أجل، يمكن أن توصف أفعال هذه الطبيعة بالغريزية تماما، بيد أنه يوجد من هذه الأفعال ما يختلف سيره وفق الأحوال، فيبدي من الصفات الأساسية ما هو خاص بالعقل من حيث النتيجة، وهذا ما جعل بعض علماء الطبيعة - ولا سيما الأستاذ بوفيه - يقول إن الحشرات تعقل كالإنسان، وأصح من ذلك أن يفترض بالحقيقة كون الحيوان لا يعقل كالإنسان، ولكنه يملك من طرز المعرفة ما يختلف عن طرزنا، وتلك هي التي تعين سلوك بعض البعوض، ولا سيما بعوض البلاد الشمالية، فأنثاه تحفظ بيضها أسابيع كثيرة عن توريص
2
إذا لم تتصرف بماء كاف تضمن به حياة صغارها؛ ولذا يكون وضع البيض لديها أمرا اختياريا، وهكذا ينظر إلى مصلحة النوع البعيدة فقط. وكذلك طبائع النحل لا تدخل ضمن نطاق التعاريف القديمة؛ وذلك لأن النحل لا يغير مناهج بنائه وادخار غذائه على حسب الإقليم فقط، بل يتصف أيضا باستعداد عجيب لتغيير جنس دوده كما يريد بتغييره تركيب غذائه كيماويا، وإذا حدث ما تحرم به خلية النحل ملكتها قدم النحل من الغذاء ما يحول به دودة إلى ملكة جديدة.
والملاحظات التي هي من هذا القبيل كثيرة، ومنها يعلم أن الغريزة عادت لا تعد ضربا من الخصائص الثابتة التي تنعم الطبيعة بها على الحيوانات عند خلقها، فهي قسم من تلك القوى غير الشاعرة التي يمكن أن تشاهد عند الحيوان وعند الإنسان، قسم من تلك الخصائص التي أخذ العلم يتمثل أهميتها فقط. •••
ويظهر أنه يمكن تقسيم الحياة غير الشاعرة إلى: لا شعور عضوي، ولا شعور فزيوي.
ويبدي اللاشعور العضوي نشاطا فائقا ذا طبيعة مجهولة تماما، ويقوم بوظائف حيوية كالدورة الدموية والتنفس والهضم ونشوء الأعضاء، إلخ، وما يؤدي إليه من أفعال هو من التعقيد - كما ذكرنا - ما لم ير العالم معه بعد ظهور عفريت قادر على إدراكه.
ويبدو اللاشعور الفزيوي، المجهول في جوهره كالسابق أيضا، أساسا للوظائف الذهنية ويدخر عملها، وتشتق كل تربية من الانتفاع به، وهو لما يتصف به من جمع الانطباعات وحفظها يزاول به كثير من الأمور بلا جهد بعد تعلمها بجهد؛ ولذلك تكون التربية فن إدخال الشعوري إلى اللاشعوري كما حاولت بيان ذلك في كتاب آخر.
ومع أن العلم لم يتقدم كثيرا في دراسة اللاشعور فإنه يقرر بالتدريج أنه ينضج في هذا الحقل عوامل كثير من الأفعال التي كانت تعزى إلى العقل وحده، وفي كتاب آخر شبهت الحياة العقلية الخالصة بتلك الجزيرات البارزة على سطح البحار المحيطة، فلا تكون في الغالب غير ذرى لجبال عظيمة مغمورة بالبحار، فالجبال العالية غير المنظورة تمثل اللاشعور، وتمثل الذرى الصغيرة التي لا تكاد ترى تلك الحياة الشاعرة.
وتتجلى أفضلية الإنسان البالغة على الحيوان في كونه استطاع أن يخرج قليلا من الحياة الغريزية اللاشاعرة التي ظل هذا الأخير غارقا فيها، وهو إذا ما خرج منها كان ذلك ناقصا، وليس لزمن طويل مطلقا.
والحضارة تنفع في زجر التلقينات اللاشعورية التي تضر الفرد والمجتمع، والدساتير - ولا سيما الديني منها - تجهز برسوم باطنية رادعة، أي بتلقينات ثابتة قادرة على زجر التلقينات المتقلبة التي تحركها الشهوات. •••
Página desconocida