة ولا يضطرني أن أطعن به مرتين.
آنلا :
ما مرادك من هذا القول؟
بترو :
أريد أني إذا رأيت شبحا يتردد حول هذا القصر أغرزه في صدره.
آنلا :
أف لك، ما هذه الأفكار التي لا تنزع منك؟
بترو :
سترين.
آنلا :
لا تكن رديئا يا بترو، بل كن طيب القلب نظيري، أستودعك الله الآن؛ فإن الفجر أوشك أن يلوح.
بترو :
إلى الغد.
آنلا :
إلى الغد أيها الحبيب (تدخل القصر حاملة سبت الخبز، ويبدو النهار شيئا فشيئا، يبقى بترو ناظرا إلى الباب الذي دخلت منه) .
بترو :
لا يمكن أن تكون تغيرت عن ودادي، بل هي لا تزال تحبني، ولا بد أن تكون ظنوني في غير محلها، (يذهب فيعثر بالقتيل)
إيه يا صاح، ألم تجد فراشا ألين من هذا؟ (لذاته)
إنه سكران بلا شك (له) ، انهض يا رجل. (يهزه بيده ثم يرفع يده فإذا هي ملطخة بالدم)
إلهي هذا دم! إنه ليس بسكران بل قتيل، (يرفع القناع عن وجه القتيل)
آه، هذا هو الكونت الشريف ألويزو، هذا عدوي اللدود هو بعينه، (يلتفت نحو القصر)
آه يا شقية أتنكرين بعد الآن؟ (للقتيل)
أيها الظالم الغشوم، لقد انتقم الله لي منك، إنه لم يكفك ما فعلته بشقيقتي المسكينة، فأردت أن تسلب مني خطيبتي أيضا، فذق الآن جزاء ما جنته يداك، ولكن دمك هذا هيهات أن يغسل العار الذي ألحقته بي وبوالدي، (يلمسه مرة ثانية)
إنه مجلد كتمثال من رخام. (نحو القصر)
آه آنلا آنلا، ماذا صنعت بي؟
المنظر الرابع
فيلنشي يخرج من الخمارة - بترو
فيلنشي :
من تخاطب بهذا الصوت المرتفع؟ (ينظر القتيل)
ماذا هل ظفرت به أخيرا؟
بترو :
أهذا أنت يا فيلنشي؟ انظر ألم أقل لك إن آخرة هذا الظلوم ستكون على ما ترى؟
فيلنشي :
نعم نعم، ولكن اهرب حالا ابتعد عن هذا المكان فإنك ملطخ بدمه.
بترو :
الحق معك، فإن الناس إذا رأوني على هذه الحالة يحسبونني القاتل.
فلينشي :
هو ما تقول يا بترو، فالتمس الفرار في الحال، فلا يمضي قليل حتى يأتي الناس للصلاة، وتمتلئ الساحة بالرجال.
بترو :
أصبت، ولكن من تراه القاتل؟
فلينشي :
إذا كنت أنت لا تعرف القاتل، فكيف تريد أن أعرفه أنا؟ (لذاته)
يريد أن يخفي علي فعلته، ولكن حيلته لا تنطلي علي.
بترو :
بماذا تحدث نفسك؟
فيلنشي :
بأنك لا شك مجنون؛ لبقائك هنا (يسمع خطوات أناس قادمين)
هيا تعال معي؛ فإني أرى قوما قادمين (يقوده بيده، ويدخلان الحانة معا) .
المنظر الخامس
ألويزو قتيلا - القندلفت
القندلفت (يدخل من الشمال متجها نحو الكنيسة فيعثر بالجثة، ويقع فوقها) :
من هنا؟ قتيل! آه هذا السنيور ألويزو، قد ذهب لملاقاة ربه، من الأسف أنه ليس من أهل هذا الحي؛ وإلا لما حرمت كنيستنا فوائد الاحتفال بالصلاة عليه (يتجه نحو الكنيسة وهو يتمتم صلاة، تدخل امرأتان من الشعب من الجهة المقابلة) .
المنظر السادس
القندلفت - المرأتان - ألويزو
امرأة أولى :
لقد تأخرت هذا الصباح عن فتح الكنيسة يا برتلو.
القندلفت :
صليا صليا من أجل هذا الشريف الذي سيمثل اليوم أمام الديان.
امرأة ثانية :
مسكين.
المرأة الأولى :
هذا السنيور ألويزو جورو الشاب الجميل، فاحمله معك يا برتلو إلى الكنيسة.
برتلو :
لا يا ابنتي، إنه غير تابع لكنيستنا؛ لأنه ليس من أهل هذا الحي، وفوق ذلك ربما تقع علي الظنون بسببه (يدخل الكنيسة ووراءه المرأتان) .
المنظر السابع
ماركو - فيلنشي - ثم مراكبي - ثم رجل وامرأة من الشعب - ثم القندلفت
فيلنشي (على باب الخمارة) :
ارجع يا عزيزي ماركو، ووفر عنك هذا المشهد المريع، لقد قلت لك إنه هو بعينه فقد رأيته بنفسي.
ماركو (يدفع فيلنشي عنه) :
قلت لك إني أريد أن أراه.
فيلنشي :
لم أر أكثر عنادا منك، ومن ابنك.
ماركو :
أريد أن أراه وجها لوجه (يدنو من الجثة)
آه أيها الشريف، المدل بحسنه المعجب بمقامه، ها قد وقعت أخيرا، وانتقم الله لي منك.
فيلنشي :
إنه مجنون كولده.
ماركو :
ماذا تقول عن ولدي؟
فيلنشي :
أقول إنكما بلا عقل؛ لأن تصرفكما هذا يبعث عليكما الظنون، ويوقعكما في يد العدالة.
ماركو :
أية عدالة؟ إن العدالة قد تمت اليوم في هذا الغشوم، وبضربة واحدة قد دفعت لي قيمة كل الإهانات التي قد ألحقها بي.
فيلنشي :
اذهب اذهب إذا كنت تحبني، والزم بيتك، وحافظ على ولدك.
ماركو :
ولدي؟ وأي شأن لولدي في هذه المسألة؟!
القندلفت (يخرج من الكنيسة) :
إن ولدك لا يخاف الله، فهو الذي قتل هذا الشريف، صحيح أنه غير تابع لكنيستنا، ولكنه شريف على كل حال، وذو عائلة كريمة،كثيرا ما أحسنت إلى الكنائس.
ماركو :
أرى أنكم جميعكم مجانين هذا الصباح؛ فإن ابني هناك في فرنه، يشتغل طول الليل.
القندلفت :
نعم نعم يشتغل انظر ما أحسن شغله! (مشيرا إلى الجثة.)
امرأة أولى :
إنه قتله غيرة منه على آنلا التي تخدم في هذا القصر.
ماركو :
أية غيرة؟ وأية آنلا؟ تعالوا انظروا بترو في فرنه (يطل من الكوليس، ثم يرجع خائفا) .
فيلنشي :
مسكين هذا الوالد الشيخ؛ فإنه سيكون سببا في توجيه التهمة إلى ابنه.
ماركو (يدنو من فيلنشي همسا) :
الفرن مقفل، وبترو ليس هناك، فإياك أن تبدر منك بادرة بهذا الخصوص أمام أحد.
فيلنشي :
لا تخف أيها الصديق، فإني لا أقول شيئا ولكني نصحتك فلم تسمع.
ماركو :
تعال تعال معي، آه يا ربي إذا كان ما يقال صحيحا فما أشد شقائي! (يخرج بيأس مع فيلنشي.) (يدخل بترو بسرعة، ويقرع باب القصر فينفر الموجودون خوفا منه وهم يصيحون: القاتل، القاتل.) (تغيير منظر بسرعة.)
المنظر الثامن
بترو - آنلا (غرفة في قصر لورنسو باربو، لها بابان من كل جهة في الخط الأول، نافذة على شمال الملعب.)
آنلا (تفتح الباب، ويدخل بترو مذعورا غضوبا) :
ماذا؟ أهذا أنت يا بترو؟!
بترو :
نعم.
آنلا :
أراك مضطربا أصفر الوجه فيا الله، ماذا جرى لك؟
بترو :
ما جرى لي؟! اسمعي ما جرى. إن الناس في الخارج يشكونني بأنني قتلت أحد الشرفاء، وهذا الشريف القتيل ... هل تعلمين من هو يا آنلا؟
آنلا :
كيف تريد أن أعرف ذلك؟
بترو (بهيئة غيظ وتهديد) :
إنه ألويزو جورو، هل عرفته الآن؟
آنلا :
ماذا تقول؟ الشريف ألويزو؟ آه يا مسكين ماذا فعلت.
بترو :
أتستطيعين أن تقولي الآن أني كنت واهما وأن عيني كانت ترى الأشباح، والخيالات أشخاصا حقيقية؟ فما عليك إلا أن تجتازي هذه العتبة؛ لتتأكدي بعينيك صحة ما أقول.
آنلا :
ويلاه.
بترو :
إيه لا تجزعي فإن الشرفاء كثيرون، وإذا كنت قد فقدت واحدا فستجدين آحادا غيره.
آنلا :
آه يا قاسي، إنك لتقتلني بهذا الكلام.
بترو :
إن هذه هي المرة الأخيرة ...
آنلا :
بربك ارحمني، ولا ترفع صوتك؛ لئلا تسمعك سيدتي.
بترو :
ماذا تهمني سيدتك، وأنت وكل العالم؟ أني أقول إنك خائنة ناكثة العهد، وأؤيد قولي بالبرهان.
آنلا :
بل أنت مخطئ يا بترو، آه يا ربي، أي أمر جنيت اليوم؟!
بترو :
أنا لست بالجاني ولكن غيري الذي انتقم لي وقد قلت لك مرارا إن البغي مصرعه وخيم. (يشير إلى النافذة)
ها هو هناك ملقى بلا حراك، فاذهبي إذا شئت إلى الكنيسة، وصلي لأجل نفسه الخاطئة.
آنلا :
وأنت ماذا تفعل؟
بترو :
ماذا أفعل؟ لا أدري فإن الجماهير الواقفة خارجا تتهمني بقتله؛ لما يعلمون من سابق حقدي عليه، فاسعي إذا قدرت وأقنعيهم بأني لست القاتل، إنهم إذا لم يجدوا الجاني فقد قضي علي وهذا مما يسرك (يهم بالذهاب) .
آنلا :
قف يا بترو، اختبئ هنا قليلا (تشير إلى الباب) .
بترو :
ولماذا أختبئ؟ إن القانون لا يعاقب على الفكر بل على العمل، وأنا وإن كنت أتمنى لألويزو القتل، فلست بالقاتل؛ ولذلك فإني لا أخاف.
آنلا :
قلت لك ابق هنا فإنك في بيت الشريف لورنسو باربو أحد أعضاء مجلس العشرة، فلا يمكن ليد أن تنالك بسوء ما دمت هنا (يقرع الجرس من الداخل)
آه هذه مولاتي إياك أن تلفظ أمامها اسم القتيل.
بترو :
ولماذا؟
آنلا :
كيف لماذا، ألا تعلم أنه ... (لذاتها)
آه، يا إلهي، كيف يمكنني أن أصرح له بهذا الأمر؟
بترو :
ما شأن سيدتك وهذا القتيل؟ ... قولي فإني أريد أن أعرف ذلك.
آنلا :
اخفض صوتك، ويلاه إنك لا تعلم أنه ... ابن عمها، اختبئ هناك ولا تأت بحركة فقد جاءت مولاتي (يدخل بترو وراء الباب)
ويلاه ماذا أقول لها الآن؟
المنظر التاسع
آنلا - كليمنسا
كليمنسا :
ما هذه الجلبة من الخارج؟ أف إني لم أستطع أن ارتاح دقيقة في هذا الليل، فإذا كانوا قد وجدوا قتيلا فليحملوه إلى بيته، ولا يزعجوا الناس بأصواتهم، ألم تقولي لجواني أن يخرج ويأمرهم بالابتعاد من هنا؟ (تجلس.)
آنلا :
لقد أرسلته يا سيدتي، حسب أمرك ، على أن لي رجاء أريد أن أقوله لك.
كليمنسا :
دعيني مما تريدين قوله، فإني لا أحب أن أسمع الآن شيئا مكدرا، وستقولين ذلك لمولاك عند عودته من البرية.
آنلا :
ولكن الأمر عظيم الأهمية يا سيدتي، إنك ما زلت شديدة العطف والحنو علي.
