بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما
مقدمة المؤلف
(قال سيدنا وسندنا المولى الكبير، والعلم الشهير المنير، الولي العارف، والمربي الملاطف، قطب وقته، وفريد عصره، أستاذ الزمان وبركة الوقت والأوان، إمام الحضرة والطريقة، ومعدن السلوك والحقيقة: محمد المالكي، الشاذلي، الوفائي، الشهير بأبي المواهب): الحمد لله الذي أباح وفسح مجال الغناء رغما لأنف أهل الجهل الأغبياء، وأراح به بواطن أهل السلوك من الصوفية الأصفياء، وجعله لهم معراجا للأرواح وراحة من كدورات الأطغياء وأنسوا به في غربة السير في عالم الأشباح مع إخوانهم الأتقياء، كيف لا؟ وهو عرس للأرواح للسادة الأولياء، يريح الأرواح، ويخفف الأشباح، ويذهب الأتراح، ويأتي بالأفراح (ويؤنس الإشراق ولمعان الضياء.) نحمده ﷾ على ما فهمنا معاني،
1 / 45
وأطلعنا على اسراره الخفية في مبانيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: شهادة شهود لكمال تفرد فردانيته، وتحققا بتنزيه جلال أحديته، وأشهد أن أكمل متبوع من الرسل والأنبياء سيدنا ومولانا محمد جامع دواير الكمال، من ألبسه الله حلة الجمال، وتوجه بتاج الوقار والجلال، ورضي الله عن الصحابة الكرام الأكابر، أيمة الهدى والإقتداء (الأوائل والأواخر وسلم عليه وعليهم تسليما كثيرا) .
أما بعد فهذه فوائد تتعلق بإباحة السماع والغناء، سبب جمعها إنكار الجهال،
1 / 46
ووقوع الأندال في الأبدال (وحسد أهل الأكدار من الأغيار الأحبار الأبرار) .
1 / 47
أقسام الغناء
القسم الأول
بغير آلة ملحن بألحان
اعلم أن الغناء ثلاثة أقسام: قسم ساذج بغير آلة ملحن بألحان، فذهب قوم إلى إباحته من غير كراهة - وهو مذهب أكثر الفقهاء - مع أمن الفتنة والسلامة من المنكر.
(قالوا ﵃ (: ونقل هذا عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وعن جماعة من التابعين، فمن الصحابة: عمر بن الخطاب
1 / 49
وعثمان بن عفان وأبو عبيده بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وأبو مسعود الأنصاري، وبلال وعبد الله بن الأرقم، وأسامة بن زيد وعبد الرحمان بن عوف وحمزة بن عبد المطلب وعبد الله بن عمر، والبراء بن مالك، وعبد الله بن الزبير، وعمر بن العاص ومعاوية والنعمان بن بشير، وحسان بن ثابت، والمغيرة بن شعبة، وعائشة أم المؤمنين. ومن التابعين: سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمان بن حسان، وخارجه بن زيد، وشريح القاضي، وسعيد بن جبير، وعامر الشعبي، وعبد الله بن أبي عتيق، وعطاء بن أبي رباح، وعمر بن عبد العزيز. ومن غير التابعين من العلماء المجتهدين: ابن جريج والعنبري، ونقل عن: مالك،
1 / 50
والشافعي، وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وسفيان بن عيينة، وقال به القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني، وأبو بكر بن مجاهد، واختاره من الشافعية الأستاذ أبو منصور البغدادي، والأستاذ أبو القاسم القشيري والداركي، والحليمي، وإمام الحرمين والماوردي، والروياني ومحلي، وحكى الغزالي الإتفاق عليه، واختاره القاضي أبو بكر بن العربي من المالكية، ذكر ذلك في أحكام القرآن له وفي كتاب العارضة: شرح له على الترمذي، وحكاه ابن رشيق في عمدته عن جماعة من المالكية، وقال القاضي: ناصر الدين بن المنير في فتواه: إذا كان بشرط في محله من أهله فالسماع صحيح.
