Genée
على الإعلان، قال السائق ملتفتا نحوي: «البعض يسمي هذا فنا، ولكن سلنا نحن عن الفن.» (لعل شعري الطويل قد اكتشف زميلا ذواقة
connoisseur )
3 «إذا كنت تريد الفن فعليك أن تلتمسه في المتاحف.» لست أدري كيف نقذف بهذا الهراء الخبيث خارج رءوس الناس. لقد قذف به داخلها بوقار كبير ولأمد طويل معلمو المدارس والجرائد اليومية والكتب الدراسية الزهيدة والمؤرخون المتبحرون وزوار المناطق والوزراء ورجال الدين ورجال الدولة وقادة حزب العمال والممتنعون عن المسكرات ومناهضو القمار والمتبرعون للدولة من كل صنف - بحيث أوقن أن يحتاج إلى قول أبلغ وأشجع من قولي ليقذفها خارجا مرة أخرى، غير أنها يجب أن يطاح بها خارجا قبل أن يمكننا أن نظفر بأي حساسية عامة للفن؛ لأنها ما بقيت في أذهان الناس فإن العمل الفني بالنسبة لتسعة وتسعين بالمائة منهم سوف يموت لحظة يدخل صالة عرض عامة.
ترهبنا المتاحف وصالات العرض، تمحقنا التحذيرات الضمنية التي ترمقنا شزرا من كل زاوية أن هذه الكنوز معروضة للدراسة والإفادة لا لإثارة انفعال بأي حال من الأحوال. تذكر (أيها القارئ) إيطاليا؛ كل مدينة بمجموعتها الفنية العامة، وتذكر مشاهدي الفنون الدينية! كيف لنا أن نقنع هذه الحشود من الطبقة الوسطى الدائبة في بحثها بشكل يدعو إلى الرثاء، أن بإمكانهم حقا أن يجنوا بعض المتعة من الصور لو أنهم لم يعرفوا ولم يشغلهم أن يعرفوا من الذي رسمها. محال أن يكونوا جميعا غير حساسين للشكل واللون، ولو لم يكونوا محترقين لمعرفة أو تذكر من رسمها ومتى رسمت وماذا تمثل، فربما وجدوا فيها المفتاح إلى عالم ليس بمقدورهم الآن أن يعتقدوا بوجوده، والملايين الذين يقبعون في بيوتهم كيف نقنعهم أن الهزة التي تثيرها قاطرة أو خزان غاز هي الشيء الحقيقي؟ متى يفهمون أن المباني الحديدية التي شيدها مستر همفري هي أقرب إلى أن تكون أعمالا فنية من أي شيء يترقبون رؤيته في المعرض الصيفي للأكاديمية الملكية؟
4
أيمكننا أن نقنع الطبقات المسافرة أن أي كائن إنساني ذي حساسية عادية هو أقدر على تذوق عمل بدائي إيطالي من أي كاتب من كتاب سير القديسين؟ أيمكننا أن نحث الجموع أن يلتمسوا في الفن لا التثقيف بل الطرب؟ أيمكننا أن نجعلهم غير خجلين من الانفعال الذي يحسونه نحو الخطوط الجميلة لأحد مستودعات البضائع أو لأحد جسور السكة الحديدية؟ إذا أمكننا أن نفعل هذا نكون قد حررنا الأعمال الفنية من جو المتاحف، وهذا بالضبط ما يجب علينا فعله. يجب علينا أن نجعل الناس يفهمون أن الأشكال يمكن أن تكون دالة دون أن تشابه الكاتدرائيات القوطية أو المعابد الإغريقية؛ وأن الفن هو خلق الشكل وليس تقليده، عندئذ، وعندئذ فقط، يمكنهم أن يذهبوا وهم محصنون لكي يلتمسوا الانفعال الإستطيقي في المتاحف وصالات الصور.