كليمنسا :
ما هو هذا الأمر يا آنلا؟
آنلا :
إن شابا مسكينا يتهمه الناس بأنه القاتل، وهو بريء، وقد لجأ إلى هنا فخبأته.
المنظر العاشر
مذكوران - جواني
جواني :
لقد نفذت أمرك يا مولاتي، وقد نقلوا القتيل إلى بيته.
كليمنسا :
حسنا اذهب.
جواني :
ولكن يوجد بالباب ...
كليمنسا :
من؟
جواني :
حاجب مجلس العشرة، وهو يطلب شخصا مختبئا هنا.
كليمنسا :
أرأيت يا آنلا؟
آنلا :
آه يا مولاتي، أستحلفك بالله أن تردي طلبه.
كليمنسا لجواني :
وبماذا يشكون هذا الرجل؟
جواني :
بأنه قاتل السنيور ...
آنلا :
كلا هذا غير صحيح، رحماك يا سيدتي خلصيه، فإنه بريء مما يعزى إليه.
كليمنسا :
أتقولين إنه بريء. فلو كان ذلك صحيحا لما لجأ إلينا لنحميه.
آنلا :
بل أنا على ثقة من براءته يا مولاتي، فقد اجتمعت به منذ هنيهة وكلمته، ولا يمكن أن يكون هو الجاني.
كليمنسا :
آنلا، إني صانعة كما تريدين، اذهب يا جواني، وقل للرسول إن زوجي متغيب عن القصر، فليرجع من حيث جاء الآن، وإننا إذا تحققنا جريمة اللاجئ إلينا فسنسلمه إلى العدالة؛ لتقتص منه (يذهب جواني) .
آنلا :
شكرا لك يا سيدتي.
كليمنسا :
آنلا آنلا، إنك كثيرة الطيش، وأراك لا تحافظين على حرمة البيت الذي تخدمينه، ولا أدري إذا كنت أقدر أن أبقيك بخدمتي بعد اليوم، إني لم أرد تسليم هذا الرجل إلى الحكومة، مع أنه قد يكون القاتل لذلك الرجل القتيل وربما قتله ليسلبه ما معه؛ إذ لا غاية له غير هذه.
آنلا :
مولاتي أقسم لك بالله، إنه شاب عاقل، وقد وعدني أن يتزوج بي، وأنت تعرفينه، فهو بترو الفران.
كليمنسا :
أفران هو! إن مهنته حقيرة جدا، فهو غير كفء لك، مع ذلك إذا أحب أن يترك مهنته، فإني سأدخله في خدمة ابن عمي ألويزو ، وسأكلمه بشأنه في الغد.
آنلا :
آه. لا يا سيدتي ...
كليمنسا :
ما لك تصيحين هكذا؟!
آنلا :
عفوا يا مولاتي فإن الرجل الذي (لذاتها)
إلهي لا أعلم كيف أقول لها هذا؟!
كليمنسا :
الرجل الذي ... ما لك لا تتمين كلامك؟ ادعي لي الفران فإني أريد أن أراه.
آنلا :
أمرك يا سيدتي (لذاتها)
آه يا ربي أنقذه من هذه الورطة (بصوت عال أمام الباب)
تعال يا بترو، فإن مولاتي كريمة، وطيبة القلب، فهي تحميك في القصر حتى المساء (همسا)
لا تفه أمامها باسم القتيل (يدخل بترو) .
المنظر الحادي عشر
مذكوران - بترو
كليمنسا :
تقدم يا هذا، إن آنلا تؤكد أنك بريء مما يتهمك الناس.
بترو :
أجل يا سيدتي إني بريء.
كليمنسا :
أحب تصديقك، فقل لي: هل كان بينك وبين القتيل عداوة من قبل؟
بترو :
نعم يا سيدتي ولكن ... (تنظر إليه آنلا فيقف عن الكلام.)
كليمنسا :
حسنا إنك في حاجة إلى حماية رجل عظيم، وإني أعرف شريفا يستطيع أن يستخدمك عنده، ولكن الذي فهمته من آنلا أنك ربما لا ترضي أن تكون في خدمة السنيور ألويزو جورو.
بترو :
منذهلا ألويزو جورو! ... ولكن ألا تعلمين يا سيدتي، أنه هو ...؟
كليمنسا :
أنا عالمة أنه أساء إليك فيما مضى، وأنك تبطن الحقد عليه، ولكن هذه فرصة موافقة لمحو هذه الإساءة فإني سأرسل وراءه، وأوصيه بك فيأخذك إلى خدمته ويحميك.
آنلا (بصوت منخفض لبترو) :
اقبل بما تعرضه عليك؛ لتكسب الوقت.
بترو :
كلا يا سيدتي لا أستطيع أن أقبل بما تعرضينه علي (حركة استياء من آنلا)
فإني وإن تكن مهنتي حقيرة، فأنا أحبها، وأفضلها على سواها؛ لأني قد ورثتها عن آبائي وأجدادي وسأحافظ عليها طول عمري.
آنلا (بصوت منخفض لبترو) :
أهكذا تجيب؟!
كليمنسا :
إنك وإن تكن فرانا فتعجبني منك حرية ضميرك، على أني أظن أن الخادم في بيت أحد الشرفاء، يربح أكثر من فران، مع ذلك فاقبل الآن بما قلته لك لتدرأ عنك الريب، ومتي عاد زوجي فهو قادر على إنقاذك؛ لأنه أحد أعضاء مجلس العشرة يمكنك أن تذهب الآن، وأنا أعدك بأن لا يصل إليك أحد بأذى ما دمت في هذا القصر.
بترو :
أسأل الله أن يكافئك عني أيتها السيدة (يخرج) .
آنلا :
لقد ارتاح بالي الآن.
المنظر الثاني عشر
مرتي - مذكورون
مرتي :
هل علمت يا كليمنسا بما جرى؟ آه يا ربي، إن فرائصي لا تزال ترتعد من هول ما رأيت.
كليمنسا :
ماذا جرى يا والدتي؟
آنلا :
ويلاه.
مرتي :
كيف! ألم يبلغك الخبر؟ إن فينسيسا كلها تضج به الآن، ألم تعلمي من وجدوه قتيلا هناك؟
كليمنسا :
بلى، إنه رجل من الناس ...
مرتي :
رجل! ... بل هو أحد الشرفاء، أحد أصدقائكم.
كليمنسا :
من هو بربك قولي؟
مرتي :
ألويزو جورو.
كليمنسا :
ماذا تقولين يا والدتي؟
مرتي :
لقد شاهدته بعيني.
كليمنسا :
ألويزو؟ يا إلهي أيمكن ذلك؟
مرتي :
نعم، وإن مجلس العشرة قد أرسل الجنود للتفتيش عن القاتل في كل ناحية.
كليمنسا (لآنلا) :
آه يا شقية، لقد كنت عارفة بذلك، وقد طلبت مني أن أحمي قاتله.
مرتي :
كيف؟ ومن قاتله؟
آنلا :
أقسم لك بالله يا سيدتي، إنه بريء.
مرتي :
لا أحد بريء هنا، أين هو القاتل؟ فيجب أن يسلم إلى الجنود.
آنلا :
آه يا مولاتي، اشفقي علي.
كليمنسا :
ولكن قولي يا والدتي، ألم يبق من أمل في نجاته؟
مرتي :
أي أمل؟! لقد رأيت بنفسي الخنجر مغروزا في قلبه.
كليمنسا :
آه يا ربي، من أين حلت بنا هذه المصيبة؟ (تفتكر.)
مرتي :
لقد أتيت هذا الصباح باكرا إلى الكنيسة فرأيت الناس متجمهرين، يتحدثون بهذه الجناية (بصوت منخفض)
قولي لي ألم يكن هنا هذا الليل؟ أنا عالمة أنه يتردد على هذا القصر كثيرا لا سيما في غياب لورنسو.
كليمنسا :
آه يا والدتي، ارحميني بالله.
المنظر الثالث عشر
مذكورون - جواني
جواني :
مولاتي، إن رسول مجلس العشرة في الباب يلتمس مقابلتك.
كليمنسا :
إن زوجي لم يأت بعد.
مرتي :
أدخله علينا في الحال (يخرج جواني) .
المنظر الرابع عشر
مذكورون - رسول المجلس
الرسول :
إني أتأسف يا سيدتي لإزعاجك في هذا الوقت، غير أن للضرورة أحكاما، ولا بد لي من إتمام ما تتطلبه وظيفتي .
آنلا (لذاتها) :
قطع الأمل.
الرسول :
يقال إن القاتل قد لجأ إلى هذا القصر، وأرجو أن سيدتي لا تحمي أثيما نظيره.
كليمنسا :
أأنت متأكد أن هذا الرجل هو القاتل؟
الرسول :
لا شيء مؤكد حتى الآن، غير أن جميع الناس يشكونه.
كليمنسا :
لا أستطيع رفض طلبك، فأحضري يا آنلا هذا الرجل.
المنظر الخامس عشر
مذكورون - بترو
بترو :
ها أنا ذا.
كليمنسا :
إني أقسمت بشرفي أن أحمي رجلا بريئا، ولكنك لست ببريء.
بترو :
لا تحكمي علي يا سيدتي قبل أن ينظر القضاة في دعواي، فقد قلت لك إني بريء، ولم أكذب.
مرتي، وكليمنسا، وجواني :
إيه؟
بترو :
كلا إني لم أكذب أيها السادة، وإليكم ما توقع لي بالحرف الواحد؛ إنني بينما كنت خارجا من فرني هذا الصباح، عثرت بهذا الشريف ملقى على الأرض، فظننته لأول وهلة سكران؛ لأنه كان ملقى على مقربة من الحانة، فأردت أن أساعده على النهوض، فوجدته جثة باردة، ولما أعدت يدي إذا بها ملطخة بالدم فنظرت إليه مليا فعرفته، ولم أتأسف عليه كثيرا؛ لأني لم أكن أحبه نظير غيري (ناظرا إلى آنلا)،
غير أنه في وقت كهذا تذهب الضغائن والأحقاد؛ ولذلك لو كان في إمكاني إنقاذه لفعلت، هذه حكايتي وإني متأكد بأن مجلس العشرة سيبرئني؛ لأن قضاته مشهورون بالعدل.
الرسول :
استعد يا هذا للمثول أمام المجلس.
آنلا (راكعة أمام كليمنسا) :
بالله يا سيدتي، أن تشفقي عليه.
بترو (ينهضها مغضبا) :
ماذا تعملين ...؟ (للرسول)
هيا يا سيدي.
ماركو (من الداخل) :
دعوني أدخل دعوني أدخل؛ فإني أخدم هذا البيت منذ ستين سنة.
المنظر السادس عشر
مذكورون - ماركو
بترو :
أبي أبي ماذا أتيت تفعل هنا؟ لا تخف يا والدي؛ فإني بريء.
ماركو (لكليمنسا) :
أنت يا سيدتي تمثلين الآن زوجك الشريف الغائب، فأرجوك أن تحمي ولدي؛ فإنه بريء، فلا تدعيه يذهب مع الجند؛ لأنك تعلمين أن من يدخل الحبس لا يخرج منه إلا فيما ندر.
بترو :
اسكت يا أبي، بالله؛ إن السيدة لا تقدر أن ترفض طلب المجلس.
ماركو :
بلى، تقدر، لا يستطيع أحد أن يرد رجلا لجأ إلى بيته، وطلب حمايته.
الرسول :
هيا بنا يا هذا.
ماركو :
صبرا بالله. سيدتي، أرجوك بل أتضرع إليك أن تأمري هذا الرجل أن يذهب، وأن تنظري عودة زوجك، آه يا سيدتي، إنك لا تدركين مقدار محبة الأب لولده، فليتك تضعين نفسك موضعي؛ لتدركي كم أتعذب، وأنت طيبة القلب يا سيدتي، لا يمكن أن تسمحي بأن يكسر قلب شيخ نظيري.
كليمنسا :
اذهب أيها الشيخ، اذهب، فإن كان ابنك بريئا كما تزعم، فالمجلس سيطلق سراحه عاجلا، أو آجلا، أما أنا فلا أستطيع أن أفعل لأجله شيئا؛ إنك لا تعلم الرجل الذي قتل اليوم.
ماركو :
كيف لا أعلم؟! بل من يستطيع معرفته أكثر مني؟ آه، يجب أن يكون هذا القتيل الشريف عزيزا على بعض الناس في هذا القصر ...