واختاره من الحنابلة: الخلال: صاحب الجامع، واختاره صاحب
1 / 51
المستوعب، عن جماعة منهم. وهو مذهب الظاهرية، حكاه ابن حزم وصنف فيه، وابن طاهر، ونقل اجماع الصحابة والتابعين عليه ونقل ابن قتيبة وتاج الدين الفزاري: مفتي الشافعية وشيخهم بدمشق: إجماع أهل الحرمين عليه. ونقله صاحب النهاية في شرح الهداية من الحنفية، وقال بعضهم: إذا كان لدفع الوحشة عن النفس فلا بأس به، وبه أخذ شمس الأيمة: السرخسي، واستدل عليه بأن أنسا: صاحب رسول الله ﷺ كان يفعل ذلك. واختاره من متأخري الأئمة: الإمام: عز الدين بن عبد السلام الشافعي الإمام: تقي الدين بن دقيق العيد
1 / 52
الإمام: بدر الدين بن جماعة
ومن العلماء من قسمه إلى: مباح ومستحب، وجعل من المستحب الغناء في العرس ونحوه، والمباح فيما سوى ذلك، قال الإمام عز الدين - في القواعد -: من كان عنده هوى من مباح كعشق زوجته وأمته فسماعه لا بأس به. ومن قال: لا أجد في نفسي شيئا. فالسماع - في حقه - ليس بمحرم. وقال - في فتواه للشيخ أبي عبد الله بن النعمان -: سماع ما يحرك الأحوال السنية المذكرة للآخرة مندوب. وقاله الغزالي في الإحياء. وقال الإمام أبو بكر بن فورك: من سمع الغناء والقول على تأويل نطق به القرآن أو جاءت به السنة، أو على طريق الرغبة إلى الله تعالى أو الرهبة منه، فهنيئا له، ومن سمعه على اعتقاد معنى في المسموع في الأنبياء والأولياء فحاله أتم ممن تقدمه وهو الذي يسمع في جاريته أو في زوجته، ومن سمعه على حظ نفسه في القينات - لاحظ روحه وقلبه - فليستغفر الله تعالى. ولهذا قال الجنيد رضي الله
1 / 53
عنه: الناس في السماع على ثلاثة أضرب: العوام والزهاد والعارفون، فأما العوام فحرام عليهم لبقاء نفوسهم، وأما الزهاد فيباح لهم لحصول مجاهدتهم، وأما أصحابنا فيستحب لهم. وإلى هذا ذهب أبو طالب المكي في القوت، والسهروردي في العوارف، وقال أبو طالب: لو أنكرنا السماع من غير تفصيل فقد أنكرنا على سبعين صديقا. وقال السهروردي: المنكر للسماع. إما جاهل بالسنن والآثار وإما مغتر بما أتيح له من أعمال الأخيار وإما جامد الطبع لا ذوق له فيصر على الإنكار. قال بعض العارفين: السماع لما سمع له، كماء زمزم لما شرب له. قال رسول الله ﷺ:
1 / 54
إنما الأعمال بالنيات. قال الأستاذ الكبير أبو القاسم الجنيد:
وغنّى لي من قلبي وغنّيت كما غنّى ... وكنا حيثما كانوا وكانوا حيثما كنا
1 / 55
القسم الثاني
في الغناء المقارن للدف والشبابة
فقال أصحابنا المالكية: من السنة إعلان النكاح بالدف وحكاه شارح المقنع عن الحنابلة وأبو بكر العامري عن الشافعية. وذهبت طائفة إلى إباحته مطلقا وعليه جرى إمام الحرمين، والغزالي، وحكى غير واحد من الشافعية وجهين في غير النكاح والختان، وصحح الرافعي الجواز، وكذا القاضي أبو بكر بن العربي من المالكية.
1 / 57
وأما الشبابة - وهي القصبة المثقبة: قال أصحاب الموسيقى: إنها آلة كاملة وافية بجميع النغمات - فاختلف العلماء فيها: فذهبت طائفة إلى التحريم وذهبت طائفة إلى الإباحة، وهو مذهب جماعة من الشافعية، واختاره الغزالي، والعامري، والرافعي - في الشرح الصغير - وقال: انه الأظهر، وقال - في الكبير -: إنه الأقرب، واختاره الإمام: عز الدين بن عبد السلام، والإمام تقي الدين بن دقيق العيد، والإمام قاضي القضاة: ابن جماعة: وقال تاج الدين الشريسي: إنه مقتضى المذهب، وقال الرافعي: إن نبي الله داود ﵊ كان يضرب بها في غنمه، قال: وروى عن الصحابة
1 / 58
الترخيص في الراعى.
قالوا: والشبابة تجري الدمع، وترقق القلب، وتحث على السير، وتجمع البهائم إذا سرحت، ولم يزل أهل الصلاح والمعارف والعلم يحضرون السماع بالشبابة، وتجري على أيديهم الكرامات الظاهرة، وتحصل لهم الأحوال السنية، ومرتكب المحرم - لا سيما إذا أصر عليه - يفسق به وقد صرح إمام الحرمين، والمتولي وغيرهما من الأيمة بامتناع جريان الكرامة على يد الفاسق.
