ولهذا فالمأساة هناك تدور خارج نطاق العقل البشري والتفكير والذكاء والإرادة الإنسانية؛ لأنها واقعة مهما كان عقل الضحية أو تفكيره أو ذكاؤه أو إرادته، بينما المأساة هنا تعصف بالعقل والعاطفة معا وبالإرادة وبالذكاء، ولا بد أن يتغير وقعها ونتائجها من إنسان إلى إنسان. المأساة هناك قدر لا يمكن تجنبه، بينما وجهة نظر شعبنا هنا أن لا شيء، حتى الموت، يمكن أن يقال عنه إنه قدر لا يمكن تجنبه، فالمأساة يمكن تجنبها، ويمكن تداركها، ويمكن الحيلولة في الوقت المناسب بينها وبين أن تحدث أصلا. المأساة هناك غريبة عن الحياة البشرية، مفروضة عليها، والمأساة هنا تنبع أساسا من الحياة البشرية وتسير على نفس خطوطها وبنفس منطقها.
هنا، في مصر، لا يمكن أن تخلق عقليتنا المسرحية بطلا كأوديب مكتوبا على جبينه أنه سيقتل أباه ويتزوج أمه، ولكنها تخلق بطلا كعنترة، أو تخلق ابن جارية ليصبح أشجع الشجعان في قبيلته وأشدهم وليسود تلك القبيلة ويحكمها ويقودها ليفتح بها البلاد والأمصار. هنا قدر عنترة في يده، يبدأ ابن جارية وينتهي ملكا عظيما؛ لأنه كان شجاعا وكان شهما، وكان أسود ولكن أخلاقه حر أصيل. أما أوديب فسواء كان شجاعا أم جبانا، عظيما أم حقيرا، غبيا أم ذكيا، فلم يكن ليغير هذا كله من مصيره قيد شعرة، وكان لا بد أن يبدأ ملكا وابن ملك لينتهي شحاذا أعمى تقوده ابنته.
صحيح أننا في قصة عنترة نجد أن فلانا البطل كان مكتوبا في لوحه القدري أن أحدا لا يستطيع قتله سوى فلان الآخر، فهو مثل لا ينقض ما قلناه، بالعكس، إني أراه يدعمه؛ لأن راوي القصة هنا وخالقها لم يلجأ لهذه الحيلة إلا لسبب فني محض في القصة يتصل بالحبكة، أي لجأ إلى هذا المفهوم لجوءا عقليا ابتكاريا محضا.
إن هذا اللجوء لا يدل على إيمان المؤلف بالمكتوب، ولكنه يد على «معرفة» المؤلف بأنه من الممكن أن يكون القدر مكتوبا، معرفة لا بد جاءت من اختلاط الثقافتين وتفاعلهما. في حين أننا حين نتحدث عن المفهوم المأساوي فإننا نتحدث عن هذا الذي أخرجته قرائح المؤلفين الشعبيين دون قصد أو انتباه ودون تداخل من عقولهم المحدودة الواعية، نتحدث عما خلقته العاطفة والوجدان، وليس ما ابتكره العقل وقشرة المعرفة الرفيعة فيه.
قصة أيوب المصري، لو كان مؤلف إغريقي قد عالجها لكان قد صور مرض أيوب على أنه مصير قدري محتم وجعل همه أن يجسد صراع أيوب ضد ذلك المصير، وكيف تخلت عنه الزوجة والأهل والأصدقاء، ذلك الصراع اليائس الذي ينتهي حتما بانتصار المصير المحتوم. المؤلف المصري لم يفعل هذا، لقد جعل أيوب «يختار» أن يصبر على بلواه، وجعل زوجته «تختار» أن تقف بجانب زوجها المريض، وجعل صراعهما طول الوقت موجها إلى المحافظة على الموقف الذي اختاره كل منهما، ولأنهما صمدا ولأنهما ضربا بصمودهما مثلا للبطولة، فقد جاءت النهاية مختلفة تماما، وشفي أيوب.
