Farah Antun: su vida, su literatura y extractos de sus obras
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
Géneros
وإنما أردنا بحب الكاتب صناعته وطلبها لذاتها: مقاومة داءين شديدي الفتك؛ الداء الأول: يأس كثيرين من الكتاب من صناعة الأدب في الشرق؛ ولذلك يولولون عليها ويقيمون المآتم حزنا لموتها. وهذا الأمر يسبب ضررين؛ الأول: الحط من كرامة الأدب لدى قرائه، والثاني: إزالة الثقة من نفوس أولئك الكتاب، ومتى زالت من نفس الكاتب ثقته في نفسه وفي صناعته، فقد قضى على نفسه وعلى صناعته وعلى قرائه، ولم يعد يقدر أن يصنع شيئا مفيدا، فالأجدر به في هذه الحالة أن يترك القلم بسكون وهدوء، ويطلب الرزق من باب آخر. والداء الثاني: اتخاذ الأدب شباكا لصيد الذهب. وهذه آفة الأدب في الشرق. ولسنا ممن يحرمون الغنى على طلاب الأدب، ولكنا ممن يحرمون في الأدب جعل المال في المرتبة الأولى، والعلم والأدب في المرتبة الثانية؛ لأن صناعة الأدب ليست بصناعة تجارية، ومن يريد معاملتها معاملة التجارة فهو غير أهل لأن يكون منها. وسبب ذلك أن موضوع الأدب خدمة الجمهور، كما تقدم، وهذه الخدمة تقتضي أن تعطي الجمهور من قوتك ومن نفسك أكثر ما يمكنك إعطاؤه؛ فالكاتب الذي لا يطلب صناعته لذاتها بل لأجرتها يكتفي في أكثر الأحيان بملء الورق بما يكون قريب المنال؛ إذ غرضه ربح المال لا إبراز أرقى ما يمكنه إبرازه من قوى نفسه. وبذلك يصبح الجمهور مغبونا، والأدب مظلوما؛ لأنه ينحط بهذه الطريقة، ولا يمكن أن يترقى معها، وحينئذ يتساءل الناس: لماذا لا تؤثر الأقلام في النفوس؟ مع أن السبب معروف محسوس. وإن قيل إن التبعة في هذه الحالة واقعة على الجمهور لأنه لا ينشط أهل العلم والأدب التنشيط الواجب ليسد حاجاتهم، ويجعلهم يطلبون صناعتهم لذاتها، فالجواب: إن على الجمهور تبعة عظيمة في هذا الأمر، ولكن هذا لا يخفف التبعة التي على الكاتب؛ إذ متى وجد كتاب يطلبون العلم والأدب لذاتهما، فإنه يكون عندهم الفقر والغنى سببين في هذه الصناعة؛ لأن الغنى الذي في النفوس لا تنقص قيمته عن الغنى الذي في الخزائن، إن لم نقل إنه أفضل منه.
الحاجة الرابعة:
وأما الحاجة الرابعة فهي مختصة بقلم الكاتب، ونريد بها تضلعه من المواضيع التي يكتب فيها.
وهذه الحاجة تقسم عندنا إلى قسمين: المادة ولباسها؛ أي الأفكار والألفاظ التي يعبر بها عنها، والأسلوب الذي يجري هذا التعبير به.
أما المادة فهي تكاد تكون موجودة في كل يد ... فإن كل كاتب يكفيه لخوض أبواب السياسة والتاريخ والعلم الأدبي والعلم الطبيعي والفلسفة أن يفتح أي جريدة أوروبية أو أي كتاب أوروبي ... وهذا من فضل اللغات الأجنبية التي تسهل للكتاب طريق هذه العلوم التي تعب المؤلفون عشرات السنين في سبيل تحصيلها، ولكن الحق يقال: ليس الذنب في ذلك للشرقيين، بل للناموس الطبيعي، فإننا الآن في عصر يسميه علماء العمران: عصر القرود، يريدون به عصر التشبه بالغير والتقليد، وإذا ساعدت الأحوال المعارف الشرقية، فإنها ستنتقل - إن شاء الله - من طور الاتباع إلى طور الابتداع، وحينئذ ينبغ في الشرق المبتكرون والمخترعون، ولا نعود نرى المعارف الشرقية عبارة عن نسخة من المعارف الأوروبية، وصدى لمجلاتها وجرائدها العلمية والسياسية، بل يكون الباحث في الكيمياء معتمدا في بحثه على معمله لا على مجلته، والباحث في التاريخ معتمدا على سياحاته لدرس الآثار في أماكنها الأصلية، لا على الكتب والأوراق، وهلم جرا. وربما وصل الشرق إلى هذا الزمن بعد قرن أو نصف قرن إذا ساعدته الأحوال، وكثر قراء اللغة العربية فيه كثرة تمكن أحد الكتاب من التفرغ لكتابة كتاب واحد في عامين أو ثلاثة؛ أي إن الكاتب يستفيد من كتابه هذا بعد كتابته ونشره فائدة مالية تكافئ أتعابه ونفقاته.
