التجمعات البشرية المسرحية كانت تحدث بعيدا عن هذا الشكل الرسمي بنفس تلقائية حددتها في أي زمان ومكان، تلقائية سرعان ما ابتكر لها الشعب مناسبات شعبية محضة لا تمت إلى الدين أو الحاكم أو أكل العيش بصلة، ولهذا ظلت سارية مهما تغير شكل الحضارة في مصر أو نوع الحكم أو تغيرت الديانات، بل حتى رغم مقاومة الدين، فالخروج إلى المقابر كثيرا ما قاومه الإسلام وندد به خطباء المساجد، ولكن أحدا لم يستطع منع النساء وقد فرض عليهن الحجاب إلى الخروج إلى المقابر لمزاولة غريزة التجمع. وحفلات الذكر ليست سوى تجمعات الرقص الديني الفرعوني وقد أخذت ثوب الإسلام.
ولكننا لا نزال لم نصل بعد إلى التمسرح أو التجمع الناطق المنقسم إلى ممثلين وجمهور. وأنا لا أستعمل كل هذه الصفات من باب التفاصح؛ لأني حقيقة أريد أن أصف بها المسرح كما نعرفه وكما لا يزال بعضنا يخطئ في فهمه. فالمسرح ليس هو المكان أو الاجتماع الذي «تتفرج» فيه على شيء، إن هذا ابتكر له شعبنا كلمة «فرجة» أو رؤية ومشاهدة. أما المسرح فهو اجتماع لا بد أن يشترك فيه كل فرد من أفراد الحاضرين، مثله مثل الرقص من بدائيته إلى احتفالات قصر الملكة فيكتوريا، لا يسمى رقصا إلا إذا اشترك في الرقص كل الحاضرين، أو الأغنية الجماعية لا تعد جماعية إلا إذا غناها كل الناس معا؛ لأنه في كل تلك الأشكال المسرحية لا بد من توفر عنصرين؛ أولا: الجماعة والحضور الجماعي، وثانيا: قيام الجماعة كلها بعمل ما. وقد نسأل: وماذا إذن عن الأشكال التي نذهب لنتفرج فيها على راقص أو نسمع مغنية تغني أو نشهد فيها فيلما؟ أليست أشكالا مسرحية؟ والجواب لا، ليست أشكالا مسرحية، وليست إلا إشباعا فرديا لا يمكن أن يغني أو يحل محل الإشباع الجماعي. هذه الأشكال ازدهرت فقط في بلادنا بالذات لأسباب لا علاقة لها بالمسرح، ازدهرت لأن الأديان السماوية اعتبرت كافة الاحتفالات الجماعية أشكالا وثنية متخلفة حرمت القيام بها. وهكذا نشأ «تابو» جماعي ضدها وأصبحت مزاولتها مقصورة على الأفراد الساقطين في نظر المجتمع الذين طردهم المجتمع فسقطت عنهم كل تابوهاته ومحرماته، بل أصبحوا هم أنفسهم تابوها مجرما على المجتمع، وبحيث أصبح كل ما يزاولونه لا خطر البتة من تقليده أو تسرب عدواه إلى الأجيال الناشئة. ومعظم هؤلاء الساقطين كانوا لسوء الحظ فنانين، وكانوا يكونون مجتمعا منبوذا كمجتمع الغوازي في سنباط أو العوالم في شارع محمد علي أو مجتمع الجيشا في اليابان.
هؤلاء الأفراد كان يستعملهم المجتمع ليتفرج عليهم وهم يزاولون الأشياء المحرمة عليه، ويحصل بهذه الطريقة المعذبة على إشباع لغريزته المسرحية. تماما مثلما ينشأ دين يحرم التدخين ويشبه واحد ويدخن ولا يصلح في منعه زجر أو سجن ف «يسقطه» المجتمع من أفراده، ولكنه في نفس الوقت وليشبع رغبته في التدخين تلتقي جماعاته «تتفرج» على هذا «الساقط»، وهو يدخن لكي تحصل بمجرد الفرجة على ما تحن إليه حنينا شديدا وهو محرم عليها تحريما أشد.
وإلى عهد غير بعيد كانت الممثلات يعتبرن في نظر المجتمع ساقطات؛ لأن الفنانة منهن كانت لا تجرؤ على الوقوف على خشبة المسرح إلا بعد أن تتخلص من تابوه التحريم بالسقوط وبالتحول إلى كائن محرم لكي يسمح لها المجتمع والدين والتقاليد أن تمثل ما تشاء.