آنلا :
بربك اسكت.
ماركو :
لا أسكت حتى ولو حكم علي بالحبس مع ولدي، فلا بد من التصريح (بقوة)
إنكم أيها الشرفاء منافقون، فما أقل عقلي أن أذكر أمامكم محبة الآباء للأبناء؛ فأنتم لا أب لكم إلا المال، ولا ولد إلا محبة الذات، قد جردكم الله من كل عاطفة كريمة، ويحكم، أيلجأ إليكم رجل بريء فتسلمونه (بزعمكم) إلى العدالة؟! إن العدالة لفظ لا معنى لها عندكم.
بترو :
اسكت يا أبي اسكت، أتريد أن يحكم عليك أنت أيضا؟
الرسول :
هيا بنا.
ماركو :
فليكن غضب الله عليكم إلى الأبد. (ينزل الستار.)
الفصل الثاني
(غرفة في قصر باربو.)
المنظر الأول
كليمنسا وحدها
كليمنسا (لذاتها) :
هذه أول مرة يعاملني بها زوجي تلك المعاملة القاسية؛ فإنه بعد غياب شهر قد دخل القصر، وخرج منه دون أن يكلمني، فماذا يكون شأنه إذا علم بحبي لألويزو؟ ويلاه لقد عاقبني الله بصرامة من أجل هفوة بضع دقائق، ها هو آت.
المنظر الثاني
باربو بملابس القضاة - كليمنسا
باربو :
يا عزيزتي كليمنسا، تعالي وعانقيني، ما لك لا تتقدمين؟ هل أنت متكدرة مني؟
كليمنسا :
أنا؟!
باربو :
لقد علمت لماذا أنت متغيرة علي؛ ذلك لأني لم أقابلك قبل ذهابي إلى المجلس، لك الحق أيتها العزيزة، ولكن الواجب قبل كل شيء؛ فإن منصبي كان يدعوني إلى الذهاب حالا، وفوق ذلك فإن القضية التي نحن في صددها يهمك شأنها (هازئا)
أريد أن أقول إنها تهم خادمتك آنلا؛ ولذلك أردت أن أحضر بنفسي الاستنطاق، وقد كانت آنلا خائفة جدا بمثولها أمام المجلس، ولكن كوني مطمئنة؛ فإنها لم تقل إلا ما يجب قوله؛ لذلك ينبغي أن نصفح عن هفوتها هذه، على أن صاحبنا ألويزو قد نال جزاء ما جنته يداه، والحق عليه فلماذا يعشق خادمة؟! إن العوام لا يغفرون مثل هذه الأمور نظيرنا نحن الشرفاء، بل الرجل منهم يقتل من يتعدى على شرفه.
كليمنسا :
لا أفهم مرادك مما تقول.
باربو :
ذلك لأنك مضطربة ومتكدرة مما حصل، وأنا ألتمس لك العذر؛ فإن قلبك الرقيق قد أصيب بضربة قوية، لا سيما وأن الحادثة قد وقعت تحت نافذة قصرك، ولكن هو الذي أراد ذلك، فما الذي دعاه إلى مطارحة خادمتنا الغرام في الليل؟ إنه لو فعل ذلك من أجل امرأة شريفة لوجدنا له بعض العذر، أما أن يخاطر بحياته من أجل خادمة فذلك عين الجنون، ولكن ما لنا وله؟ فهو قد ذهب الآن؛ ليطارح غرامه سكان السماء.
كليمنسا :
لماذا لا تنزع عنك ثوب القضاء؛ فإنك تخيفني بمنظره.
باربو :
أرجوك المعذرة، فإن رغبتي في أن أراك بعد هذا الغياب، قد أنستني ذلك، ولا أكتمك إني لم أنبسط من مشاهدة البرية الجميلة؛ لأنك لم تكوني معي، وقد أخطأت بعدم مرافقتي إليها، فقد كنا أمضينا سويا ساعات هنا لا تعادل بثمن.
كليمنسا :
ليتني ذهبت معك، إذن لكنت سعيدة، على أني سأذهب معك في الغد - إذا أردت - لأتحقق إذا كان ما تقوله صحيحا.
باربو :
كما تريدين أيتها العزيزة، ولكن ليس غدا، بل في العيد القادم.
كليمنسا :
إذا أردت، فإني أسبقك إليها؛ لأهيئ لك معدات الراحة.
باربو :
كل شيء مهيأ هناك على ما نروم، فلا داع لأن تتعبي نفسك.
كليمنسا :
ولكني في حاجة إلى تغيير الهواء، والطقس جيد.
باربو :
صدقت، ولكني أريد - بل أرجو - أن لا تتركيني وحدي مرة ثانية؛ إذ لا أحب أن يقول عنا الناس إننا لا نكاد نجتمع معا، وإن أحدنا يسأم الآخر.
كليمنسا
لذاتها :
يا إلهي ما أقسي كلامه! (لزوجها)
كما تريد.
باربو :
إن البرية جميلة، ويسرني أن نمضي إليها؛ لنقضي فيها بضعة أيام، ولكن قبل ذلك يجب أن تتممي أمرا لا بد منه، فأنت عائشة هنا كراهبة لا تزورين ولا تزارين، ولا أحب أن يقال عني إني شديد الغيرة عليك، فيجب تغيير هذه المعيشة.
كليمنسا :
كما تشاء.
باربو :
وعليه فسنبدأ بذلك هذا المساء، فاستعدي للذهاب معي إلى المرقص الذي يقيمه السنيور بندوميني - رئيس المجلس - هذا الليل في قصره، إني وعدته بالحضور معك، ولا بد من القيام بالوعد.
كليمنسا :
لا يا عزيزي، إني منحرفة المزاج هذا المساء.
باربو :
أرجو ألا يكون انحرافك هذا مسببا عن مجيئي (بحدة)
بل يجب أن تذهبي معي، وينبغي أن تظهري بأحسن مظاهر الجمال والسعادة، واعلمي أن المصور روفائيل سيكون حاضرا، فإذا رآك كما أنت عليه الآن، فلا يتأخر أن يجعل رسمك كرسم العذراء الحزينة على ولدها.
كليمنسا :
بربك يا عزيزي أن تعفيني من هذه السهرة؛ فإني تعبة جدا.
باربو :
لا يمكن قبول طلبك مطلقا.
كليمنسا :
أرى أن كلماتك كحكم من مجلس العشرة، لا يستطاع ردها. مساكين أولئك الناس الذين يقودهم سوء الطالع إلى الوقوع بين يديك.
باربو :
لا يجب أن نستعمل الرأفة مع المجرمين (ناظرا إليها بقصد)
على أني لست الآن في موقف القضاء، بل أنا المذنب بإلحاحي عليك (مغيرا لهجته إلى الحنو) .
كليمنسا :
ولكنك تطلب مني ما هو فوق الاحتمال.
باربو :
فوق الاحتمال؟! أظن أنك تمزحين (بقساوة)
أتريدين يا سيدتي أن يقول جميع الناس إنك تبكين قريبك ألويزو، نحن لا نحد على أقرباء من درجة بعيدة نظيره، دعي آنلا تبكيه وحدها فهي ذات حق بذلك.
كليمنسا :
كما تشاء، سأذهب.
باربو :
هلمي إذن، والبسي أحسن ما عندك، إني أريد أن تكوني فتانة هذا المساء، أريد أن تستعملي عقلك وذوقك.
كليمنسا :
سأعمل ما أقدر عليه، ولكن آنلا ليست هنا، وهي التي تلبسني.
باربو :
إنها ستأتي قريبا. ها هي.
المنظر الثالث
مذكورون - الحاجب - آنلا
الحاجب :
سيدي، إن القضاة قد سمحوا لآنلا أن ترجع إلى البيت حسب إشارتك، وأطلقوا أيضا سراح الشيخ ماركو كما طلبت.
باربو :
حسنا اذهب (يذهب الحاجب)
تقدمي يا آنلا، إن سيدتك في حاجة إليك.
آنلا (تركع أمام كليمنسا) :
سيدتي.
كليمنسا :
مسكينة.
باربو :
انهضي ودعي عنك هذا الخوف فليس للأمر أهمية، وما هو إلا درس صغير يفيدك في المستقبل (لزوجته)
عظيها، ولكن لا تجوري عليها، إنها بلا ريب قد أخطأت بتسليم قلبها لألويزو، بينما هي تحب بترو، ولكن بترو يستطيع أن ينسى جريمتها؛ لأنها ليست زوجته بعد.
آنلا :
ولكن بترو يا سيدي، ماذا يصنعون به؟
باربو :
إن الأدلة كلها ضده، ولكن هناك عينا تحرسه، ولا بد أن تنقذه، وعلى كل حال، فلا يبلغ بك القنوط إلى هذه الدرجة، فإنك تستطيعين أن تجدي في كل وقت رجلا فرانا تتزوجينه.
آنلا :
أقسم لك يا سيدي، إنه بريء.
باربو (بقساوة) :
وهل تعلمين شيئا أكثر من ذلك؟ افتكري بنفسك أيتها الفتاة، واهتمي بشأنك؛ فإن كل كلمة تزيدينها على ما قلت تقع عاقبتها عليك وعليه. (يذهب بعد أن ينظر إليها بقساوة.)
آنلا :
آه يا سيدتي، لقد فقدت بترو إلى الأبد.
كليمنسا :
لا تخافي يا آنلا، فلم ينقطع الأمل بعد من إنقاذه.
آنلا :
آه يا مولاتي، إنني بشهادتي اليوم قد حكمت عليه؛ لأنني لم أكن أستطيع أن أقول إلا ما يريده مولاي.
كليمنسا :
وماذا قلت في المحكمة؟
آنلا :
إن أول فرض علي كان أن أخلصك يا مولاتي، فأرجو أن لا تتخلي عني.
كليمنسا :
قصي علي كل شيء بالتفصيل.
آنلا :
لما دخلت المحكمة كانت غاصة بالناس، وكلهم سكوت كأن على رءوسهم الطير، وكان مولاي بين القضاة، فلما نظرت إليه رأيته محدقا بي، فما عدت أعرف ما أقول؛ لأنه سحرني ببصره، فسألني إذا كنت أعرف القاتل؟ فقلت نعم؛ لأني عالمة أنه مطلع على كل شيء.
كليمنسا :
كيف تقولين مطلع على كل شيء؟
آنلا :
لا يا سيدتي، إنه غير مطلع على شيء يسوءك، ولكن عارف أن ألويزو كان يأتي إلى القصر ليلا، فأحببت أن أخدعه؛ لأنفي عنك الظنون.
كليمنسا :
أحسنت يا آنلا، وأنا لست بناسية لك ذلك ما حييت، فما الذي جرى بعد ذلك؟
آنلا :
إنهم سألوني إذا كان ألويزو يحبني؟ فأجبت: نعم، وأنه كان يأتي ليلا يغني تحت نافذتي، فسر سيدي من جوابي، وأمرني أن أعيده، وأمر الكاتب أن يسجله، حينئذ سألني قاض آخر إذا كان لي عاشق غيره؟ فاحمر وجهي من الخجل، ولم أدر ما أقول، وفي الوقت نفسه فتح باب صغير، ودخل منه بترو وهو أصفر كالموتى، فسألوني إذا كنت أعرفه؟ فأجبت: نعم، إنه يحبني وأحبه وقد تواعدنا على الزواج، فسألوني إذا كنت رأيته هذا الصباح؟ فقلت: نعم، ثم سألوني إذا كان يعلم بعلاقتي مع ألويزو؟ فأجبت: لا أعلم. فقيل لي لو كان بترو يعلم بمحبتك لألويزو، هل كان يرضى عن ذلك؟ فقلت: لا، فقيل لي: إذن فقد كان غيورا عليك، أجبت: بعض الأحيان، فسألوني إذا كنت رأيت معه قرابا هذا الصباح؟ فقلت: إني وجدت قرابا في سلة الخبز، وأنه أراد أن يهديني إياه، حينئذ أروني القراب وسألوني: هل هذا هو؟ أجبت: نعم، وكان القراب موافقا أتم الموافقة للخنجر الذي كان على الطاولة أمام القضاة.
كليمنسا :
كان يجب عليك أن تنكري هذا الأمر.
آنلا :
نعم افتكرت بهذا ولكن بعد فوات الوقت؛ لأنهم باغتوني بالأسئلة، وضيقوا علي، فوا حر قلباه، لقد ألقيته إلى التهلكة بيدي (تبكي) .