وبما أن المادة صارت اليوم موجودة في كل يد - كما تقدم - فقد صار الفضل والصعوبة في الأسلوب الذي تبرز به، ورب مادة يعطاها كاتبان فيصنع أحدهما منها فصلا ترقص له عجائز وائل، ويصنع الآخر منها فصلا لا يقرؤه أحد. وهنا مذهبان مختلفان يتنازعان الكتاب في كل أمة تقريبا؛ المذهب الأول: مذهب الذين يعتمدون على قواعد السلف وأصولهم في الكتابة والتأليف، فلا يخرجون عنها قيد أصبع، والمذهب الثاني: مذهب الذين يحكمون عقولهم وأفهامهم في جميع شئونهم، ويكرهون التقليد إذا لم يكن في محله، ويرومون أن يكتبوا كما يشعرون، وعندنا لهذين الفريقين كلمة تدل عليهما أحسن دلالة، وهي أن الفريق الأول يهتم بالألفاظ قبل اهتمامه بالمعاني، والفريق الثاني يهتم بالمعاني قبل اهتمامه بالألفاظ.
ومهما صرخ أنصار المذهب الأول، فإن مذهبهم آخذ في الانقراض؛ لأن تلك الأسجاع الضخمة والألفاظ المنتفخة كأنها الهر يحكي الأسد، قد نبتت في المعد، وصارت في كل يد، كما قال الهمذاني، رحمه الله، وإذا قابلت بين أسلوب الكتابة العربية منذ 30 سنة وبين أسلوبها اليوم؛ رأيت الفرق بين الأسلوبين، وإن قيل إنه قد بقي إلى اليوم شيء من تلك الأسجاع والألفاظ المترادفة والتعابير الخطابية التي تسرد منها سطرين أو ثلاثة، ولا يكون تحتها إلا فكر واحد - كأنها صبيرة طمسن - نقول: ما ذلك إلا لأن هذا الأسلوب أصلا مكينا في نفس اللغة العربية، وهذا الأصل لا يموت وينقرض تماما إلا بانقراض طلابه، ولكنه الآن يموت شيئا فشيئا، ولا أمل بإحيائه إلا بطريقة واحدة. وهذه الطريقة يرضى بها حتى أصحاب المذهب الثاني، وهي أن يعود مؤسسو ذلك الأصل من قبورهم الأبدية، ويكتبوا لنا مثل كتاباتهم الماضية، فحينئذ نقبل منهم ذلك بكل سرور ورضى؛ لأن كتابتهم أرقى ما يتصور الإنسان كتابته في هذا النوع.
وكيف إذا قام الهمذاني من قبره وكتب شيئا من رسائله يمكننا أن نقول له اترك هذا فقد ذهب وقته؟ وكيف إذا قام ابن المقفع بلغته السهلة البليغة المفهومة ليعرب عن الهندية كتابا آخر - ككليلة ودمنة - يمكننا أن نقول له عربه بلغة الكتابة العصرية لا بلغتك؟ كلا، إننا لا نقول لهما ذلك، وإنما نقوله بلا تردد للذين يحاولون تقليدهما في هذا العصر ولا يكون لهما مقدرتهما، وقد قيل: بين المقلد والمقلد ما بين التكحل والكحل. وإن قيل إن الأموات لا يعودون، بل ينبغ من الأحياء من يقوم مقامهم ويبلغ منزلتهم، فالجواب: أين الذي يضمن لنفسه نفسا كنفوسهم، ثم يصرف قواها كلها عشرين سنة أو أربعين في درس كتب اللغة والأدب ليبلغ منزلتهم فيها؟ ثم إذا كان مثل هذا الانقطاع ممكنا في الشرق، ألا يكون من الجناية على الشرق جعله للغة والألفاظ بدل جعله للعلم الحقيقي الذي يرقي الأمم وينقلها من حال إلى حال؟
فالأفكار الأفكار، المعاني المعاني. هذا هو الغرض الحقيقي من الكتابة؛ لأن الألفاظ ليست سوى لباس أو قشور للمعاني.
بقى الأسلوب الذي هو صلة بين الألفاظ وبين المعاني؛ لأنه قالبها الذي
Página desconocida