(لإيضاح معانيها وبذلك تنجلي فلسفة ابن رشد انجلاء تاما)
ذلك ما نشرناه في الجامعة عن ابن رشد. والآن إليك شرحه
الفقرة (1) فلسفة المتكلمين
كل الفلاسفة والعلماء من حين نشأة الفلسفة والعلم إلى اليوم، تنحصر آراؤهم عن الخالق والخالق في رأيين: الأول؛ «وجود خالق حر مختار في أعماله، يهب متى شاء ويمنع متى شاء. وله عناية إلهية تدبر العالم. وهو سبب قوى الطبيعة، أي أن هذه القوى موجودة فيه لا فيها. ووجود نفس بشرية جوهرها خالد لا يفنى».
والرأي الثاني؛ «إن المادة أزلية، أي لا بداية لها. ونشأة الكون، إنما هي من تحول دقائق هذه المادة بقوتها الخاصة تحولا ترتقي به من حالة إلى حالة أسمى. وذلك يقتضي وجود طبيعة ثابتة، ونواميس ووجوب الوجود، وعقل تبنى عليه النواميس، وفناء الإنسان في الكل الذي أخذ منه مع الاعتقاد بوجود خالق، ولكن اعتقادا مبهما». هذان هما الحزبان اللذان تنازعا ويتنازعان العلم والدين.
ومما لا يحتاج إلى بيان أن أنصار جميع الأديان موجودون في كل مكان حتى الأديان الوثنية نفسها من الحزب الأول، لأن كل صفحة من صفحات كتبهم تدل على تلك المبادئ. كما أنه لا يحتاج إلى بيان - أيضا - أن فلسفة أرسطو من الحزب الثاني؛ لأن كل صفحة في كتبه تدل عليها. وقد تابعه في ذلك فلاسفة العرب كابن سينا والكندي والفارابي وابن رشد، فكانوا من الحزب الثاني.
فبعد هذا البيان لا نظن أحدا يلوم الجامعة على وضعها المتكلمين (من المسلمين أو من المسيحيين) في الحزب الأول. ونحن على يقين أن علماء الدين في المذهبين «الإسلامي والمسيحي» لا يرون في ذلك شيئا يسوءهم، ما داموا يطلبون البقاء على المبادئ الإسلامية والمسيحية التي ربوا فيها. ولكن إذا أريد التوفيق بين هذين المبدأين لجعل مذهب المتكلم واللاهوتي موافقا لمذهب الفيلسوف، وذلك بواسطة التأويل فإن المسألة تتخذ وجها آخر. ذلك أن مريدي التوفيق يضطرون حينئذ إلى إهمال كل ما كان في الكتب المنزلة مخالفا لمذهبهم والتفتيش بالفتيلة والسراج، كما يقول العامة، على كل ما يوافقه. فحينئذ ينفتح باب واسع هائل. وهذا الباب هو تفسير الكتب والآيات كما يشاء المؤول. ومتى ابتدأ الإنسان بالتأويل، فإنه لا يعلم إلى أين ينتهي. وهذا أبلغ سلاح كان في أيدي مناظري ابن رشد. فإن هذا الفيلسوف كان يوجب التأويل للتوفيق بين الدين والفلسفة، وأما هم فإنهم كانوا يقولون: إن تأويلك هذا يخرج الدين عن شرعه ويبدله بدين آخر لا نعرفه. ومما كان يزيد حجتهم قوة ما قرأوه في كتابات الإمام الغزالي من الرد على تلك الفلسفة اليونانية، التي كان ابن رشد يدافع عنا ويدعو إليها. فكانوا يكرهون التوفيق بين الشريعة الإسلامية وفلسفة مردودة منقوصة لم تثبت صحتها. ولو قاموا اليوم من قبورهم الأبدية وسمعوا ما يكتبه الإفرنج من الاستهزاء بفلسفة أرسطو وتلامذته، لأغرقوا في الضحك وعادوا إلى راحتهم الأبدية بنفوس مستريحة؛ لأنها لم تحارب حقا ثابتا.
ففلسفة المتكلمين كما ذكرناها مبنية على قاعدتين: الأولى؛ تنزيه الخالق عن كل قيد. والثانية؛ حفظ الدين من حدوث خرق فيه بواسطة التأويل وتطبيقه على العلم، لاسيما وأن ذلك العلم لم يثبت ثبوتا لا يقبل الجدال. وحسبنا دليلا على ذلك ما ذكره العارف الواحد الصمداني الشيخ محيي الدين بن عربي في كتاب له إلى الإمام فخر الدين الرازي قال: «إن كل موجود عند سبب ذلك السبب محدث مثله، فإن له وجهين وجه ينظر به على سببه، ووجه ينظر به إلى موجده وهو الله تعالى. فالناس كلهم ناظرون إلى وجوه أسبابهم والحكماء والفلاسفة كلهم وغيرهم، إلا المحققين من أهل الله تعالى كالأنبياء والأولياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام، فإنهم مع معرفتهم بالسبب ناظرون من الوجه الآخر إلى موجدهم. ومنهم من نظر على ربه من وجه سببه لا وجهه، فقال: حدثني قلبي عن ربي. وقال الآخر وهو «الكامل»: حدثني ربي إذ ما كان وجوده مستفادا من غيره، فإن حكمه عندنا لا شيء، أي أن الأسباب ليست بشيء تذكر؛ لأن وجودها مستفاد من الله. انتهى بحرفه نقلا عن بهاء الدين العاملي.
فمن ذلك يتضح أن قول المتكلمين
1 (في الإسلام والمسيحية) بأن المادة حديثة (أي غير أزلية تعني مخلوقة بخلق خالق) وأن الخالق متصرف في الكون مختار في تصرفه، وأن الأسباب موجودة فيه لا في الطبيعة، وأنه متى حدث حادث فلا يلزم عن حدوثه أن يكون ناشئا عن حادث سبقه؛ لأن الله يخلق ما يشاء، وأن العالم قد يكون بصورة أخرى غير الصورة المصور بها الآن، إن هذا القول كله إنما قيل لتقديس ذات الخالق وتنزيهه عن كل قيد، وجعله كلي القدرة في الكون. وكل قول يخالف هذا القول يميل بحكم الضرورة إلى المبدأ الآخر والحزب الآخر الذي تقدم ذكره في صدر الكلام ومفاده تقييد الخالق بنواميس ونظام وطبيعة وسنن. ونحن لا نظن أن جميع رجال الدين يقبلون هذا التقييد، لما وراءه من الأمور التي تنزل المعتقد بها في أحدور هائل لا نذكر شيئا عنه الآن. ولذلك استغربنا أشد استغراب أن يكون بين رجال الدين (مسيحيين أو مسلمين) من يرضى بتقييد الخالق ذلك التقييد، ويحاول إثبات أن المتكلمين لا ينكرون الأسباب، مع أنهم يفتخرون بإنكارها ويرون فيه «الكمال»، كما ورد آنفا في كلام العارف بالله محيي الدين بن عربي.
Página desconocida