في قصة بهية ومتولي، اختارت بهية أن تحترف الدعارة، وفي لقائها بأخيها وقد جاء يحاسبها قالت إنه كان مكتوبا عليها أن تفعل ذلك، بمعنى أن المؤلف الشعبي هنا يستعمل فكرة المصير المقدر كحجة تسوقها بهية للتخلص من مسئوليتها عن اختيار ذلك الطريق، حجة لم تفلح في إقناع متولي ولا تفلح في إقناع أحد من المصريين؛ لأننا لا نؤمن في رواياتنا بفكرة ذلك المكتوب، وكان لا بد لبهية أن تنال جزاءها على يد متولي.
أجل، هناك مسرح مصري
من تلك الحقائق المتناثرة التي وردت عبر الخاطر، ومن غيرها من الأدلة والشواهد، من الواقع والحياة، من القوانين الأزلية الأساسية للوجود التي تنص على أنه متى وجد شعب ما فلا بد أن يخلق هذا الشعب فنونا، كافة ألوان وأشكال الفنون، فنونا متميزة عن فنون الشعوب الأخرى ومختلفة اختلاف الحياة عند هذا الشعب وعند ذلك، نستطيع أن نقول إن هناك مسرحا مصريا كائنا في حياتنا وموجودا، ولكننا لا نراه؛ لأننا نريد أن نراه مشابها ومماثلا للمسرح الإغريقي والأوروبي الذي عرفناه وترجمناه واقتبسناه وعربناه ونسجنا على منواله من أواخر القرن التاسع عشر إلى اليوم.
كل ما ينقص هذا المسرح المصري كي يوجد ويأخذ مكانه في حياتنا هو أن نعيد النظر في أنفسنا وفي حياتنا تلك لنفرق بين الأصيل فيها والمكتسب، هو أن نتعلم كيف نحترم ذاتنا وما تفرزه تلك الذات من فنون. إننا شعب كامل متكامل، له أغانيه وموسيقاه ورقصاته ومسرحه، وحمدا لله أننا في عصر بدأنا فيه نبحث عن ذاتنا ونفخر بها ونقدمها. بدأنا نسمع أصواتا تطالب بإيجاد الفن التشكيلي المصري والألوان المصرية وموضوعات التصوير المصرية، بدأنا نحس بالحاجة الملحة إلى رقصنا الشعبي فنكتشفه ونعده ونقدمه على المسارح، بدأت محاولات في الموسيقى لإدخال الميلوديات الشعبية في إطارات السيمفونية والكونسرتو. ولنا عند هذه النقطة بالذات وقفة؛ إذ إن هذه المحاولات في رأيي ليست الاتجاه السليم بالمرة، فإن محاولة إخضاع الموضوع المصري للشكل الأوروبي محاولات لا يملك الإنسان أمامها إلا السخرية والضحك، فإنها أبدا ليست تطويرا لموسيقانا ولا ارتقاء بها، وهي لا تتعدى - كمحاولة لتطوير لغتنا مثلا - كتابتها بالحروف اللاتينية. إن الفن ليس فيه أشكال ومضمون، إن المضمون شكل والشكل مضمون، وهذا المضمون لا يمكن أن يصلح له إلا هذا الشكل بعينه، وذلك الشكل خلق خصيصا من أجل ذلك المضمون. والكونسرتو والسيمفونية ليست مجرد إطارات وبراويز يمكن للإنسان أن يضع فيها أية صورة لتصبح عالمية، إن الكونسرتو والسيمفونية مثلها مثل الأوبريت والأوبرا كوميك، أشكال أوجدتها مواضيع فنية، أوجدتها الموسيقى الأوروبية في مراحل نموها المختلفة، وهي لا تصلح إلا لتلك الموسيقى بعينها، وعلينا نحن إذا أردنا أن نطور موسيقانا أن نبحث لها عن أشكال تعبر عن هذه الموسيقى المتطورة نفسها، أشكال خاصة بنا منتزعة من صميم خيالنا ومفهوماتنا الفنية يفرضها مضمون العمل نفسه.
إنها نفس المشكلة في المسرح، فلا يكفي لإيجاد مسرحنا المصري أن نعثر على الموضوع المسرحي المصري، وإنما يجب أن نخلق لهذا الموضوع الشكل المسرحي النابع منه والملائم له والذي يستطيع إبرازه وتقديمه إلى أبعد وأوسع مدى.
Página desconocida