فهناك - مثلا - من ينساق لغريزة الخوف ويطلب الطمأنينة بجمع المال. وهذا حسن إذا عرف أين يقف، ومتى يقنع بمقدار من المال يحقق هذه الطمأنينة، ولكن بعيد جدا أن يعرف هذا؛ لأنه حتى بعد أن يحقق هذه الطمأنينة، ويجمع من المال ما يكفيه هو وعائلته ينساق في عادة الجمع، فلا يكون المال خادمه، بل سيده الذي يستبد به، ويحمله على الجهد أكثر من عماله الذين يخدمونه، حتى ليصل إلى مكتبه أو متجره قبل دخولهم، ويخرج بعد خروجهم.
هذا هو شأن كثير من الناس الذين يشقون لأنهم ينساقون مندفعين بغرائزهم دون أن يسلطوا عقولهم عليها؛ فيعتدلون وينظمون نشاطهم كي يعيشوا الحياة الفنية المتناسقة. ومن شأن الغرائز أنها تسرف وتغلو؛ لأن الطبيعة تحرص على بقاء النوع، وقد جهزتنا بهذه الغرائز قبل أن تجهزنا بالعقل؛ وذلك كي تكفل لنا البقاء والتغلب في ميدان التنازع بين أنواع الحيوان وأفراده للبقاء.
اعتبر - مثلا - غريزة التناسل؛ فإن رجلا واحدا - واحدا فقط - يحمل في جسمه من الجراثيم المنوية ما يكفي لتلقيح أناث النوع البشري كله! ونجد مثل هذا الإسراف في سائر الغرائز؛ فإن غريزة الحيوان تحملنا على الرغبة في التسلط بامتلاك هذا الكوكب إذا قدرنا، وقد حاول ذلك الإسكندر وتيمورلنك ونابليون وهتلر. وحين نشرع في الاقتناء نتوهم أننا يجب أن نجمع ما يكفينا ألف سنة!
وقيمة العقل أنه يتسلط على غرائزنا، ويحملنا على الاعتدال، ولكن بلا زهد أو نسك؛ أي بلا إنكار للغرائز. وقد يكون لقليل من الزهد قيمة في التذاذ العيش؛ أي في التأنق في الاختيار بالامتناع عن قبول كل ما يرد؛ كالعطش يجعل الشراب أسوغ، ولكن الاستمرار عليه جنون قاتل.
وتقتضينا الحياة الفنية أن نعيش بالعقل والغريزة معا في مصالحة ووفاق بين الاثنين، ولكن في تحيز نحو العقل؛ لأن العقل إنساني والغريزة حيوانية، ولأن الفرق بين الإنسان الإنساني والإنسان الحيواني هو أن الأول يعتمد في الأكثر على وجدانه وعقله، في حين يعتمد الثاني في الأكثر على غرائزه.
كيف نسوس عواطفنا
العواطف قوات موطرية أو انفجارية، وهي في حال الأولى تكسبنا الطاقة التي ننبعث بها إلى النشاط الذهني أو الجسمي، ولولا هذه القوة الموطرية لما تحركنا إلى الطموح أو الدراسة أو الكسب، وهي لذلك جهاز نافع أيام الصحة، ولكنها تستحيل إلى قوة انفجارية معربدة أيام المرض؛ نتطوح بها إلى الجنون أو الشذوذ أو الإجرام.
والعواطف في مجموعها اجتماعية؛ أي إننا نكسبها من المجتمع وليس من الطبيعة. وصحيح أن هناك عواطف نرثها وراثة طبيعية؛ كالعاطفة الجنسية أو عاطفة الجوع إلى الطعام، ولكن حتى هذه العاطفة «الطبيعية» تتخذ لونا اجتماعيا.
والمجتمع الذي نعيش فيه، بما له من طرق في كسب العيش وأساليب الإنتاج، يعين العواطف الشخصية لكل شخص منا؛ فإذا كنا نعيش في نظام اقتصادي يقوم على المباراة، فإن صفات الأنانية والغيرة والرغبة في التفوق والاقتناء والطموح تصير عواطف شخصية تحفزنا إلى العمل والكسب، وأحيانا تستحيل هذه الصفات إلى عواطف سيئة؛ كالحسد والتسلط والخوف.
وتحدث لنا عواطف أخرى إذا كنا نعيش في مجتمع تعاوني ليس فيه سيد ومسود، وغني وفقير، وكانز ومحروم، كما هي الحال في المجتمعات الاشتراكية.
Página desconocida