1
في فصولها الأولى تبدأ الرواية كرصد لرحلة عادية بعين مسافر يزور مدينة لأول مرة لحضور مؤتمر؛ فتصف بعين السائح المدينة ومبانيها، وتعطي نبذا عن تاريخها، وعمارتها، وتتتبع الجامعة بتقاليدها ، وطقوسها ، وأزيائها، وأساتذتها. وهو وصف بارع ممتع يهتم بتفاصيل الصورة، فيصف حتى الغرف والنقوش؛ مما يخلق مشهدا بصريا جاذبا على طول الرواية، يتخلله وصف للتاريخ الحي لهذه الأماكن: حقائق، خرافات، أشخاص، تواريخ، أسئلة ...
لكن المدينة التي تبدأ عادية قابلة للتصديق تبدأ في اتخاذ طابع أسطوري مع تتابع الأحداث والوصف؛ فشوارعها تضيق وتتسع، ومبانيها تتغير ملامحها بين زيارة وأخرى، وأشخاصها يظهرون ويختفون بشكل غير معتاد، وكأن المدينة بكل ما فيها ليست سوى انعكاس لواقع داخلي، مليء بالذكريات المختلطة، والمشاعر المضطربة، والهوية الممزقة بين أجزائها ومكوناتها. «يمضي متمهلا، مسرورا لفرصة المشي المتاحة الآن، في موطنه لا يمكنه ذلك، الانشغال دائم، والإرهاق واقع، أحيانا يمضي اليوم بدون خلوة إلى ذاته، وإذ يستعيد أيامه المتتالية لا يلمح حدثا بارزا، أو أمرا ذا خلاصة، فيضيق بالرتابة، وذهاب الأويقات سدى، يتسع الطريق ... فيستعيد ساحة فندق قديم اعتاد أن يمضي إليه طفلا بصحبة والده، ليلتقيا بالقادمين من البلدة النائية، وبعض الرواد الذين ارتبطت بهم الوشائج وأصول الصحبة، لماذا تذكر هذه اللحظات النائية الآن؟ ماذا استثارها؟ وما الذي استدعاها؟ يعجب لقانون الذكرى، لماذا تفد لحظة دون أخرى؟ ترد عليه شوارع من مدن عديدة نزلها، إنه يمضي متمهلا، مستكشفا مدينة جديدة، ربما لن يبلغها مرة أخرى، ولكنه يطلع في الوقت عينه على مدينة أخرى تمتد داخله، من شظايا أماكن أقام بها مددا متفاوتة، مدينة تواتيه، تفاجئه في أي لحظة فتطلعه على شيء من مكنونها، ثم سرعان ما تحجب، الأماكن الحقيقية تلك التي يقدر على استعادتها، أو تسترجعه هي، حتى وإن نأى عنها وابتعد، ما يمر به الآن، يراه من موقع لحظة آتية، قد يبلغها، فما الذي سيبقى؟ وماذا سيمثل؟»
منذ السطور الأولى للرواية يتم الإشارة إلى صراع ثقافي سياسي بين مكوني المدينة الأساسيين: الجامعة والبلدية، سبب الصراع ينبع من إشكالية قديمة تتمثل في سؤال الأسبقية، أيهما أسبق: المدينة أم الجامعة؟ هل نشأت المدينة أولا ثم تلتها الجامعة، أم أن الجامعة كانت هي السابقة ثم تلى بناؤها ونتج عنه عمار المناطق المجاورة؟ يمكن أن نرى الجامعة كمعادل للعقل أو ربما الروح، بينما قد نرى المدينة معادلا للجسد أو المادة، وفي هذه الحالة يمكن تأويل الجدل الذي يدور في أروقة الرواية عن أسبقية الجامعة أو المدينة، بشكل فلسفي يمكن اعتباره أحد جوانب سؤال الهوية الذي تطرحه الرواية منذ أول صفحة، وإلى آخر سطر.
أيضا مباني المدينة التي تحتفظ بواجهاتها القديمة، وتحارب البلدية والجامعة من أجل الحفاظ عليها، هي عصرية بالكامل من الداخل. «لا يمت الداخل إلى الخارج، بعد الليلة الأولى في صباح أول أيامه أدرك استمرارية وذيوع التناقض، الواجهة عتيقة، وداخل المبنى حديث جدا، تعرض الواجهة ثلاثة طوابق، بينما يتكون البناء من ستة، الحفاظ على الطابع المتوارث تنظمه قوانين صارمة واضحة، لا تحتمل التفسيرات الخاطئة، أو التأويلات سيئة القصد، أو الحزق المتعمد، المضمون جلي جدا، احتفظ بالمظهر القديم، أو اتبعه وافعل في الداخل ما شئت.»
وهو ما يمكن قراءته بالانقسام بين الطقوس والمظاهر الاجتماعية الخارجية، الثابتة التي لا تتغير كثيرا، والداخل الإنساني الذي يتغير بسرعة شديدة.
2
الرواية هنا تصور حالة من الانحلال، تبدأ بالجسم الذي أصابه المرض، وغادره الشباب، وانتهاء بالعقل الذي تتتابع فيه الذكريات وتتشابك، كالبحر المضطرب. وإذا ارتحل الإنسان عن ذاته القديمة وعن جسده القديم، فما الذي يمكن أن يعرفه؟ ما الذي يتبقى منه؟ أوراق الهوية.
وبطل الرواية منذ البداية لديه تخوف من فقدان جواز سفره، فيحافظ عليه بشكل مبالغ فيه، لكنه مع ذلك يفقده، ليكتمل الضياع بكل صورة:
ما يجب مراعاته أنه جاء ضيفا على الجامعة، إذن هناك مسئولية أخلاقية وقانونية عنه حتى مغادرته المدينة، حتى سفره من العاصمة، لقد تكبد مشاق الرحلة رغم تضعضع صمته و...
Página desconocida