كليمنسا :
هدئي روعك يا آنلا.
آنلا :
آه يا مولاتي، لا أقدر.
كليمنسا :
وهل ذكر اسمي في الاستنطاق؟
آنلا :
كلا يا سيدتي.
كليمنسا :
آه يا عزيزتي آنلا، كم أنا مدينة لك، فقد خلصت شرفي وحياتي.
آنلا :
وهل أقدر أن أفعل غير ذلك؟ ألم أكن يتيمة فقيرة، فأخذتني إليك وربيتني واعتنيت بي، علي أن ألتمس منك مقابل ذلك خدمة لا تستطيعين رفضها وهي السعي في تخليص بترو.
كليمنسا :
لو كان الأمر بيدي لفعلت ذلك من زمان.
آنلا :
بل تستطيعين يا مولاتي، فأنت تعرفين كل أعضاء مجلس العشرة.
كليمنسا :
وماذا يهم أن أعرفهم؟ فإنهم متي جلسوا على منصة القضاء لا يعرفون صديقا ولا يرحمون أحدا.
آنلا :
إذن قد ضاع الرجاء.
كليمنسا :
من يعلم؟ إني أعدك بأن أفعل كل ما بوسعي لإنقاذه كما لو كان أخي.
آنلا :
أنا لا أشك بطيبة قلبك، وكرم عنصرك يا سيدتي، وأثق بك بعد الله.
كليمنسا :
بل قولي إني عادلة، وكل ما أحتمله لأجلك لا يقاس بما فعلته لأجلي، صه الآن فها زوجي قد أقبل.
المنظر الخامس
مذكوران - باربو
باربو :
ماذا؟! ألم تلبسي بعد؟
كليمنسا :
رويدا فلم يفت الوقت.
باربو :
عجلي فإني أريد أن تجتمعي برئيس المجلس، وتلتمسي منه العفو عن بترو؛ لأني متأكد أنه بريء.
كليمنسا :
سأفعل ذلك، وقد وعدت آنلا به.
باربو :
هذا أقل ما يمكنك عمله لأجلها، إنها - والحق يقال - خادمة أمينة مخلصة، وسأذكر دائما إخلاصها لنا بما فعلته اليوم، اذهبا الآن، وعجلي بلبس ثياب الرقص (تذهبان) .
المنظر السادس
باربو وحده - جواني
باربو :
مسكينة آنلا ما أطيب قلبها! فقد شكت نفسها؛ لتخلص سيدتها، آه لا ينبغي أن يعرف أحد هذا السر، ولكن يجب أن أجتمع بالشيخ ماركو فإني أخاف أن يكون عالما بشيء من ذلك ... جواني ... (يدخل جواني)
علي بماركو في الحال (يذهب جواني ثم يعود بماركو) .
المنظر السابع
ماركو - باربو - جواني
باربو :
ادن مني أيها الشيخ، لقد بلغني أنك خرجت من هنا أمس مغضبا بعد أن لفظت كلاما لا يليق، مع أن شيخا نظيرك لا يجب أن يبدو منه مثل هذا الأمر، أنا لا أريد تبويخك؛ لأني عالم أن محبتك لابنك هي التي دفعتك إلى أن تقول ما قلت.
ماركو :
سيدي.
باربو :
لم أقل إن ابنك القاتل، بل العكس، أنا أرجح أنه بريء، ولكن من سوء الحظ أن الأدلة كلها ضده، آه من النساء، فكم ضيعن الرجال بغرامهن.
ماركو :
أصبت يا سيدي، فإن النساء علة كل شر في العالم، ولكني واثق أنك تكون مدافعا عن ابني قبل أن تكون قاضيه.
باربو :
قاضيه؟! أنا لو كنت قاضيه وحدي لخلصته، ولكن نحن عشرة لا واحد، فإذا ثبتت براءة ابنك أيها الشيخ، فإنه سيطلق سراحه ألا تظن ذلك؟
ماركو :
لا ... بلى. علي أن ألتمس منك أن تخبرني كيف كانت حالته أمام المجلس؟ آه يا سيدي، إنه وحيدي، ولا سلوى لي سواه في العالم، وهو عاقل محب للشغل، ولو كنت تعرفه كما أعرفه أنا؛ لحكمت حالا ببراءته؛ لأن شابا نظيره لا يمكن أن تتغير أخلاقه بلحظة واحدة فيصبح جانيا أثيما، إن هذا غير ممكن.
باربو :
إن الغيرة والحقد يفعلان العجائب، وأنت تعلم ذلك أحسن مني، فقص علي بلا مواربة سبب القضية الكائنة بينكم وبين ألويزو، فقد علمت أنه قد أساء إليكم فيما مضى.
ماركو :
نعم، أساء إلينا إساءة لا تغفر ولا تمحى إلا بالموت، ولكن لم يخطر في بالنا قط أن ننتقم منه، غير أن هذا الكلام لا يفيد الآن، والرجل قد مات وأصبح حسابه مع خالقه.
باربو :
بل قص علي الأمر فعسانا أن نهتدي إلى وسيلة؛ لتخليص ولدك، اجلس على هذا الكرسي فأنت شيخ تستحق الإكرام.
ماركو :
شكرا لك يا سيدي فأنت طيب القلب أما أولئك ...
باربو :
دعنا من الغير، ولنتكلم بمسألتنا، هات لنرى.
ماركو :
إن بيتي الحقير كان ملاصقا لقصر ألويزو الفخيم، وهذا هو سبب العداوة بيننا؛ فإن هذا الشريف أراد أن يهدم بيتي؛ ليجعل أرضه حديقة لقصره، فبالله عليك يا سيدي، كن عادلا. أرأيت لو أتى إليك أحد قائلا إن بيتك يضايقني فارحل عنه؛ لأني أريد هدمه، فبماذا كنت تجيبه؟
باربو :
هذا مفهوم، ولكن ألويزو كان في استطاعته أن يدفع لك ثمن بيتك أضعافا مضاعفة؛ لأنه غني وكريم.
ماركو :
وكيف أقبل أن أبيع بيتي؟! وقد ولدت فيه، وولد فيه آبائي من قبلي إنني لن أرضى بديلا منه حتى قصر الدوج نفسه.
لورنسو :
وبعد ذلك؟
ماركو :
لما قطع الرجاء من إقناعي بترك بيتي، أرسل خدمه فألقوا بأثاث بيتي إلى الماء، وهدموه برغم أنفي، فرفعت شكواي إلى القضاء فأنصفني منه؛ لأنه مهما بلغ الأغنياء من العتو والجبروت، فإن يد العدل فوق الجميع، تأخذ للضعيف حقه من القوي العاتي.
باربو :
وهل هذا كل شيء؟
ماركو :
كلا، فإنه بعد أن أجبرته الحكومة أن يعيد بناء منزلي كما كان، وأن يرد إليه أثاثه أخذ يضايقني بكل الوسائل؛ ليكرهني على الرحيل فإنه سعى فأبعد عني كل زبائني، وأمر خدمه فثقبوا قاربي؛ ليغرقوه، وقد أرادوا أن يصلحوا جدار القصر فألقوا بقصد جسرا كبيرا على سقف بيتي، فوقع السقف على ابنتي التي كانت نائمة في سريرها فكادت تقتل، ويا ليتها قتلت ذلك الحين فقد كان أوفق لها ولنا (يبكي)
أرجوك معذرة يا سيدي، فهذا جرح آخر لم يندمل بعد.
باربو :
أراك تتكلم عن ابنتك؟
ماركو :
نعم يا سيدي، ولو كان ولدي كبيرا إذ ذاك لما تأخر عن قتل هذا اللئيم الذي ألحق بنا العار.
باربو :
ولكن سمعت أنهم أعطوا ابنتك دوطة، وزوجوها بأحد خدمهم.
ماركو :
نعم، ولكنهم فعلوا ذلك بقصد الانتقام مني، وقد ماتت تلك الابنة المسكينة، لشدة خجلها بدون أن تراني، صحيح أننا فقراء يا سيدي، ولكن لنا شرف ونخوة، وإني لا أستطيع أن أصف لك كل العذاب الذي قاسيناه من تلك الإهانة التي لحقت بنا.
باربو :
ألم ترفع شكواك إلى الحكومة؟
ماركو :
وماذا تستطيع الحكومة أن تفعله؟ فإن ابنتي لم تلبث أن ماتت من قهرها، وما تفيد شكواي إلا إعلان عاري بين الناس، وهل تقدر الحكومة أن ترد إلي شرفي، وحياة ابنتي؟
باربو :
ألا تظن أن بترو بقي حاملا هذا الحقد في صدره إلى اليوم ... وأنه ربما التقى بألويزو في ذلك الصباح فلم يستطيع إخفاءه في صدره؟
ماركو :
لا أظن ذلك؛ فإن ولدي يحب أن ينسى هذا الأمر نظيري، ولا يريد أن يشهر عارنا بين القوم.
باربو :
ولكن الانتقام لا بد أن يتم عاجلا أو آجلا، لا سيما وأن غيرته على آنلا معلومة، وقد كان ألويزو يحبها أيضا.
ماركو :
إني أصدق كل شيء عن هذا الرجل، فقد يجوز أنه أراد أن يسيئه في غرامه كما أساءه في عرضه، ولكن ...
باربو :
صحيح، وقد وجدوا الخنجر في قلبه.
ماركو :
لا لا يا سيدي ليس لولدي في ذلك علاقة قط، وإن ألويزو لم يكن يهتم بآنلا، ولا ينظر إليها.
باربو :
أتظن ذلك؟! ولكن آنلا أقرت أمام المحكمة أن بترو كان يغار عليها، وما حصل في الليل الفائت يؤيد كلامها.
ماركو :
ألا يوجد غير آنلا في هذه الناحية إن النساء كثيرات.
باربو :
ماذا تريد أن تقول؟
ماركو :
أريد أن أقول إن أحد الأزواج قد انتقم من هذا الرجل لنفسه وللجميع.
باربو (لذاته) :
أتراه يعنيني بهذا القول؟ (لماركو)
ولكن المحكمة تعلم الواجب عمله، ومن سوء الحظ أن كل الأدلة ضد بترو؛ فإنهم وجدوا يديه ملوثتين بدم القتيل.
ماركو :
ولكن القاتل يا سيدي، لا يلبث بقرب قتيله، بل يركب القارب ويفر، أو يلقي بنفسه إلى الماء، ويصعد إلى الشاطئ الأخر نظيفا من دم الجناية.
باربو :
أراك تتكلم بلهجة من يعرف أشياء كثيرة.
ماركو :
أنا عالم أن ابني بريء، وأنه عاجلا، أو آجلا ستظهر براءته للجميع.
باربو :
ابق هنا أيها الشيخ، فأنت في حمايتنا، وإني ذاهب هذا المساء مع امرأتي إلى المرقص الذي يقيمه رئيس المجلس، وسأتكلم معه بخصوص ولدك.
ماركو :
إلى المرقص؟! لقد كنت أظن أن القتيل قريب لها.
باربو :
ماذا تجسر أن تفتكر يا هذا؟ (بقساوة.)
المنظر الثامن
مذكورون - كليمنسا
باربو (مغيرا لهجته) :
إن امرأتي أرادت أن تصحبني إلى المرقص؛ لكي تكلم رئيس مجلس العشرة بشأن ابنك.
كليمنسا :
أيها الشيخ يمكنك أن تتكل علي وعلى زوجي فاطمئن بالا.
ماركو :
أنا أضع اتكالي عليك يا سيدتي، وأسأل الله أن يكافئك عني.
باربو :
هيا بنا يا كليمنسا (يذهبان) .
ماركو (يهجم على آنلا) :
تعالي أيتها الشقية.
آنلا :
سيدي ماركو (ترتجف) .
ماركو :
ويلك أصحيح إنك كنت تخونين ولدي؟
آنلا :
أنا؟
ماركو :
نعم، أنت. إنك قد تعلمت في هذا القصر فن محبة اثنين في وقت معا.
آنلا :
لا يا سيدي، أقسم لك ...
ماركو :
كم مرة في النهار تحلفين بالكذب، لقد أقسمت هذا الصباح أمام المحكمة أنك كنت تحبين القتيل، وأن ولدي كان شديد الغيرة عليك، أما أنا فأعلم الصواب من كل هذا.
