ومن الطبيعي أن يختلف الزمن اللازم لتحقيق أحد التحولات الاجتماعية بالتطور باختلاف نفسية كل أمة، فعند بعضها تجد دور الحجر المنحوت - الذي هو صفة أوائل ما قبل التاريخ - قد امتد إلى أيامنا، وقد لقيت بعض بقايا هذا الدور في أثناء رحلاتي في الهند على الخصوص، فالإنسان إذا طاف في شبه الجزيرة الكبرى هذه أمكنه أن يرى انتشار أدوار الإنسانية المتعاقبة المترجحة بين عصر الكهوف وعصر الهاتف.
وكانت مراحل التطور المدني الأولى بعيدة المدى إلى الغاية، فلم تجاوز إلا في زمن طويل جدا، وكان لا بد للإنسان الابتدائي أن يكدس جهودا قبل أن يحقق تقدما كثير البساطة ظاهرا، كصنع النار، وحرث الأرض وزرعها، وجمع بضع كلمات يتألف منها رسم لغة، إلخ، فلما تمت الخطوات الأولى سار التقدم سيرا ثابتا سريعا. ومع ذلك فإن الزمن الضروري لبلوغ الإنسان الابتدائي درجة أبسط الحضارات يقدر بمدة تترجح بين خمسين ألف سنة ومائة ألف سنة.
وصار التقدم بالغ السرعة في زمن بالغ الجدة فقط، فقد كان القرن الأخيرة شاهدا في مختلف فروع المعرفة على اكتشافات أعلى بمراحل من جميع الاكتشافات التي تمت في أثناء تعاقب الأجيال التي سبقته ببطء.
2
وما وقع من تحقيق عن تطور الأمم ظل مجهولا زمنا طويلا، فلم يزل مؤرخون من ذوي الفضل، كرينان، يتصورون إلى وقت قريب كون الأغارقة ظهروا في التاريخ حائزين بغتة حضارة رفيعة، واليوم نعلم أن أمم كلدة ومصر كانت قبل الأغارقة بزمن طويل، قد أنضجت على مهل كل تقدم ظهرت الحضارة الإغريقية إزهارا له. والحق أنه كان لا بد لإعداد هذه الحضارة من جهود أربعة آلاف سنة أو خمسة آلاف سنة موزعة بين سهول كلدة وضفاف النيل. وكانت الثقافة اليونانية في الأزمنة القريبة من بركلس تمثل حاصل حضارات كثيرة صهرت في واحدة، ففي آسية وشمال إفريقية - لا في بلاد اليونان - كان أصل الحضارة الإغريقية إذن.
ويصبح تطور إحدى الأمم رجعيا بعد أن كان تقدميا، فبهذا الرجوع تبصر جميع الحضارات ختام دورتها.
وتتجلى معلولات مثل ذلك الانحطاط لدى مختلف الأمم - ولا سيما المعاصرون - بالعود من الحياة الفردية إلى الحياة الجمعية، والواقع أن الانتقال من حال الهمج الفطريين إلى الحياة الفردية كان من تقدم البشرية، فالحضارة تميل إلى الزوال إذا ما عاد الإنسان إلى الحال الألبية، أي: إذا ما خضع لعوامل العدد مقدارا فمقدارا، وتعد الاشتراكية والشيوعية التي هي طورها الأخير مظهرين خالصين لهذا الميل الرجعي. •••
وعلى العموم تتطور الأمم تطورا يلائم الضرورات التي توجبها الأحوال، وعندما يصبح مزاجها شديد المحافظة فيحول دون تطورها بسرعة كافية لا تتم الملاءمة الضرورية إلا بثورة عنيفة، ومن ذلك حال الثورة الفرنسية التي ألغت آخر امتيازات الأشراف بعد أن عادت لا تسوغها أية خدمة خاصة.
أجل، إن الثورات تغير حال الشعب الحاضرة، ولكن بما أنها لا تستطيع مس الحال الماضية فإن هذا الماضي لا يلبث أن يسترد نفوذه، ويدل تاريخ الانقلابات المتنوعة التي وقعت في فرنسة في القرن الذي عقب الثورة الكبرى على سلطان هذا النفوذ، أي: وطأة القوى الموروثة اللاشعورية التي توجه المشاعر ومن ثم توجه السير.
وتدل الثورة الروسية مرة أخرى على أن المبادئ، التي يتم الانقلاب الاجتماعي باسمها، تعود غير مرعية من قبل الثوريين الظافرين، وهكذا انتهى الشيوعيون، الذين كانوا يريدون جعل الملك جمعيا، إلى إعادة الملك الفردي، وقد انتهوا أيضا إلى الحكم بأساليب الشرطة الإرهابية التي كان يطبقها القياصرة السابقون. •••
Página desconocida