الفأر هنا حبيس المتاهة، ويتم التحكم فيه بواسطة غرائزه نفسها. أي فأر جائع بما يكفي سيتبع رائحة الطعام. الفارق بين هذا الفأر وفأر خارج المتاهة أن الفأر خارج المتاهة متاحة له خيارات أكبر، وفرص أكبر، وربما مخاطر أكبر كذلك. الفأر في الخارج لا يعرف الحوائط بالطريقة التي يعرفها فأر المتاهة، يعرف طبيعة غير مروضة. نظريا - على الأقل - الفأر في الخارج أكثر حرية، ويتحكم في تصرفاته بشكل أكبر. الفأر داخل المتاهة على النقيض، يختار بين بدائل محددة توضع أمامه، لكنه في النهاية خيار زائف؛ لأننا نعلم مسبقا أنه - باعتباره فأرا تم تجويعه - سيختار الطريق الوحيد الذي يوصله للطعام.
3
ما نعلمه عن العالم اليوم أكثر بكثير مما كان يعلمه أسلافنا عنه. تقدم العلم وتطورت وسائل الاتصالات التي سهلت الوصول إلى المعلومات، وهو ما يفترض أن يؤدي تلقائيا إلى زيادة وعينا، وزيادة رشادة اختياراتنا، وهذا صحيح جزئيا في بعض المجالات، لكن «جون ديوي» يشير في كتابه «الحرية والثقافة» إلى أنه نتيجة لتقدم الصناعة وانتشار التخصص، صار العامل لا يعلم أكثر من شذرة صغيرة عما يصنعه، ويؤدي وجود عدد كبير من المعلومات المتناثرة إلى حدوث أثر تشويشي أحيانا؛ ونتيجة لذلك صار الإنسان المعاصر يعرف أقل فأقل عن الأمور الأكثر ارتباطا بحياته. وفي سياق مختلف يشير «جون كنث جالبريث» في كتابه «اقتصاد الاحتيال البريء» إلى دور الدعاية التي تمارسها الشركات الكبيرة في التأثير على سلوك المستهلك، والتشويش عليه، وإقناعه في كثير من الأحيان بشراء واستهلاك ما لا يحتاجه.
4
يولد الإنسان منا في مجتمع ما، يعلمه هذا المجتمع الكثير عن نفسه وعن الحياة والكون، يعلمه الكثير عن كيفية التصرف. في كثير من الأحيان تكون مخالفة المجتمع أو مراجعة أفكاره التي يتبناها أمرا محفوفا بالمخاطر. المثال الأشهر في هذا السياق هو «جاليليو» حين دافع عن كون الأرض كوكبا يدور حول الشمس، متابعا في ذلك رؤية «كوبرنيكوس» للكون، ومخالفا رؤية معاصريه الذين كانوا يؤمنون بثبات ومركزية الأرض، وهو الاعتقاد الذي أدى إلى محاكمته، ووضعه تحت الإقامة الجبرية في منزله، وإجباره على التراجع عن أفكاره.
5
افترض أن هذا الفأر أدرك بالضبط حقيقة وضعه، بوصفه فأرا يسير في الطرق الضيقة لمتاهة صناعية يتم التحكم بها وبه من الخارج، هل على الفأر أن يقرر بالضرورة أنه يريد الخروج من المتاهة؟ هو لا يعرف شكل الحياة خارج المتاهة، ربما حتى غير قادر على تصورها؛ قد تكون أسوأ من الحياة التي يعيشها، هو يحصل على الغذاء في متاهته، يحس بالألفة معها بشكل ما؛ لأنه لم يعرف غيرها، هل عليه أن يخرج من هذه المتاهة؟
6
المتاهة ليست بالضرورة خارجنا، أحيانا تكون أجزاء منها في داخلنا، تتحكم في تصرفاتنا وأفكارنا، ربما كعمى اختياري للألوان، يختار فيه عقلنا ألا يرى سوى ألوان بعينها، ويتجاهل ألوانا أخرى؛ فقط لأنها لا تناسب ما تعلمه. كل منا يمتلك سقفا يعلو على هذه الحقائق الصغيرة المتناثرة التي تحيط بنا، سقفا من القناعات يخيط واقعنا ليجعله متماسكا في عيوننا، سقفا يحمينا ويحجب عنا السماء الحقيقية؛ السماء غير المروضة.
7
Página desconocida