وتابع القارئ قائلا: «ولتحقق ذلك كشف له رداءه، وأراه النار وكثرة الأفاعي، التي كانت تعذبه. قال هذا وغاب عنه.»
فقرعت الهركولة صدرها وقالت: يا عضرا نجينا.
وفي نهاية الفصل عبارة وجيزة يسمونها نافذة، يكررها العباد ثلاث مرات. أما نافذة هذا اليوم فكانت: الشكر لك أيتها البتول لأني لا أحترق.
فرددوها ثلاثا، وكان أبرز الأصوات صوت الهركولة، ولكنها قالت في النهاية بدون وعي: قرياقوس جا. فضحك فريق وتوقر آخرون، وطار الخبر في الضيعة، فظن الخصوم أن الخوري يوسف مسرح هو الذي سعى لإخلاء سبيله، فأعدوا العدة لاستقبال الخوري عند عودته استقبالا لائقا.
الفصل التاسع
خوري مسرح
في القرى مآس ومهازل تمثل كل حين، ولا تنصب لها أخشاب ولا ترخى ستائر. إنها تمثل في كل مكان: في البيت، في الكنيسة، وفي الحقل، أبطالها كأبطال الروايات والروائع وإن ظلت شهرتها محلية. إن حياة الخوري يوسف بطرس أبي إبراهيم، المشهور بالخوري مسرح، نسبة إلى قريته، مأساة ومهزلة في وقت معا. تراه فتحس أنك أمام مهرج وممثل جدي في وقت واحد.
المعروف عنه أنه خوري بتول، عفيف طاهر الذيل، ومنهم من زعم أنه لم ينظر إلى امرأة قط، حتى امرأة أخيه التي كانت تقيم وإياه تحت سقف واحد. ولما أنس من نفسه ضعفا بشريا، كما يسمي الغريزة رجال الدين، وخاف من نفسه الأمارة بالسوء، قعد الخوري وحده في بيته الذي ورثه عن أبيه؛ ابتعد عن أهله الأدنين خوفا من أن يجربه إبليس الملعون، ويعمل بشريعة موسى فيقيم سهوا زرعا لأخيه ... انفرد خشية أن يتهمه الناس بما كان يتهم هو غيره من الكهنة المتبتلين، وكان إذا سئل عن سبب عزلته عن الناس سالت الآية الإنجيلية على لسانه: «الويل للعالم من الشكوك ...» عرف المحترم - كما قلنا - بنسبته إلى «مسرح» وهي قرية منعزلة هادئة مطمئنة، ولكن الهدوء فارقها حين حلت نعمة الروح القدس على هامة الخوري يوسف، تلك الهامة المستطيلة كالكوساية الهرمة التي غفل البستاني عن قطافها.
يسمون الكهنوت عندنا «دعوة » من الله، ولكن المرجح أن الله بريء من كهنوت هذا الخوري وغيره من الكهنة، فكهنوته كهنوت خبز كجميع الكهنة إلا نفرا قليلا، وما كذب من قال عن أحد هؤلاء حين سيم كاهنا: فتح دكان خوري. وقد صدق في الأكثرين؛ لأن للابس هذا الثوب، بضاعة لا تبور، يرافق الإنسان قبل الولادة ويلحقه إلى القبر.
أراد الخوري يوسف أن يخلف عمه في الولاية على وقف العائلة، فتعلم العلوم الضرورية للكاهن، وزاد عليها ما استطاع تحصيله من علوم الصرف والنحو. أتقن العربية والسريانية، وكان ذا قريحة لا بأس بها ولسان طلق دفعه لتعلم «الشريعة» راجيا أن يتولى يوما كرسي القضاء اللبناني، كالخوري العقيقي، والفاخوري، ويوحنا حبيب، والخوري يوسف الشاعر. ولكن ما كان به من خفة عقل وغفلة حال دون ذلك، فقضى حياته متنقلا بين عين كفاع ومسرح على فرس لا أصل لها. هي كديشة لا فرس، والخوري يؤكد أن فرسه التي سماها سعدى تيمنا ببنت بيت كريم، ذات حسب ونسب. حجة المرحومة أمها معه، وهي مسلسلة حتى جدتها العليا النعامة، فرس ابن عباد، معارض المهلهل في قصيدته اللامية المشهورة، وهي صقلاوية نجمة الصبح.
Página desconocida