الفنون أصلها جماعية
وهكذا نرى كيف أن الاجتماعات الكبرى للمصريين كانت تسودها الرسميات، ولا يشترك فيها الحضور، والاجتماعات الصغرى في المناسبات جاءت الأديان السماوية وحرمت المساهمة الجماعية فيها، وأصبح حق مزاولة الرقص أو التمثيل أو الغناء مقصورا على الساقطين والساقطات، ولكن لحظات الالتقاء الجماعي لا يمكن كما قلنا أن تنعدم مطلقا، إنها فقط تتراجع وتختفي عن أنظار الأوصياء على التابوهات والتقاليد وحراسها، بل يمكن أن تلجأ إلى السرية التامة، ولكنها أبدا لا تنقطع.
وتراجعت اللقاءات إلى مستوى لقاء الشلة أو الأصحاب وإلى دواوين زمان وصلا بملكات البيوت والجلسات الخاصة، أي التي يحل للفرد فيها أن يقوم بالمساهمة في احتفال جماعي صغير بعيدا عن نظر المجتمع الأكبر. في هذه اللقاءات كان الكل يغنون ويرقصون ويسكرون و... يمثلون. فالتمثيل أيضا، كالضحك، خاصية بشرية لا يمكن إسقاطها عن الإنسان، ولكن التمثيل في هذه الجلسات كان لا يأخذ طابع الروايات، كان يأخذ أشكالا أخرى، مثل أن يروي كل حاضر نكتة، أي يأتي عليه الدور ليؤثر في الحاضرين مثلما تأثر هو بهم، أي يحدث هذا التفاعل الاحتفال الجماعي، بل إنه في مصر بالذات اخترعت المحاورة التي يسمونها «القافية»، وهي شكل مسرحي بدائي جدا، ورغم هذا فرض نفسه على المسرح المصري المنقول فترة طويلة، وكان علي الكسار يقطع المسرحية ليدخل قافية مع أحد الحاضرين.
وليس معنى مشاركة كل إنسان أن يحدث هذا بالتساوي؛ فهي مشاركة ذات درجات، ولكن لا بد من حد أدنى لها؛ ولهذا كان دائما يحدث أن ينبغ بعض الأفراد في ناحية بحيث يبدأ الرقص جماعيا مثلا، ثم لا يلبث الحضور أن يكتفوا بالتفرج على فرد أو أفراد منهم وهم يرقصون، وذلك حين تصل متعة التفرج حدا أكبر من متعة المشاركة، ولكنه اختلاف في الكم فقط وليس في النوع. إننا إذا بدأنا الغناء جميعا وأوجدنا حالة المتعة الجماعية المشتركة نكون قد دخلنا في حالة من «التجلي» تجعل إحساس الفرد بصوته وبغنائه يتلاشى إلى درجة أنه إذا توقف لا يحس؛ لأن أي مغن آخر يكون وكأنما يغني بحنجرته هو. ولعل هذا هو فكرة الكورس الأولى في الغناء الشرقي حين يبدأ احتفال الغناء بغناء الجميع إلى لحظة فقدان الإحساس بالذات حيث يكتفى بغناء فرد واحد، حبذا لو كان أجمل الأصوات، أي أكثرها غنائية أو موسيقية.
ولا بد من ملاحظة ظاهرة هامة في مجال الحديث عن الإحساس بنسيان الذات الفردية أو «خلعها»، إذ المعروف أن جميع هذه اللقاءات والاحتفالات كان يصاحبها شرب الخمر مثلا أو تدخين المخدرات، وهي كلها وسائل «تعجل» بحالة «الأيوفوريا» أو ارتفاع الروح المعنوية والمرح وتسهل عملية الانزلاق من الذات الصغرى إلى الذات الأكبر.
واجتماعات تدخين الحشيش في مصر دائما يسمونها «القعدة»؛ لأنها ليست أولا وأساسا لعملية التخدير أو التدخين، إنها أولا وأساسا للحظتها المسرحية، للسمر، للونس، والحشيش ليس إلا «الشراب» الذي لم يرد تحريمه قاطعا في القرآن، ربما لأنه لم يكن معروفا.
Página desconocida