آنلا :
ماذا كان يمكنني أن أفعل؟ فإنهم باغتوني بالأسئلة، واحتاطوا بي من كل جهة، وجعلوني أقول بحسب ما يريدون، وإني فعلت ما فعلته من أجل سيدتي.
ماركو :
آه ... من أجل سيدتك، فلأجلها إذن قد كان يأتي ألويزو، لا لأجلك، لقد اعترفت الآن بالصواب، ولا يمكنك أن تكذبي.
آنلا :
ويلاه إني شديدة الندم على ما فهت به أمام المحكمة، وأود لو أقدر على رد ما قلت.
ماركو :
إن الأمر سهل جدا ويمكنك أن تقولي الحقيقة كما هي، فإذا كان المجلس مقفلا الآن، فإن القره قول قريب من هنا، وتقدرين أن تصرحي أمام البوليس بما تعلمين، تعالي معي.
آنلا :
ولكن سيدتي وشرفها؟!
ماركو :
شرفها؟! وهل اهتمت هي به قبل أن تغرم بألويزو؟ وهل شرف امرأة هو إله لتضحي من أجله حياة رجل بريء؟ ... تعالي تعالي قلت لك، ولا تكوني شريكتها في هذا الجرم الكبير.
آنلا :
آه يا ربي، ولكنه سيقتلها بلا شك.
ماركو :
عمن تتكلمين؟!
آنلا :
عن مولاي لورنسو باربو، فإنه إذا علم بعشقها لألويزو فهو قاتلها بلا ريب.
ماركو :
إذا علم بعشقها؟ ويحك إنه يعلمه (بصوت قوي كمن أفاق على شيء)
نعم، إنه عالم بكل شيء ... آه، أي نور قد اخترق بصيرتي الآن ... نعم نعم إن ابني ليس القاتل، بل القاتل لورنسو باربو بعينه (يشير حيث خرج باربو)
آه يا سنيور لورنسو باربو، قد ابتدأت أن أفهم الآن احتيالك علي، وسيكون بيني وبينك حساب.
آنلا :
أني لا أفهم ما تقول.
ماركو :
إن مولاك الشريف لورنسو باربو بعينه هو الذي قتل ألويزو.
آنلا :
كيف تقول ذلك، وهو قد كان غائبا في البرية؟
ماركو :
إنه القاتل بيده، أو بيد غيره، إن الوقت لم يفت بعد، فهيا بنا لنطلع الحكومة على حقيقة الواقع (يدنو من الباب فيجده موصدا)
ماذا؟ الباب موصد من الخارج؟! (يدنو من باب آخر)
وهذا أيضا.
المنظر التاسع
مذكوران - جواني
جواني :
ماذا تريد أيها الشيخ ماركو؟
ماركو :
أريد الخروج في الحال مع آنلا.
جواني :
لا يمكنك الخروج لا أنت ولا هي، فقد صدر إلي الأمر بذلك من مولاي.
ماركو :
إذن نحن في سجن، ويحك من يجبرني على البقاء هنا؟
جواني :
قلت لك لا تستطيع الخروج وكفى (يخرج جواني) .
ماركو :
أقفلوا الأبواب علي فإنه لا يزال لي منفذ، هذه النافذة (يهجم نحو النافذة) .
آنلا (صائحة) :
آه يا أبي لا تعرض بنفسك للخطر.
ماركو (راكبا النافذة) :
أبوك أبوك! من يعلم إذا كنت بسببك لا أزال أبا إلى الآن؟ (ينزل الستار.)
الفصل الثالث
(مرقص في قصر بندوميني.) (أشخاص، رجالا ونساء، مقنعون وغير مقنعين، يمشون في مؤخر الملعب جيئة وذهابا.)
المنظر الأول
لورنسو (متنكرا والقناع بيده)
لورنسو (يدخل وحده) :
لقد تعبت من الرقص، فلآخذ لنفسي قليلا من الراحة، أف ما أصعب أن يحمل الإنسان في صدره سرا دمويا كهذا السر! إني أخاف دائما أن يقرأ أحد في وجهي سر جريمتي، ويكاد عاري يظهر بجلاء على جبيني، ولكن لا خوف من ذلك فهذا الأمر لا يعلمه إلا الله وأنا، والحمد لله أن التهمة وقعت على ذلك الفران المسكين الذي سيذهب ضحية من أجلي، فعلي أن أملك روعي، وأدور مع امرأتي دورة في القاعة؛ لأبعد عنها الظنون (يهم بالخروج) .
المنظر الثاني
باربو - المقنع
المقنع (يدخل فيوقف باربو) :
على رسلك أيها الشريف لورنسو باربو.
لورنسو :
أتعرف اسمي؟ أما أنا فلا أعرف اسمك يا هذا، فتفضل وعرفني من أنت.
المقنع :
من أنا؟! أنا ذاك الذي يفهم نواياك، ويسبق خطاك؛ ليحول بينك وبين مقصدك الأثيم، ستعلم بعد من أنا.
لورنسو :
ولكن اسمح لي فإني لا أكلم رجلا لم يسبق لي معه سابق معرفة.
المقنع :
ليس القصد أن تتكلم، بل أن تصغي لما أقوله أنا، إنك يا لورنسو باربو، أحد أعضاء مجلس العشرة، قد رحلت عن فينيسيا منذ شهر، ثم عدت إليها أول من أمس.
لورنسو :
كلا بل أمس.
المقنع :
بل أول من أمس، وقد دخلت المدينة متخفيا؛ لتبحث عن سر تخاف أن تعرفه، وقد اكتشفت ذلك السر بنفسك، إذ بصرت برجل ملثم خارج من أحد أبواب قصرك تحت جنح الظلام فطعنته بخنجرك، وأرديته قتيلا، هذا الرجل هو ألويزو جورو قريب امرأتك وعشيقها، وقد كان خارجا من قصرك بعد أن سلب شرفك فقتلته انتقاما.
لورنسو :
ويحك من تكون أيها الرجل؟
المقنع :
ستعلم ذلك بعد حين، إن الخنجر الذي طعنت به تلك الطعنة النجلاء قد بقي مغروزا في صدر القتيل، وأما القراب فوقع منك، والخنجر وقرابه موجودان الآن على مائدة مجلس العشرة، فاسمح لي أن أقول لك أيها الشريف باربو، أن غضبك قد أعمى بصيرتك، نعم إنك انتقمت لشرفك المهتوك، ولكن ما كان ينبغي لك أن تقتل عاشق امرأتك تحت نافذة بيتها؛ لكيلا تجلب عليها الظنون، ثم ما كان لك أن تستعمل لقتله خنجرا محفورا على قبضته اسمك ولقبك. نعم، إن اسمك مكتوب عليه بأحرف رفيعة جدا، ولكن يمكن لمن يمعن النظر أن يستجليها.
لورنسو :
آه يا إلهي!
المقنع :
وزيادة على ذلك أنك تركت الخنجر في صدر القتيل، ولم تحتفظ بالقراب، وهي أمور ثلاثة واحد منها يكفي لأن يكشف سرك للناس، ويحكم عليك.
لورنسو (يحاول أن يقاطعه) :
ولكن ...
المقنع :
أعلم ما تريد قوله. أنك عندما ارتكبت الجريمة ظننت أن لا أحد يراك غير الله، ومن حسن حظك أن رجلا مسكينا عثر بالقراب فأخذه، ثم شاهد القتيل، فأخذ يشتمه ويشمت به؛ لأنه كان عدوا له أيضا فقبضوا عليه، وقادوه إلى السجن؛ ظنا منهم أنه القاتل، أما هو فلا يزال يصيح ببراءته، ولكن صياحه هذا سوف يخفت أمام آلة التعذيب، وسوف يقر برغم أنفه أنه القاتل؛ ليخلص من العذاب، وبهذه الصفة يحكم عليه مجلس العشرة بالإعدام، نعم إنك حسبت كل هذا الحساب، وقلت في نفسك إن سر عاري سيبقى بين امرأتي وبيني، لا أيها الشريف لورنسو باربو إن شخصا آخر قد اطلع على هذا السر.
باربو :
ولكن من تكون يا هذا؟
المقنع :
من أكون؟ ... أنا عين ترى في الظلمة، وأذن تسمع في الخفاء، أنا شيطان فينسيا انظر إذا كنت تعرفني (يرفع قناعه) .
باربو :
ويلاه هذا جاسوس المجلس، لقد ضاع الأمل.
المقنع :
إن لديك وسيلة للخلاص إذا أردت.
باربو :
قل ما يجب أن أفعل، فأصدع بما تأمر.
المقنع :
بماذا يحكم القانون على رجل من عامة الشعب إذا قتل شريفا؟
باربو :
بالموت.
المقنع :
ألا يوجد استثناء فيما إذا كان لذلك المسكين ثأر ضد ذلك الشريف.
باربو :
قد تخفف عقوبته ليس إلا.
المقنع :
إذن لا يمكن تخليصه مطلقا، فعليك والحالة هذه أن تبحث عن وسيلة لإعلان براءته؛ إذ لا خلاص له إلا بذلك؟ يجب أن تقول للمجلس من هو صاحب ذلك الخنجر الذي استعمل للقتل.
لورنسو :
ولكن لا يليق بي أن أذكر ذلك أمام المحكمة.
المقنع :
بل يجب عليك أيها الشريف؛ لأن القاضي العادل لا ينبغي له أن يحكم على بريء، لا سيما وأنت أحد الأعضاء، فبأي جرأة تضع إمضاءك على ذلك الحكم الجائر؟
باربو :
ولكن تلك شريعة نسنها نحن كما نشاء.
المقنع :
إن الشريعة الحقيقية عادلة وأبدية، وهي موجودة في كل مكان، فالحكم على بريء بالموت مع العلم ببراءته عار على القاضي، وعار على البلاد التي يصدر منها مثل ذلك الحكم.
باربو :
يوجد واسطة غير هذه لخلاصه.
المقنع :
نعم، وهي الفرار، ولكن من أدراك أنه يقبل به؟ إن هذا الفران المسكين أبي النفس، ولا أخاله يرضى أن يحمل على وجهه عار القتل، إن له أبا شيخا وصبية تحبه، كل هذا يحبب إليه البقاء في وطنه، إن الجلاء عن الأوطان صعب، وقد صدق شاعر الطليان إذ قال: الموت أصعب من ترك الوطن.
باربو :
ولكن أية أهمية لرجل مسكين كهذا إذا مات؟
المقنع :
وهل الرجل المسكين ليس ذا نفس نظيرك أيها الشريف؟! أو هل تظن أن الشرف لا يوجد إلا في قصوركم أيها العظماء؟!
لورنسو :
ولكني إذا صرحت بهذا القول للمجلس أعرض نفسي للإهانة بانكشاف عاري للناس.
المقنع :
إذن فأنت تحاول غسل عارك بدم هذا المسكين.
لورنسو :
آه إنك لقاس جدا.
المقنع :
بل عادل، وأنا أطلب منك أن تسعى في خلاص هذا البريء، إنه في إمكانك، وأنت من مجلس العشرة أن تعمل ما تريد.
باربو :
إن لدي وسيلة لا بد من نجاحها.
المقنع :
وإذا لم تنجح؟
باربو :
أجد حيلة غيرها، ولكني متأكد نجاحي في هذه.
المقنع :
أقسم بشرفك لأصدقك.
باربو :
أقسم بشرفي، إني ساع لإنقاذ هذا البريء.
المقنع :
حذار يا لورنسو باربو، ولتعلم أنه إذا خطر في بالك - ولو هنيهة - أن تحنث بيمينك، ففي غد ذلك اليوم تعلم كل فينسيا اسم القاتل الحقيقي، وحينئذ ينزع اسم لورنسو باربو من مجلس العشرة؛ لأنه بصفتك عضوا في المجلس لك أن تقتل من تشاء لأي حق كان، أما إذا كان القتل من أجل محو عار كما هو شأنك، فهذا كاف لإقالتك من مجلس العشرة، وحرمانك كل الامتيازات.
لورنسو :
حسنا (يذهب المقنع بعد أن يشير إلى لورنسو إشارة تهديد) .
المنظر الثاني
لورنسو وحده
لورنسو :
هذا هو ضميري الذي تجلي لي الآن، فما ينفعني أن أكون من مجلس العشرة، وأنا لا أقدر أن أفعل ما أريد، لم يبق أمامي إلا يوم واحد، أو بعض اليوم، فإذا مضى من غير أن أتمكن من خلاص البريء، فقد قضي على شرفي إلى الأبد، إن امرأتي ترقص الآن ولا تعرف أنها ترقص على شفير الهاوية فلأبحث عنها.
