فإذا عدت فللنجوى أعود
ثم أمضي بعدما أفرغ كأسي
وبالرغم من روعة هذا المذهب في طرائق التعبير الشعري، فإنه لم يرق بالبداهة لأنصار الشعر التقليدي في أدبنا المعاصر على نحو ما رأيناه لا يروق لأنصار المذهب الكلاسيكي في الغرب، فمنذ عهد قريب كتب الشاعر عزيز أباظة مقدمة لديوان «أصداء الحرية» للأستاذ عبد الله شمس الدين امتدح فيها الصياغة التقليدية لتلك الأصداء، وانتقد في عنف التعبيرات الجديدة في شعرنا المعاصر، وضرب لها الأمثال في قولهم «الأنين المشنوق»، و«الحزن الراقص»، و«الصمت المقمر»، و«الشمس المعربدة»، و«اللانهائية الخرساء» دون أن يبين أساس نقده، مع العلم بأنه إذا كان هذا النقد مبنيا على أساس فلسفة الشعر فإنه مردود بما أوضحناه من أن الشاعر قد يجد في نفسه حالات نفسية عميقة مركبة لا سبيل إلى التعبير عنها غير سبيل الرمز والإيحاء، وأما إذا كان النقد مستندا إلى أساس لغوي فإننا نراه أيضا مردودا؛ لأن الرمزية في التشبيهات والمجازات والاستعارات لا تعتبر خرقا لأصول اللغة، بل ولا لعلم البيان العربي التقليدي ذاته؛ وذلك لأنها تقوم في الرمزية على علاقة بين المشبه والمشبه به، ولكن العلاقة هنا لم تعد في الشكل الخارجي بل في الوقع النفسي لطرفي التشبيه حتى ولو كان هذان الطرفان ينتميان إلى مجالين مختلفين من مجالات الحواس كأن يكون أحدهما من مجال المرئيات والآخر من مجال المسموعات أو من مجال المشموم ما دام كل منهما ينتمي إلى صفحة النفس ويؤثر فيها تأثيرا متشابها هو أساس المجاز، فالسكون مثلا من مجال السمع وأشعة الشمس من مجال البصر، ولكن السكون قد يثير اطمئنانا وبهجة في النفس يشبهان ما يثيره فيها ضوء الشمس، وعندئذ يحق للشاعر أن يصف هذا السكون بأنه مشمس بجامع وحدة الوقع النفسي دون أن يكون في عمله هذا خروج على أصول اللغة أو أصول البيان، وإذن فالرمزية من الناحية اللغوية إنما تستند إلى أصل ثابت في لغتنا وفي لغات العالم جميعها، بل إلى الأصل الذي أثرت بفضله جميع اللغات واكتسبت وسائل جديدة للتعبير بدل الاكتفاء بالوسائل القديمة البالية.
وأصدق من نقد الشاعر عزيز أباظة، وأدق حسا وأكثر اعتدالا ذلك النقد الذي وجهه الرائد عبد الرحمن شكري إلى الرمزية في إحدى مقالاته بمجلة «أبولو» عندما رأى شعراء تلك الجماعة يسرفون أحيانا في الصور الرمزية على نحو يصيب تلك الصور بالتناقض حينا، وبالتزاحم حينا آخر مما يضر بالرؤية الشعرية على نحو ما يسيء النبات بعضه إلى بعض إذا ازدحم في بقعة محدودة من الأرض.
وثمت نقد آخر يوجهه معظم النقاد العالميين أحيانا إلى الرمزية، وهو الغموض المسرف الذي يستحيل معه الرمز إلى لغز وإن كان مثل هذا النقد يخضع للنسبية إلى حد بعيد، فنحن قد نحس بالغموض الكثيف مثلا في عدد من قصائد «مالارميه» وتلميذه الكبير «بول فاليري»، ولكننا نرى النقاد يختلفون أحيانا كثيرة اختلافا بينا حول بعض القصائد لهذين الشاعرين الكبيرين، ونستطيع أن نضرب مثلا لذلك بقصيدة شهيرة لمالارميه عنوانها «البعث» حيث يقول:
لقد طرد الربيع الشاحب في حزن
الشتاء الضاحي،
وفي جسمي الذي يسيطر عليه الدم القاتم
يتمطى العجز في تثاؤب طويل. •••
إن شفقا أبيض يبرد تحت جمجمتي،
Página desconocida