يقال أحيانا، بحجج معقولة، إن الشعب المرهف الحس لن تكون به حاجة إلى المتاحف. ويقال إن من الخطأ ان تذهب في طلب الانفعال الإستطيقي، وأن الفن يجب أن يكون جزءا من الحياة؛ شيئا شبيها بجرائد المساء أو فاترينات المحال التجارية التي يستمتع بها الناس وهم ماضون في شئونهم، ولكن إذا كانت الحالة الذهنية لشخص يدلف إلى صالة عرض طلبا للانفعال الإستطيقي هي حالة غير مرضية بالضرورة، فبالمثل تكون حالة الشخص الذي يجلس ليقرأ شعرا. يغلق عاشق الشعر باب غرفته ويلتقط مجلدا لملتون وقد عقد النية على أن يخرج نفسه من عالم ويدخلها في عالم آخر. إن شعر ملتون ليس جزءا من الحياة اليومية، وإن يكن عند البعض مما يجعل الحياة اليومية محتملة. إن قيمة الصنف الرفيع من الفن لا تتمثل في قدرته على أن يصبح جزءا من الحياة العادية بل في قدرته على أن يخرج بنا منها. أعتقد أن وليم موريس هو الذي قال إن الشعر يجب أن يكون شيئا يستطيع إنسان أن يخترعه ويغنيه لرفاقه بينما هو يعمل على النول، لعل كثيرا جدا مما كتبه موريس قد اخترع أيضا بهذه الطريقة، ولكن لكي تخلق الفن الأعظم وتدركه فإن أقصى درجات الانفصال عن شئون الحياة تغدو أمرا ضروريا، ومثلما أن الرجال والنساء عبر العصور كانوا يذهبون إلى المعابد والكنائس بحثا عن نشوة لا صلة لها بمشاغل الحياة والكدح البشري. كذلك قد يذهبون إلى معابد الفن لكي يخبروا، خارج هذا العالم بعض الشيء، انفعالات تنتمي إلى عالم آخر . إن المتاحف والصالات تغدو مؤذية لا عندما تكون حرما نلوذ إليه من الحياة، حرما مكرسا لعبادة الانفعال الإستطيقي، بل عندما تكون فصولا ومعاهد بحث ومستودعات للتراث المنقول.
يجب أن ننفض عن الحساسية البشرية غبار المعرفة المصنوعة، ونخلصها من وطأة التراث، ولا بد أيضا أن نخلصها من جور الثقافة؛ فبين جميع أعداء الفن قد تكون الثقافة هي العدو الأشد خطورة لأنه الأشد خفاء، وقد تأتي كلمة «ثقافة» بطبيعة الحال لتعني شيئا لا غبار عليه مطلقا؛ فالثقافة قد تعني ضربا من التربية لا يهدف إلا إلى شحذ الحساسية وتقوية القدرة على التعبير عن النفس، إلا أن هذا النوع من الثقافة ليس للبيع. إنه يواتي البعض من التأمل الفردي، ويواتي البعض الآخر من الاتصال بالحياة، وفي كلتا الحالتين فهو لا يأتي إلا لأولئك الذين يقدرون على استخدامه. أما الثقافة الشائعة، من الجهة الأخرى، فهي تشترى وتباع في سوق مفتوحة. إن المجتمع المثقف، بالمعنى الاعتيادي للكلمة، هو كتلة من الأشخاص الذي علموا أن يميزوا «الحلو والطيب»
le beau et le bien ، والشخص المثقف هو شخص لم يفرض الفن نفسه عليه بل فرض، شخص لم تغمره دلالة الفن، بل يعرف أن أعلى الناس تهذيبا ورقيا يولونه اهتماما عجيبا، يتميز هذا الوسط المثقف بأنه رغم اهتمامه بالفن هو لا يأخذ مأخذ الجد، الفن عند هذا الوسط ليس ضرورة بل ترفا، ليس شيئا ما قد يصادفه المرء وينغمر به بين صفحات
Página desconocida