ليس ثمة من أسرار حول «ما بعد الانطباعية»؛ فاللوحة «بعد الانطباعية» الجيدة هي لوحة جيدة لنفس الأسباب بالضبط التي تجعل أي لوحة أخرى جيدة؛ فالخاصية الجوهرية في الفن هي خاصية دائمة؛ لذا لا تنطوي حركة «ما بعد الانطباعية» على قطيعة عنيفة مع الماضي؛ فهي لا تعدو أن تكون رفضا متعمدا لتقاليد معينة تعيق نمو الفن الحديث، صحيح أنها تنكر أن على الفن أن يتلقى أوامر من الماضي، غير أن هذا ليس شعارا لما بعد الانطباعية. إنه السمة الأعم للحيوية. إن مجرد الحديث عن «ما بعد الانطباعية» بوصفها حركة من شأنه أن يؤدي إلى ضروب من سوء الفهم. بل إن عادة الحديث عن «حركات» على الإطلاق هي عادة مضللة نوعا ما. إن تيار الفن لم يجف تماما في يوم من الأيام؛ فهو ما برح يتدفق خلال العصور، عريضا تارة ضيقا طورا، عميقا مرة ضحلا مرة أخرى، سريعا آنا متثاقلا آنا آخر. إن لونه في تغير دائم، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يضع علامة تحدد نقطة التغير بدقة وحسم؟ ففي بدايات القرن التاسع عشر كان تيار الفن يجري منخفضا جدا، وفي أيام الانطباعيين، الذين تعد الحركة الجديدة بمعنى ما هي رد فعل ضدهم، كان التيار قد أصبح غزيرا لتوه. إن أية محاولة لسد هذا النهر وحبسه، وتخير مدرسة أو حركة معينة والقول «هنا يبدأ الفن وهناك ينتهي»، هي عبث ضار، وهكذا دأب التقنين الأكاديمي؛ ففي هذه اللحظة ليس هناك بين الرسامين المجيدين الأحياء، باستثناء حفنة لا تتجاوز نصف دستة، من لا يستمد شيئا من سيزان وينتمي بمعنى ما لحركة «ما بعد الانطباعية»، ولكن قد يظهر غدا رسام عظيم يخلق الشكل الدال بطرائق معارضة ظاهريا لطرائق سيزان، وأقول «ظاهريا» لأن كل الفن الجيد ينتمي «جوهريا» إلى نفس الحركة، فليس هناك غير نوعين من الفن: جيد ورديء، ومهما يكن من أمر فإن تقسيم المجرى إلى مراحل تتمايز بفروق في الطريقة هو شيء واضح القصد، وهو بالنسبة للمؤرخين على أية حال، شيء مفيد، وتتفاوت المراحل أيضا في الحجم، فتتميز حقبة فنية عن حقبة أخرى بخصوبتها؛ حيث النتاج الفني الجدير بالاعتبار في بضعة أعوام أو عقود سعيدة نتاج عظيم، ثم إذا به يتوقف فجأة أو يتضاءل رويدا رويدا مؤذنا بأن حركة ما قد استنفدت ذاتها، هل تصادف وجود عدد من الفنانين العظام في عصر واحد هو الذي يصنع حركة فنية، أو أن تفشي روح باطنة معينة للعصر هو الذي يساعد الفنانين على خلق الشكل الدال؟ وإلى أي حد؟ ذاك سؤال لا يمكن البت فيه دون أدنى اعتراض، ولكن الفضل يمكن أن يقسم رغم كل شيء، وإنني لأظن أنه يجب أن يقسم بالتساوي، إن لنا ما يبرر، إذ ننظر إلى تاريخ الفن ككل، أن نعتبر فترات الخصوبة الفنية كأجزاء محددة من ذلك الكل، إنني إن أكن معجبا بحركة «ما بعد الانطباعية» فبوصفها فترة خصب في الفن الجيد والفنانين العظام بالدرجة الأساس، كما أنني أعتقد أيضا أن المبادئ التي تتبطن تلك الحركة وتلهمها أجدر بحفز الفنانين على تقديم خير ما عندهم وإنشاء تقليد جديد من أي مبادئ يحملها لنا سجل التاريخ الحديث. غير أن شغفي بهذه الحركة وإعجابي بكثير من الفن الذي أنتجته ما كان ليغشيني عن عظمة الثمار التي أنتجتها الحركات الأخرى، وإنني لآمل ألا تغشيني عن عظمة أي خلق جديد للشكل مهما بدت جدته مشتملة على رد فعل ضد طريقة سيزان.
