كان يستقبل الضرائب بصدر واسع ولكن إلى حين، ثم يهب الخلاف، فالشجار، فالاقتتال، فالثورة التي تلتهم الأخضر واليابس، وما أظنني تعديت الحقيقة حين سميت مضيق نهر الكلب، وما نقش على صخوره من أسماء فاتحين مروا من هنا بسجل التشريفات، ولكن هذا التشريف كان للتكليف وضب ثروة البلاد في أعدال الفاتحين، على الماشي، واستعباد الشعب اللبناني وأخذ رغيفه، بل دمه إذا قاوم وأبى. وحسبك أن تقرأ فاتحة هذا الكتاب أو عرض الحال، كما نسميه اليوم، لتستدل على المقدار الذي بلغته العبودية، قد كتبه أحد الحاكمين من المواطنين إلى أحد المستعمرين:
إلى الملك سيدي وإلهي ونوري وشمس السماء فلان ...
أنا عبدك وتراب قدميك. إني أخر على أقدام سيدي سبع مرات، وأنطرح سبعا على صدري وظهري ... إلخ.
الإمضاء: كلب الملك فلان
ولماذا نقطع مسافة ألفي سنة وأكثر لنقع على مثل هذا النص، أما كانوا منذ نصف قرن أو أكثر قليلا يكتبون للبطرك وللبابا: غب لثم ثرى مواطئ أقدامكم؟!
وبعدما أطاح الظلم والاستبداد بأمراء لبنان كان له أخيرا سنة 1860 نظام جديد عرف ببروتوكول لبنان، أوقفت الضرائب فيه عند حد فلم تعد تتجاوزها، واطمأن الفلاح إلى رغيفه. وكان السهر على حياة أموال الخزينة شديدا بعد سنة الستين. فعشر بارات أو خمس بارات، يأخذها شيخ الصلح - وهو ينتخب من أهالي القرية البالغين الراشدين - الذي كان يجبي مال الخزينة من كل قرية كانت تكفي لعزله وحبسه. وقد ضرب المثل بقولهم عند استعظام الأمر: حل عني، لك عندي تسعة إلا ربع!
سئلت مرة عن هذا التعبير وحكايته فلم أهتد إلى فك لغزه، ولكني عرفت أصله وفصله بعد حين. وذاك أن الذين وضعوا برتوكول لبنان بعد سنة الستين، فرضوا على الرأس اللبناني تسعة قروش إلا ربعا يؤديها جزية كل سنة، ومنها ومن مال الخراج تتكون ميزانية لبنان التي تنفق على إدارته. كانت هذه الأموال معاشا لموظفيه، وستعلم تفصيل ذلك من تلقاء نفسك في الفصل القادم - توزيع الميرة - وقبل حكي الحكاية فلنعرفك بالذين تقلبوا علينا من حكام سواء كانوا زوارا عابرين أو ضيوفا مقيمين.
لا يعنيني أن أحدثك عن تزاوج الآلهة والآلهات في هذا البلد الطيب، فهذا ما تجد الكتب مشحونة به، وتسمع بأذنيك رنين الشعراء الذين تغنوا بأساطير الآلهة وأعراسهم، وشهور العسل التي كانوا يقضونها تارة في السموات العلى، وطورا على الأرض.
لسنا نكتب تاريخا، وإنما ندون فصلا لا بد منه لفهم عقلية هذا الكوكتيل العجيب من الأمم والشعوب، فالمرحوم جدنا آدم هو من مواليد لبنان في نظر المتزمتين منا. وقد أضاع العلماء وقتهم ليثبتوا لنا ذلك، وكان تعاون آدم وتسليه في وحدته ستنا حواء حين رق له قلب الله، وأخذها ضلعا من أضلاعه بعدما بنجه، وكانت كل معدات هذه العملية الجراحية كلمة كن فكان ثم كوني فكانت ... أما أدونيس والزهرة، فكان عشهما في جبالنا وأوديتنا حقا؛ لأن الآثار لا تكذب، وهي ناطقة في كل مكان تدلنا على جمال أدونيس وشبقه
5
Página desconocida