1 / 59
القسم الثالث
وهو سماع الغناء بالأوتار وسائر المزامير
أما العود - وهو معروف، ويقال إن أول من صنعه مالك بن آدم ابي البشر ﵇ لما مات ولده، وقيل صنعه أهل الهند على طبائع الإنسان - فقد اختلف العلماء فيه وفيما جرى
1 / 61
مجراه من الالات المعروفة ذوات الأوتار، فالمشهور من مذاهب الأيمة الأربعة أن الضرب به وسماعه حرام وذهبت طائفة إلى جوازه، ونقل سماعه عن: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، ومعاوية بن أبي سفيان
1 / 62
وعمر بن العاص، وغيرهم. ومن التابعين عن: خارجة بن زيد وعبد الرحمان بن حسان، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، وابن أبي عتيق، وأكثر فقهاء المدينة، ونقل عن مالك سماعه وليس ذلك بالمعروف عند أصحابه، وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي - في كتابه شرح الترمذي الذي سماه بالعارضة لما تكلم على إباحة الغناء -: وإن زاد فيه أحد على ما كان في عهد النبي ﷺ عودا يصوت عليه نغمة فقد دخل في قوله: مزمار الشيطان في بيت رسول الله ﷺ؟! فقال: دعهما فإنه يوم عيد، وإن اتصل نقرطنبور به، فلا يؤثر أيضا في تحريمه، فإنها كلها آلات تتعلق بها قلوب الضعفاء وللنفس عليها استراحة وطرح لثقل الجد الذي لا تحمله كل نفس: ولا يتعلق به قلب، فإن تعلقت به نفس فقد سمح الشرع لها فيه العود
1 / 63
يسمى طنبورا، وهو المعروف في اللغة. وحكى إباحته المارودي عن بعض الشافعية، ومال إليه الأستاذ: أبو منصور البغدادي، ونقل عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه كان مذهبه ومشهورا عنه، وأنه لم ينقل عن أحد من العلماء أنه أنكره عليه، حكاه ابن طاهر المقدسي عنه، وكان قد عاصر الشيخ، وحكاه عن أهل المدينة، وادعى أنه لا خلاف بينهم فيه، وكان إبراهيم بن سعد: من علماء المدينة يقول بإباحته، ولا يحدث حديثا حتى يضرب به، ولما قدم بغداد واجتمع بالخليفة هارون قال له: حدثنا يا إبراهيم حديثا، ائتني بالعود يا أمير المؤمنين، قال: أتريد عود المجمر أم
1 / 64
عود الغناء؟ قال: لا، عود الغناء، فأحضره له فضرب به وغناه ثم حدثه. وإبراهيم بن سعد أحد شيوخ الشافعي ﵁، وروى عنه البخاري، وهو إمام مجتهد مشهور، عدل بارز ثقة مأمون، ولما ضرب بالعود بين يدي هارون الرشيد قال له يا إبراهيم من قال بتحريم هذا من علمائكم؟ قال: من ربطه الله يا أمير المؤمنين. وذكر الإمام ابن عرفة - في مختصره الفقهي عن إبراهيم بن سعد - إباحة الغناء بالعود، ونقل الإمام المازري من أصحابنا المالكية عن عبد الله بن عبد الحكم أنه مكروه، وحكي عن الإمام عز الدين بن عبد السلام أنه مباح، ثم اختلف الذين ذهبوا إلى تحريمه هل هو كبيرة أو صغيرة؟ والأصح - عند المتأخرين من الشافعية أنه صغيرة،
1 / 65
وهو اختيار إمام الحرمين ولا ترد بسماعه شهادة وحكى المازري في شرح التلقين عن ابن عبد الحكم أنه قال: إذا كان في عرس أو صنيع فلا ترد به شهادة، قال الأستاذ: شرف الدين بن الفارض ﵁:
ولاتك باللاهي عن اللهو معرضا ... فهزل الملاهي جّد نفس مجدة.
1 / 66
فصل في الرقص
وقد اختلف فيه الفقهاء: فذهبت طائفة إلى الكراهة، منهم: القفال حكاه الروياني في البحر، وقال الأستاذ: أبو منصور: تكلف الرقص على الإيقاع مكروه. وذهبت طائفة إلى اباحته، قال صاحب العمدة من الشافعية: الغناء مباح أصله، وكذلك ضرب القضيب، والرقص،
1 / 67