المنظر الثالث
باربو - كليمنسا
كليمنسا :
علمت أنك تبحث عني فأتيت.
لورنسو (لذاته) :
يظهر أن الجميع يقرءون أفكاري هذا اليوم (لكيمنسا)
نعم، كنت أقصد الاجتماع بك؛ لأسألك إذا كنت نجحت في التماسك من رئيس المجلس العفو عن ذلك المتهم؟
كليمنسا :
كلا لم أنجح، وتراني شديدة القلق على هذا المسكين.
لورنسو :
لا تقلقي من أجله يا سيدتي، بل من أجلك ومن أجلي أنا، فإن الحالة قد تغيرت منذ دقائق.
كليمنسا :
لا أفهم ما تقول يا سيدي.
لورنسو :
ينبغي لي إذن أن أقول لك كل شيء.
كليمنسا :
نعم، ولكن ليس هنا فما هذا وقته.
لورنسو :
أرى يا كليمنسا أننا لم يعد يحب أحدنا الآخر كما فيما مضى، وأن شخصا قد حال بين قلبينا.
كليمنسا :
ومن هو هذا الشخص الذي تعنيه؟
لورنسو :
هو رجل ماثل الآن بين يدي الديان العادل، هو ألويزو جورو الذي قتلناه نحن الاثنين، أنت بقبلة وأنا بخنجر. أنت أحببته، وأنا انتقمت.
كليمنسا :
آه أأنت هو القاتل؟ لقد صدقت إذن ظنوني.
لورنسو :
نعم، أنا القاتل. إن ظنونك لم تخدعك، وإنما أنت خلقت لتخدعي، وينبغي عليك اليوم أن تتممي ما خلقت له، فتخدعي الناس وتدرئي عنك الشبهات، هلمي تأبطي زراعي، ولندر دورة حول القاعة، يجب أن تظهري على شفتيك أجمل ابتساماتك، وأن ترفعي رأسك تيها، فمن يدري؟ ربما تكون هذه آخر مرة تستطيعين، أن تمشي مرفوعة الرأس من غير أن تسمعي من حولك كلمة تضطرك أن تنكسي هذا الرأس الجميل إلى الحضيض.
كليمنسا :
رحماك أشفق علي.
لورنسو :
دعي الرجاء والتوسل إلى الغد، أما الآن فأنت زوجتي الحبيبة أمام الجمهور، فتمتعي بآخر احترام يقدمه لك هؤلاء الناس الذين لا يزالون يحسبون أنك طاهرة عفيفة، فاجتهدي بإخفاء حزنك ودمعك كما أخفي أنا عاري، هيا. (ينزل الستار.)
الفصل الرابع
(في السجن، عن يمين وشمال، فراش على الأرض، نافذة، قضبان حديد.)
المنظر الأول (بترو على الفراش راقدا في يديه ورجليه السلاسل.)
بترو (في حلم) :
لا تقتلوني إني بريء ... بريء ... (ينتبه مذعورا)
إلهي ما أفظع هذا الحلم! إن فرائصي ما تزال ترتعش من هوله (يلمس رقبته بيده)
ولا أزال أشعر بأثر الحبل في عنقي، فقد حلمت أنهم صعدوا بي إلى المشنقة، وربطوا الحبل في عنقي، وأنا أصيح بريء بريء، وما أحد كان يسمع ندائي، ولكن الحمد لله، فما هذا إلا أضغاث أحلام، والحقيقة أن براءتي سوف تظهر للجميع بيضاء ناصعة، كهذا الفجر الجميل (ناظرا من النافذة)
إن في السماء إلها عادلا، لا يتخلى عن البريء (ينشد) .
يا ويح قلبي ما يلقى وما يجد
من ظلم دهر وهى من ظلمه الجلد
أساق للقتل لا إثم، ولا حرج
ولا جرت لي في فعل الحرام يد
أموت موتين في حبي، وفي جسدي
والعيش موت إذا أحبابنا فقدوا
قضيت عمري في رصد الهناء فمذ
دنوت منه إذا بالموت لي رصد
وربما فاز بالآمال ذو كسل
وخاب في نيلها ساع ومجتهد
أقلب الطرف في الماضي عساني أرى
لي بعض ذنب فغير الفضل لا أجد
وربما كان فضلي أصل نائبتي
فقد يضر ويؤذي الغادة الغيد
أما ترى الغصن تحت الحمل ملتويا
والسرو هامته بالسحب تنعقد
والنسر والبوم في الآفاق سارحة
وليس يحبس إلا الطائر الغرد
المنظر الثاني
لورنسو (متخفيا) - بترو
لورنسو (يدخل ثم يرفع قناعه) :
كيف حالك يا هذا؟ (لذاته)
أراه غير خائف. آه إن البراءة لذات ثمن عظيم (يدنو من بترو الذي يكون غارقا في تأملاته)
بترو انتبه لي.
بترو (يلتفت فيراه) :
سنيور لورنسو باربو ...
لورنسو :
يجب أن تشكر الله؛ لأنه أرسلني لأخلصك.
بترو :
وهل ظهرت براءتي للمجلس؟
لورنسو :
إني أتيت لأخلصك بريئا كنت، أو مجرما.
بترو :
إني أشكر مجلس العشرة على هذه العناية لي وما شككت قط بعدله، واستقامته.
لورنسو :
ليس مجلس العشرة الذي ينبغي عليك شكره، بل لورنسو باربو الذي لا علاقة له في هذه الساعة مع المجلس، وقد أتيت لأعرض عليك وسائل الهرب.
بترو :
الهرب؟ ولماذا الهرب؟
لورنسو :
لتخلص من تنفيذ الحكم عليك لأنه سيمضي بعد قليل.
بترو :
لا يا سيدي، لا حاجة بي إلى قبول طلبك، إن مجلس العشرة مهيب هائل، ولكنه عادل، وهو سيعلم براءتي، ويأمر بإطلاق سراحي.
لورنسو :
لا تدع الوهم يتسلط عليك أيها المسكين، فإذا بقيت هنا ساعة واحدة أيضا فليس أمامك إلا الهلاك، انظر أنا الذي أتيت لإنقاذك الآن إذا لم تسمع مني فإني سأضطر بعد قليل أن أضع ختمي على ورقة إعدامك.
بترو :
هذا محال يا سيدي؛ فإن العدل لم يفقد من الأرض وأنا ...
لورنسو (بحدة) :
أنت مجنون أبله عنيد، إن الوقت ثمين لا يضاع، وسوف يأتيك بعد هنيهة شخص تعرفه.
بترو :
لعله أبي، وهل أستطيع أن أراه هنا؟
لورنسو :
أبوك يأتي بعد ذلك، أما الذي سيأتي أولا فهو آنلا.
بترو :
هي ... الخائنة.
لورنسو :
لا تسيء بها الظن.
بترو :
كيف لا، وقد سمعت استنطاقها.
لورنسو :
إنها كانت فيما قالته مجبرة لا مخيرة، فلندع الآن هذا واسمع جيدا ما أقوله لك، ستأتي آنلا، وهي تقول لك ما يجب أن تفعل، فتخرج بك من هنا، وتركبان معا قاربي الذي ينتظركما عند الجسر، ويكون أبوك في القارب، ولا يمضي عليكم بضع ساعات حتى تصلوا خارج المدينة.
بترو :
لا أفهم مرادك يا سيدي، فهل أضطر إلى مغادرة البندقية؟
لورنسو :
نعم تغادرها، ولا تعود إليها مطلقا بعد اليوم.
بترو :
أشكر لك يا سيدي اهتمامك بي، ولكني أرفض ما تعرضه علي؛ لأني أحب وطني ولا أستطيع الحياة بدونه.
لورنسو :
ماذا تقول أيها التعس؟ هكذا تعتبر كلامي؟!
بترو :
أنا لا أقبل أن أنفى من وطني كمجرم، وقد ولدت في البندقية وسأموت فيها.
لورنسو :
وستموت.
بترو :
أموت نعم، إذا حكم علي بأني القاتل.
لورنسو :
اليوم يجتمع المجلس، ويستنطقونك لآخر مرة فتضطر إلى الإقرار.
بترو :
ولكني بريء وقد قلت لهم ذلك قبلا.
لورنسو :
أتعلم إلى أين يقود هذا الباب؟ (مشيرا لباب اليمين.)
بترو :
لا.
لورنسو :
هناك غرفة التعذيب حيث يوجد أفظع ما يمكن أن يتصوره الإنسان، أراك تصفر.
بترو :
كلا، لا أخاف، وسترى أنهم ولو كسروا عظامي لا يقدرون أن يجعلوني أقول سوى الحقيقة.
لورنسو :
بل تقول ما تريده آلة التعذيب.
بترو :
إذن هم يريدون بالقوة أن أكون قاتلا؟
لورنسو :
كلا، بل هم يطلبون الفراغ من هذه القضية؛ لتوفر أدلة الإثبات فيها. فأنا تارك لك وقتا لتفتكر بما عرضته عليك؛ إذ لا يمكن المكوث طويلا هنا بدون أن أوجه الظنون إلي، وستجيب بما تراه الشخص الذي سأرسله إليك.
بترو :
أرجوك أن ترسل إلي أبي، فإذا أشار علي بالفرار أطعته.
لورنسو :
أبوك لم يطلق سراحه بعد.
بترو :
كيف ذا؟ وهل حبسوه أيضا؟
لورنسو :
نعم، وسيخلص معك، أو يهلك معك كشريك لك في الجناية (يذهب لورنسو) .
بترو :
ذهب. ذهب وتركني على مثل الجمر لا، لا أصدق أنهم يقضون علي وأنا بريء، ينبغي أن يكون في الأمر سر خفي عن الجميع، أنا لا أقبل بالهرب كمجرم، بل أريد أن أرفع رأسي أمام كل الناس، أريد أن يعرف كل الذين شهدوا ضدي أني بريء، أريد أن أقول لهم جميعا إنكم كذابون أفاكون، وإن يدي بريئتان من دم رجل مثلي. نعم، نعم لا أغادر وطني مضطرا وقد ولدت في البندقية وسأموت فيها.
المنظر الثالث
سجان - بترو
سجان :
صدر إلي الأمر أن أنزع قيودك.
بترو :
وممن الأمر؟
سجان :
من الذي له الحق فهو يأمر، وأنا أطيع.
بترو :
أطع إذن وارفع من يدي هذه السلاسل التي كسرت لي قبضتي.
سجان :
إن هذه السلاسل تعمل الواجب عليها فهي خادمة عمياء نظيري (يفك قيوده)
في الباب كاهنان يريدان أن يختليا بك.
بترو :
كاهنان؟ ماذا يريدان مني؟ ومن يكونان؟
سبحان :
ستعرف ذلك متى حضرا (يخرج) .
المنظر الرابع
كليمنسا وآنلا (بلباس الكهنة) - بترو
بترو (لذاته) :
لماذا أضطرب من هذه الزيارة؟ إني سأفتح لهما قلبي، وأعترف لهما بكل خطاياي، فذلك يخفف ما بي، ويجعلني أمتثل لدى الله تعالى نقيا من كل ذنب. (تدخل آنلا وترفع قناعها وتبقى كليمنسا في مؤخر الملعب.)
آنلا :
بترو؟
بترو :
أنت هنا؟ أنت؟
آنلا :
أتيت لأخلصك يا بترو.
بترو :
الكل يريدون خلاصي اليوم، وأمس كانوا يريدون هلاكي، اذهبي يا هذه، فالله وحده يخلصني إذا كنت أستحق الخلاص، من غير أن أحتاج إلى الهرب كمجرم، اذهبي فلا شأن لي معك.
آنلا :
آه يا حبيبي بترو ما هذا الكلام؟!
بترو :
حبيبك! بعد كل ما بدا منك بالأمس.
آنلا :
أنا عالمة أن لك حقا بأن ترتاب بي، ولكني سأنزع منك هذه الشكوك فيما بعد، أما الآن فلنهتم بتخليصك، انظر فإني لم آت وحدي لإنقاذك بل هناك شخص آخر.
بترو :
أعلم ذلك، فهم يريدون مني أن أهرب؛ ليثبتوا علي الجريمة؛ وليخفوا القاتل الحقيقي.
آنلا :
ماذا تقول؟! وكيف يمكنك أن تظن ذلك.
