الفأر في المتاهة
الفأر في المتاهة
تأليف
أحمد ع. الحضري
مقدمة
كأنك تقف أمام لوحة كبيرة بعرض جدار أو بناية، تنظر إليها فترى قطعا وشذرات، دون أن تتمكن من رؤيتها بالكامل، تبدأ من جزء ما، وتحاول الانتقال إلى أجزائها الأخرى. تعرف أنها أجزاء من كل واحد، لكنك لم تفهم الترابط بين الأجزاء بعد ولم تلتقطه عيناك، لكنك تحسه؛ تكرر النظر إلى اللوحة، قد تعيد زيارتها عدة مرات قبل أن تستطيع أن تقول عنها بضع كلمات تعبر عما تحسه. كأنك أمام هذه الجدارية، تتراجع خطوة، ثم ثانية، فثالثة، حتى يلامس ظهرك جدارا ما، بينما عيناك منشغلتان بمحاولة النظر للصورة مكتملة.
لم أستطع في هذا الكتاب أن أتحدث عن الكتابة دون أن أتحدث عن العالم، وعن نفسي، وعن أسئلتي التي تؤرقني، وشكوكي التي تملؤني. لم أستطع في المقابل الحديث عن العالم دون التطرق إلى الكتابة، كأنهما وجهان لعملة واحدة. كثير من مقالات الكتاب واضح فيها هذه الرؤية، وهذا التحيز الذي يتناول الموضوع الواحد من عدة زوايا، كأنك تضعه في المركز وتنشر حوله عددا من كاميرات التصوير التي تتناول كل منها زاوية بعينها، أملا في أن تكون معا رؤية أشمل. نفس الأمر يمكن قوله عن هذا الكتاب ككل؛ فقد افترقت مقالاته بين أربعة أقسام متنوعة الموضوعات بدرجة ما، لكنها أيضا - من وجهة نظري - مقاطع من نفس الصورة: زوايا نظر مختلفة تحاول الاقتراب من ثنائية الكتابة والعالم.
تحدثت في مقال «وصف الغيوم: العالم كمرآة - الذات كعالم»، كيف ننظر للعالم أحيانا لنرى أنفسنا أو شذرات منها فيه، أشرت في نفس المقال إلى إحدى الرؤى التي تتحدث عن دور الفن والأدب، وتتعرض هذه الرؤية إلى دور الفن والأدب في زيادة فهمنا للعالم، وزيادة مرونتنا في التعامل معه من خلال التعريف بالأنماط الجديدة في العالم.
في حديثي عن العالم، انشغلت بتقديم صورة سائلة للعالم، العالم الذي يتغير بشكل دائم، العالم المربك الذي يثير داخلنا الأسئلة والحيرة والشك. تحدثت عن الطرق المختلفة أو المتعارضة للنظر إليه، وتحيزت لنظرة تقبل وجود الآراء المختلفة معا، نظرة ترفض الجمود والتعصب. لكن الأهم أن تناولي لها غير منفصل عن الاهتمام بالكتابة، فقد تلاحظ في اختيار موضوعات القسم الأول هذا التحيز، ففيه مقالات عن: وجهات النظر، وعن الحوار، وعن الزمن.
فكرت في أقسام هذا الكتاب كأنها محطات لنفس الرحلة، تبدأ من «مرايا» التي تضم مقالات عن النظر إلى الذات والعالم، ومرورا بالقسم الذي عنونته ب «آنست نارا» والذي أتحدث فيه عن نماذج قابلتها من كتابات وإبداعات انشغلت بنفس الهم ، حتى إن مقالات هذا القسم هي بشكل ما امتداد طبيعي لمقالات القسم الأول - ثم هواء افتراضي - الذي يضم بضعة مقالات تتحدث عن الكتابة والنشر في العالم الافتراضي، لنصل في النهاية إلى مقالات «وصف الغيوم» التي تتحدث عن قضايا متعلقة بعملية الكتابة بشكل أساسي.
Página desconocida