إن «ما بعد الانطباعية»، شأنها شأن جميع الثورات الصحيحة، ليست أكثر من عودة وإنابة إلى المبادئ الأولى؛ ففي عالم يتوسم في الرسام أن يكون إما مصورا فوتوغرافيا وإما بهلوانا، ينبري الفنان «بعد الانطباعي» قائلا بأنه فوق كل شيء يجب أن يكون فنانا، «لا يكن همك التمثيل أو التتميم، النقل أو الصقل، فكر في خلق الشكل الدال، فكر في الفن.» هكذا يقول، إن خلق عمل فني هو مهمة جسيمة بحيث لا تترك منصرفا لتصدي شبه أو عرض براعة، وكل تقدمة على مذبح التمثيل هي شيء مسلوب من الفن. إن «ما بعد الانطباعية» ليست بحال ذلك الصنف المتعجرف من الثورة كما يفترض السوقة، بل هي في حقيقة الأمر عودة ومتاب؛ عودة لا إلى أي تقليد معين في الرسم بل إلى التقليد العظيم للفن البصري. إنها تضع نصب عين كل فنان ذلك المثل الأعلى الذي كان يضعه البدائيون نصب أعينهم؛ وهو مثل لم يعد يتعلق به منذ القرن الثاني عشر سوى عدد استثنائي من أهل العبقرية> ليست «ما بعد الانطباعية» سوى إعادة توكيد للوصية الأولى من وصايا الفن: «اخلق الشكل»
Thou shalt create form ، وهي بهذا التوكيد إنما تصافح - عبر العصور - البدائيين البيزنطيين وكل حركة حية جاهدت للبقاء منذ بداية الفن.
ليست «ما بعد الانطباعية» مسألة تكنيك، صحيح أن سيزان قد ابتكر تقنية، مناسبة لغرضه بشكل باهر، وقد تبناها وطورها بشكل أو بآخر معظم أتباعه، إلا أنه ليس ما يهم في لوحة من اللوحات هو كيف رسمت وإنما المهم هو ما إذا كانت تثير الانفعال الإستطيقي. وكما قلت آنفا، إن اللوحة «بعد الانطباعية» الجيدة تماثل في جوهرها أي عمل فني آخر من أعمال الفن، ولا تختلف عن بعضها، ظاهريا، إلا بالرفض الواعي والمقصود لتلك الطفيليات التقنية والعاطفية المبتذلة التي فرضها على فن التصوير تقليد سيئ، إن هذا يصبح واضحا للمرء عندما يزور معرضا من قبيل
Salon d’Automne
أو
Les Indépendants
حيث مئات اللوحات المرسومة على طريقة «ما بعد الانطباعية» كثير منها غاية في التفاهة، ويدرك المرء أن هذه اللوحات هي رديئة بنفس الطريقة التي تكون بها أي لوحة أخرى رديئة؛ أي أن أشكالها غير دالة ولا تثير أي استجابة إستطيقية. وفي الحق إنها ضرورة تعسة تلك التي ألجأتنا إلى الحديث عن «لوحات بعد انطباعية»، وأرى أن الوقت قد آذن لكي نعود إلى المصطلح الأقدم والأوفى بالقصد، ونتحدث عن لوحات جيدة ولوحات رديئة، كل ما يجب ألا ننساه هو أن الحركة التي يعد سيزان مظهرها المبكر والتي خلفت لنا محصولا مدهشا من الفن الجيد، تدين بشيء ما، ولكن ليس بكل شيء، للمذاهب المحررة والثورية لما بعد الانطباعية.
ولعل أسخف ما يقال عن لوحات «ما بعد الانطباعية» هو ما يقوله أولئك الذين يعتبرون «ما بعد الانطباعية» حركة منفصلة، بينما الحقيقة أنها تحتل مكانها كجزء من منحدر من تلك المنحدرات الهائلة التي يمكن أن نقسم إليها تاريخ الفن والتاريخ الروحي للجنس البشري، إنني في لحظات حماستي يغريني الأمل بأن تكون «ما بعد الانطباعية» هي المرحلة الأولى في منحدر جديد تقف فيه هذه الحركة بالنسبة إليه نفس الموقف الذي يقفه الفن البيزنطي في القرن السادس بالنسبة إلى المنحدر القديم. إن لنا في تلك الحالة أن نضاهي «ما بعد الانطباعية» بتلك الروح الحيوية التي جعلت، تجاه نهاية القرن الخامس، تخفق بالحياة وسط أطلال الواقعية الإغريقية - الرومانية. إن لما بعد الانطباعية، أو لنسمها الحركة المعاصرة، مستقبلا، ولكن عندما يكون ذلك المستقبل حاضرا فلن يعود سيزان
Cézanne
Página desconocida