بترو :
إني أصبحت أشك بكل شيء بعد إقرارك بالأمس، لقد كنت أثق بك قبلا كل الثقة، أما اليوم فلا، إن الحقيقة لتبدو حالا على الشفاه، وقد اعترفت أمس أنك كنت تحبين ألويزو.
آنلا :
كلا يا بترو، إني لا أحب إلاك.
بترو :
إنك لتكذبين أيضا.
آنلا :
اسمع يا عزيزي، أنا متأكدة أنك بريء، ولكن من الأسف أن أدلة الاتهام متوفرة عليك.
بترو :
حسنا وبعد ذلك.
آنلا :
إنني مثلك يا بترو، يظن الناس جميعهم أني عاشقة ألويزو، والحقيقة أني بريئة من غرامه. آه لو يمكن التصريح بما أعلم.
بترو :
حسبك خداعا، ألا تعلمين أين نحن، نحن على بعد خطوتين من القاعة التي أقررت بها أمامي، أجل أإنك كنت تحبين ألويزو؟ ولكن ماذا يهمني اليوم إذا كنت تحبين واحدا، أو كثيرين؟ فإن رسمك قد زال من هذا الفؤاد، وما عدت أفتكر بأنك في الوجود.
آنلا :
آه، إن هذا لفوق الاحتمال، إنك بلا ريب لا تدري ما تقول، ليس في طاقتي أن أبرئ نفسي أمامك الآن، بل جل ما أقوله لك إنه سواء كنت عدوة لك، أو صديقة، فقد أتيت لخلاصك، ويجب عليك أن تطيعني؛ لأنك إذا بقيت ساعة واحدة هنا أنفذوا فيك حكمهم.
بترو :
إليك عني أيتها الحية، ولا تخدعيني، إني لا أريد أن أعلم من أرسلك ولا من أتى معك.
كليمنسا (ترفع قناعها) :
لله ما أكثر عناد هذا الرجل! (تمسح دمعها.)
بترو :
أنت هنا يا سيدتي، أنت في هذا السجن الحقير، ماذا؟ أتبكين أيضا؟ آه ما أطيب قلبك يا سيدتي! ما أطيب قلبك!
كليمنسا :
أصغ إلي يا بترو. إنك شديد القساوة على آنلا، وصدقني إنك مخطئ في حقها، ألا تثق بكلامي أنا؟ أتظن أيضا أنني أتيت لأخدعك، إني أحلف لك بشرفي أن آنلا بريئة مما تتهمها به، وأن ألويزو لم يكن يأتي إلى القصر من أجلها ... بل.
بترو :
بل ...؟
كليمنسا :
ماذا؟ ألا يكفيك هذا الحلف، أتريد أن أزيدك بيانا؟ أتريد أن أحمر من الخجل أمامك؟
بترو :
آه يا سيدتي، ماذا تقولين؟! أيمكن هذا؟!
كليمنسا :
أطع ما تشير به عليك آنلا، واهرب معها، وكونا سعيدين.
بترو :
وأبي أين هو؟
كليمنسا :
ينتظرك في القارب قريبا من هنا، وستقول لك آنلا ما يجب أن تفعل فاذهبا، ولا تضيعا الوقت.
بترو :
وأنت يا سيدتي؟
كليمنسا :
أنا باقية هنا مكانك ، خذ هذا (تعطيه رداء راهب)
ولا تفتكر بي.
بترو :
ولكن ألا تعلمين أنهم إذا ظنوك أنا فإنك ستجتازين ساعة هائلة؟
كليمنسا :
أنا عالمة ما يجب أن أفعل، وقد أخذت عدتي لكل شيء.
بترو :
آه يا سيدتي، بأي واسطة يمكنني أن أشكرك؟
كليمنسا :
بصمتك وعفوك. (يذهب بترو وآنلا.)
المنظر الخامس
كليمنسا - ثم لورنسو
كليمنسا وحدها (تنصت على الباب) :
لا أسمع حركة إنه قد نجا، كل شيء قد دبر بغاية الإتقان، ولكني أسمع خطوات قادم. آه هذا زوجي.
لورنسو :
أنت هنا؟
كليمنسا :
إني أتيت لمساعدة ذلك المسكين وها هو قد نجا.
لورنسو :
بل أتيت لتضيعينا كلنا إذا قبضوا عليه في الطريق، ارجعي حالا من حيث جئت قبل أن يأتي أحد فيراك.
كليمنسا :
وماذا يهمني ذلك؛ فإنهم سيأخذونني إلى الدير، وهو غاية ما أتمناه.
لورنسو :
كيف تقولين؟
كليمنسا :
أليس عقاب الدير أبسط ما ينالني مقابل نجاة رجل بريء؟ إن هذا السر يبقى مطويا عن كل إنسان، مع ذلك فإذا قال أحد يوما أن لورنسو باربو قد أهين، فيجيب صوت آخر: نعم، ولكنه قد انتقم.
لورنسو :
ولكن يوجد لطخات لا يمكن غسلها بالدموع ولا بالدماء، وهي اللطخات التي تصيب الرجل في عرضه.
كليمنسا :
أعلم ذلك، ولا دواء لهذا إلا النسيان، والوقت كفيل به، إني مخطئة، ولكن ليس بقدر ما تظن، وسوف يأتي يوم أكفر به عن هذه الخطيئة.
لورنسو :
إنك لن تكفري عنها قط.
كليمنسا :
دعني أؤمل دائما بعفوك وحلمك، إن ساعة خطأ ارتكبت بالرغم مني سيعفو الله لي عنها وأنت أيضا.
لورنسو :
أنا لا أعفو أبدا.
كليمنسا :
أصغ إلي.
لورنسو :
لا، ليس هنا وقت إيضاح، وليس هذا موضعه، فلنذهب وندع ذلك لوقت آخر؛ إذ لا يمكنك البقاء هنا طويلا بدون أن ترمي شرفي بالظنون.
كليمنسا :
إن شرفك مقدس عندي يا سيدي.
لورنسو (باستهزاء) :
من أي حين؟
كليمنسا :
آه، إنك بلا رحمة.
المنظر السادس
الحاجب - مذكوران
الحاجب :
سيدي، إن المجلس قد انعقد، وهو ينتظر حضورك.
لورنسو :
حسنا اذهب (يذهب الحاجب)
أسمعت يا كليمنسا؟ لقد أضعت بتعجلك كل تدبيري؛ فها هم قد قبضوا عليه كما تنبأت لك، إني ذاهب إلى المجلس، وسأرسل أحد أتباعي؛ ليذهب بك من هنا فلا تتأخري.
كليمنسا :
كلمة واحدة أيضا. أتوسل إليك.
لورنسو :
ألا يكفيك ما أظهرته لك من لين الجانب إلى الآن (يذهب) .
كليمنسا (وحدها) :
أتراهم عرفوه، وهو آخذ بالفرار. آه، يا إلهي أنت الذي سمعت دعاء خاطئة مثلي، أيمكنك أن تدع البريء يقتل ظلما؟ (تهم بالذهاب)
آه، أراهم قادمين إلى هذه الناحية.
المنظر السابع
ماركو - آنلا - سجان - كليمنسا
آنلا (باكية) :
ويلاه يا مولاتي، لقد خسرنا كل شيء.
ماركو :
كلا لم نخسر شيئا بعد؛ فإنهم لا بد أن يسمعوا كلامي، وسأقول لهم الحقيقة، ليتهم يأخذوني إليه لأشجعه بوجودي، إنهم أخذوه مني ولا أعلم إلى أين؟
كليمنسا :
الأرجح أنهم أخذوه إلى المجلس؛ ليسمعوا استنطاقه من جديد. آه يا ربي، ما أستطيع عمله الآن؟
ماركو :
يجب تخليصه يا سيدتي.
كليمنسا :
وبأية واسطة؟
ماركو :
أتسألينني أنا؟
كليمنسا :
لا يجب أن نقطع الأمل فإن زوجي ...
ماركو :
إن زوجك قادر بكلمة واحدة أن ينقذه، فهو يعرف أكثر من الجميع أن ولدي بريء، أما إذا لم يصرح ببراءته، فسأقولها أنا، وستعلم كل البندقية في الغد من هو القاتل الحقيقي (يسمع صوت سلاسل من الداخل)
ولكن ماذا أسمع؟ (يدنو من الباب ويضع عينيه على الثقب)
ويحي، هذه غرفة التعذيب، وهو ذا القضاة مجتمعون ولكن أين ولدي بترو؟ إني لا أراه. هو ذا القاضي يكتب، ربما كان ما يكتبه الحكم على ابني، آه لو أستطيع أن أكون بقربه لأشجعه (سكوت قليل ثم يسمع صوت بترو يقول بصوت ضعيف لا)
ها إنه ينفي التهمة عنه، ولكن لماذا لا يكتب القاضي هذه اللفظة، ويخلص ولدي، إنهم يستنطقونه من جديد، ماذا يريد هؤلاء البغاة أن يعلموه بالقوة؟ أتراهم يبغون تعذيبه؛ ليضطروه إلى الاعتراف بذنب لم يجنه؟ آه يا رب، أعطه القوة الكافية ومده بعونك يا أرحم الراحمين (يسمع صوت السلاسل)
إنهم يعذبون ولدي، إنهم يقتلونه (صوت بترو من الداخل يضعف يقول : نعم، نعم)
نعم! كيف نعم؟! إنه يقول نعم. وا ولداه (ينظر من الثقب)
القاضي الآن يكتب كلمة نعم، وأراهم جميعا مسرورين؛ لكونهم أرغموه أن يقول نعم (ينفتح الباب ويظهر بترو مصبوغ الجبين بالدم، فيهجم ماركو عليه ويتلقاه بين ذراعيه)
ولدي ولدي ماذا فعلت؟
بترو (بضعف شديد) :
لا أعلم يا أبت؛ لقد كان الألم عظيما جدا فخفت أن يطول وأن لا أراك فكذبت.
ماركو :
ويلاه، وما العمل الآن؟
الحاجب (يدخل مخاطبا كليمنسا بصوت منخفض) :
إن القارب في انتظارك يا سيدتي، ويمكنك أن تخرجي.
كليمنسا :
يمكنني أن أخرج؟! إذن سأصرح بالحقيقة وسوف أنجيك يا بترو، فلا تخش.
ماركو :
وأنا أذهب معك يا سيدتي.
بترو :
لا تتركني وحدي يا أبت، فمن يعلم إذا كنت أعيش إلى هذا المساء؟
كليمنسا :
كن مرتاح البال، وثق بي، فإني أقسم لك بشرفي أنه إذا كان يجب أن يموت أحد اليوم، فهو المجرم لا أنت، تعالي يا آنلا (تذهبان) .
ماركو :
إنما ينبغي أن لا تخدعينا مرة أخرى يا سيدتي.
بترو :
لا تيأس يا والدي، فالله موجود. (ينزل الستار.)
الفصل الخامس
(غرفة مجلس العشرة.) (إلى الشمال كرسي الرئيس بندوميني وعلى جانبيه في الوسط ستة كراسي، إلى اليمين طاولة أمامها أفوكاتو المجلس.)
المنظر الأول
الرئيس - لورنسو - وسكرتير المجلس - وباقي الأعضاء
السكرتير (يقرأ ورقة الاتهام) :
يا سعادة الرئيس، ويا حضرات الأعضاء، إن الفتى بترو تاسكا، عمره عشرون سنة، وصنعته فران، قد مثل أمامكم منذ يومين؛ متهما بقتل الشريف ألويزو جورو، وقد ثبتت تهمة القتل عليه كل الثبوت بشهادة الشهود، وبآثار الجريمة التي كانت بادية عليه، فإنه فضلا عن كونه مثل أمامكم ملوثا بدم القتيل؛ فقد شهد الخمار فيلنشي، وبرتلو قندلفت الكنيسة وشاهدون آخرون أنهم وجدوه على جثة القتيل عند ارتكاب الجناية، وقد ظهر من التحقيق أن قراب الخنجر الذي بقي مغروزا في صدر القتيل قد وجد مع المتهم، وثبت أيضا أن بين المتهم والمجني عليه عداوة وأحقادا قديمة، وأن المتهم كان مغرما بالفتاة آنلا الخادمة في بيت الشريف لورنسو باربو أحد أعضاء مجلس العشرة، وقد شهدت هذه الفتاة أنه كان يغار عليها ويخاصمها بشأن رجل كان يشاهده بعض الأحايين يرود متخفيا حول القصر الذي تخدم فيه، وقد صرح لها مرارا بأنه ينوي قتله في أول فرصة يلتقي به، وقد اعترفت آنلا المذكورة أن الشريف ألويزو كان يطارحها الغرام، وقد وجد هذا الشريف قتيلا منذ يومين في الظروف التي تقدم شرحها لكم، بعد أن سبق تهديد المتهم للفتاة آنلا بأنه سيقتله عندما يلتقي به، وأن المتهم بعد ارتكابه تلك الجناية لجأ إلى بيت السنيور لورنسو باربو طالبا الحماية، ولما قبض عليه وأودع السجن حاول الهرب منه، وقد ألقي عليه القبض مرة ثانية، وأعيد استنطاقه، فأنكر، ولكنه أقر أخيرا بعد أن استعملت معه وسائط التعذيب فلم يبق ريب في كونه القاتل الحقيقي.
بندوميني :
لقد اكتفى المجلس بما تقدم شرحه، وهو يرى إدانة الجاني بترو تاسكا، والحكم عليه بما يقتضيه القانون.
لورنسو :
سادتي إن حياة الرجل مقدسة، فلا يليق بنا أن نتسرع بإصدار حكم لا نستطيع له ردا فيما بعد.
بندوميني :
لقد كانت حياة الشريف ألويزو مقدسة أيضا، بل هي أولى بالاعتبار؛ لكون صاحبها من الأشراف، وإني أرى الاكتفاء بما تقدم والانتهاء من هذه القضية.
لورنسو :
وأية نهاية نجعلها لها؟
بندوميني :
أتسألني ذلك؟ إن القانون لا يحابي، بل لا بد من إجراء سنن العدل.
لورنسو :
ولكن التهمة لم تثبت على المتهم بأدلة كافية، وإن صوتا سريا يقول لي إنه بريء.
بندوميني :
هذا لا يكفي؛ فإذا كان لديك براهين على براءته فعليك أن تبديها للمجلس، وهو ينظر فيها.
لورنسو :
إن أعظم أدلة الاتهام عليه وجوده فوق جثة القتيل ملطخا بدمه، ولكن هذا غير كاف للحكم عليه؛ لأن العاقل يدرك لأول وهلة أن القاتل لا يلبث على جثة قتيله، بل أول ما يعمله أنه يهرب ولا يدع نفسه يؤخذ بسهولة.
بندوميني :
أراك أيها الشريف، تفترض افتراضا لا يثبت أمام الواقع الظاهر للعيان، فإذا كان لديك غير هذا من الأدلة لتبرئته فأبده فإن الوقت ضيق، ولا ينبغي أن يضاع في سماع مثل هذه التخمينات.
لورنسو :
إني لا أخمن تخمينا، ولكني أطلب من هيئة المجلس أن تتروى قبل إصدار الحكم النهائي؛ فإن حياة الإنسان مقدسة، ولا ينبغي المجازفة بها.
بندوميني :
وهل يهمك كثيرا حياة رجل من عامة الناس جنى على حياة شريف من أكبر أشراف البندقية؟
لورنسو :
إني ألتمس تأجيل الحكم، وزيادة البحث والتحري.
بندوميني :
كلا لا فائدة من البحث، فإن التهمة ثابتة ثبوت النهار، وللمجلس مهام أخرى يجب الانتباه إليها.
لورنسو :
أيها السادة، ينبغي علي إذن أن أصرح لكم بأن القاتل الحقيقي هو غير بترو تاسكا.
بندوميني :
ومن هو؟ قل.
لورنسو :
ليسمح لي المجلس بنصف ساعة فآتيه بالبيان الوافي.
بندوميني :
لقد سمحنا لك بما تطلب.
لورنسو :
حسنا (يخرج) . (يدق الرئيس الجرس فيدخل الحاجب.)
بندوميني (للحاجب) :
أدخل المتهم.
المنظر الثاني
بترو - مذكورون (يدخل بترو مستندا إلى ذراع الحاجب، وهو نصف ميت، فيجلسونه على الكرسي المواجهة للرئيس.)
بندوميني :
لا تلجئنا إلى أن نستعمل معك القوة التي لا نريدها لك، بل أجب بالحقيقة على كل سؤال يوجه إليك فذلك أوفق لك.
بترو :
إني لم أكذب قط.
بندوميني :
ألم يأت الشريف لورنسو باربو إلى سجنك هذا الصباح؛ ليعرض عليك وسائل الفرار؟
بترو :
نعم، ولكني لم أقبل بما عرضه علي لوثوقي ببراءتي وبعدالة المجلس.
بندوميني :
مع ذلك فقد ألقي عليك القبض، وأنت فار من السجن تحاول ترك المدينة.
بترو :
نعم.
بندوميني :
من الذي أقنعك بأن تهرب على هذه الصورة بعد أن رفضت ما عرضه عليك الشريف لورنسو باربو؟
بترو :
هل يفيد إخباري المجلس بذلك بينما أنتم مطلعون على الواقع أحسن مني.
بندوميني :
لا تكن وقحا أيها الرجل، وأجب بصراحة عما يوجه إليك، أليس الذين حملوك على الفرار مرسلين من قبل الشريف لورنسو باربو؟ أو ليسوا من عائلته وممن يلوذ به؟
بترو :
نعم.
بندوميني :
كفى فخذوه.
بترو :
بربك يا سيدي، أن تسمع لي رجاء أخيرا، ألتمس أن تحضروا إلي أبي.
بندوميني :
ينبغي عليك الآن أن تفكر بتسوية حسابك مع أب الجميع.
بترو :
أجل ، وإني أنتظركم لديه أيها السادة، وهو سيحاكمكم على محاكمتكم إياي وأنا بريء.
بندوميني :
إن القول بأنك بريء لا يكفي، بل يجب إثبات ذلك، ألم تكن تكره المجني عليه من زمان طويل؟
بترو :
نعم، لا يسعني الإنكار، غير أني لم أسع قط لإيصال الأذية إليه.
بندوميني :
مع ذلك فقد صرحت مرارا أمام الفتاة آنلا أنك ستقتله إذا رأيته.
بترو :
قد يجوز ذلك، ولكني بريء من هذا القتل.
بندوميني :
ألم تكن شديد الغيرة على آنلا؟
بترو :
بلى، ولكني كنت مخطئا بغيرتي هذه؛ لأنها كانت في غير محلها، ويجب أن تعلموا أن ال...
بندوميني :
إننا نعلم ما يكفي، فقد أخبرت آنلا أنك ستقتل خصمك أينما وجدته، وقد اعترفت هي بقولك هذا.
بترو :
نعم، قلت لها ذلك؛ لأني كنت أظن أنه يهواها، ولكن ظهر لي بعد ذلك أنه لم يكن يأتي من أجلها بل من أجل سواها.
بندوميني :
اسكت يا شقي، ولا تزد جرمك بالكذب (يدق الجرس)
أعيدوه إلى سجنه.
بترو :
أقسم برب السماء والأرض يا سادتي، أني بريء من دم هذا الرجل، وأن غيري هو القاتل لا أنا، اسألوا أبي اسألوا لورنسو باربو، فتبدو لكم الحقيقة، وحذار أن تحكموا علي قبل أن تبحثوا وتتأكدوا، وإلا فإن دمي يسقط على رءوسكم.
بندوميني :
خذوه (يذهبون به)
فليمت؛ فإن جريمته ظاهرة كالشمس، أما الشريف لورنسو باربو فسنحاسبه فيما بعد على اشتراكه بتسهيل وسائل الفرار له (يكتب بندوميني الحكم ثم يسلمه للحاجب)
اذهب ونفذ هذا الحكم، ولنشتغل الآن بغير هذه القضية.
المنظر الثالث
لورنسو - مذكورون
لورنسو :
سادتي إن مجلس الكهنة يعترض على تنفيذ حكم غير قانوني؛ فقد ظهرت أدلة جديدة.
بندوميني :
إن مجلس الكهنة يمكنه أن يوقف أحكام مجلس الأربعين، ولا سلطة له على حكم يصدره مجلس العشرة، هذا ما أجيبك به أيها الشريف.
لورنسو :
أهكذا تقوم بوعدك لي أيها الرئيس؟
بندوميني :
إن الوقت الذي أعطيناك إياه قد مضى، وقد قرر المجلس بغيابك تنفيذ الحكم.
لورنسو :
ولكني أعترض على هذا الحكم.
بندوميني :
إن اعتراضك جاء بعد الأوان ، فالحكم قد صدر، وصار موضع التنفيذ وربما يكون قد نفذ الآن، وانتهى الأمر.
لورنسو (ينهض) :
أظن يا سيدي أنك تتكلم بدون روية.
بندوميني :
أنا لا أمزح في مسألة يتعلق بها موت أو حياة.
لورنسو :
ولكني أراك تحكم حكما لا أساس له، فأرجوك أن تصغي إلي قليلا (يسمع جلبة من الداخل، وماركو يقول دعوني أدخل، إني أريد أن أرى القضاة) .
المنظر الرابع
ماركو - مذكورون
بندوميني :
كيف تجرأت أن تدخل إلى مجلس العشرة من أجل مجرم قد قبض عليه.
ماركو :
كلا لم يقبض عليه بعد. الحمد لله أن براءته ظهرت كالشمس. تكلم يا سنيور لورنسو. أثبت ما وعدت به بشرفك.
لورنسو :
نعم، يجب التصريح بالحقيقة، اسمع أيها الشريف بندوميني، إن أحدنا القاتل لا بترو تاسكا. انظر مليا إلى هذا الخنجر الذي أمامك.
بندوميني :
لقد نظرت إليه كفاية.
لورنسو :
بل افحصه جيدا، أليس عليه علامة الشرفاء محفورة في قبضته؟
بندوميني (يفحص الخنجر) :
أجل.
لورنسو :
وهذه العلامة ألا يجب أن تكون هي علامة القاتل؟
بندوميني :
بلى، ولكنها علامتك أنت أيها الشريف. (سكوت.)
ماركو :
آه أرأيتم الآن أيها السادة، أن ابني ليس القاتل؟
بندوميني :
ولكن لماذا تأخرت إلى الآن بهذا التصريح؟
لورنسو :
لأني كنت أحاول خلاصه بواسطة أخرى من غير أن أشكو نفسي، نعم، أنا بيدي أيها السادة ارتكبت هذه الجناية التي عزيت ظلما لهذا المسكين، أنا الذي انتقمت لشرفي بالقتل.
ماركو :
ولدي ولدي. أين هو؟
بندوميني :
وا أسفاه ربما يكون قد مثل الآن أمام الديان العادل يطالبه بدم سفكناه ظلما (يدق الجرس للحاجب)
اركض حالا، وأوقف التنفيذ (صوت من الداخل جهوري يقول: لقد نفذ الحكم بالإعدام بموجب أمر مجلس العشرة على بترو تاسكا الفران لارتكابه جريمة القتل) . (ذهول عمومي.) (يرمي ماركو نفسه على النافذة بلا حراك، ثم يرجع ويصيح بأعلى صوته.)
ماركو :
وا ولداه لقد قتلوا ولدي (يقع مغمى عليه) . (سكوت.)
لورنسو :
أأرضاك الآن ما فعلت أيها الرئيس، إنك تستطيع اليوم أن تجهر بحكمك العادل في كل الأرض، من منكم يستطيع الآن رد ما فات؟
بندوميني :
إن الذنب عليك أيها الشريف.
لورنسو :
الذنب علي وعليك أيضا.
بندوميني :
إني إذا كنت قد أخطأت فسأصلح خطئي.
ماركو :
وكيف؟ (ينهض.)
بندوميني :
سأعيد لولدك شرفه بإعلان براءته.
ماركو :
ولكن حياته، حياته هل تعيدها إلي؟
بندوميني :
إنه ما دام في البندقية حجر على حجر سيبقى اسم بترو تاسكا مقدسا في عيون الناس، وسيشاد له في الموضع الذي قتل به مقام ينار ليلا نهارا، ويظل محجا للناس إلى الأبد.
ماركو :
ولكنه مات، ولكنه مات.
بندوميني :
إني أعاهد الله ألا أمضي فيما بعد حكما بالإعدام حتى يقول لي ضميري تذكر، تذكر الفران المسكين.
ماركو :
بصياح هائل: ولكن ولدي مات أيها القاضي، فمن يرد علي ولدي؟ (ينزل الستار، وبه تتم الرواية.)
Página desconocida