وصلنا الآن إلى مسألة المسائل، وأهم المواضيع وهي مسألة الخلود. ويسوؤنا أن كلامنا هناك في هذه المسألة قد حمل على غير محمله. ولعل السبب في ذلك أنه كان مختصرا فصار بالاختصار غامضا، ولذلك نشرحه هنا شرحا يزيل ذلك الغموض.
وقبل الشروع في ذلك نعيد هنا ما ذكرناه في مقدمة تلك الفقرة، وهذا نصه: «إننا في أثناء مطالعتنا لبعض كتبه (ابن رشد) قبل الإقدام على ترجمته، رأينا له في عدة مواضع كلاما يدل أصرح دلالة على اعتقاده بالحياة الثانية حتى بالعقاب والثواب أيضا. نقول: وقد قلنا ذلك ونحن نفكر في ما ذكره ابن رشيد في كتابه (فصل المقال) فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال وهذا نصه: «ولكن إذا كان التأويل واجبا (أي تأويل الآيات الدينية) فهو لا يكون في الأصول مثل الإقرار بالله تبارك وتعالى وبالنبوات وبالسعادة الأخروية والشقاء الأخروي، بل يكون في الفروع. وإن كان في الأصول فالمتأول له كافر، مثل من يعتقد أنه لا سعادة أخروية هاهنا ولا شقاء، وإنه إنما قصد بهذا القول أن يسلم الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم، وإنها حيلة وإنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط». نقول: ولا ريب أن نشرنا هذه الشذرة في الصفحة 534 من ترجمته في الجزء الثامن يدل على إعطائنا الفيلسوف حقه من نشر ما له وما عليه.
بقي علينا الآن بسط فلسفته في مسألة الخلود فنقول:
يؤخذ من فلسفة أرسطو التي شرحها الفيلسوف رنان في كتابه ابن رشد (الصفحة 123) أن أرسطو يوضح في الفصل الثالث من كتابه في «النفس» أن العقل نوعان: نوع فاعل ونوع منفعل، ولكن النوع الفاعل هو النوع الأصلي؛ لأن المنفعل أو المفعول مستمد منه. فالفاعل إذن أرقى من المفعول. والفاعل هو عقل بريء من المادة وغير قابل للامتزاج بها ولا للفناء. وأما العقل المنفعل؛ فهو قابل للفناء. انتهى ملخصنا عن رنان من الصفحة 123 التي شرح المؤلف فيها فلسفة أرسطو مستشهدا بألفاظه اليونانية نفسها.
فبعد هذا ينبغي أن نعلم ما هو العقل الفاعل الذي تقدم ذكره، وما هو العقل المنفعل. فنقول: إنه قد ظهر مما تقدم من كلام ابن رشد أنه يريد بالعقل الفاعل ما أراد به أرسطو أي المصدر الذي يستمد منه العالم، القوة والحركة يعني العقل الأول الذي هو مصدرهما. فالعقل الأول البريء من المادة والمفارق للإنسان أبدي خالد لا يفنى. وهذا قول لا خلاف فيه، ولكن ما هو العقل المنفعل؟ هو كما تقدم الكلام عليه الإنسان نفسه أو العقل الذي في الإنسان. فهذا العقل غير خالد خلودا منفردا بنفسه، وإن كان خالدا خلودا بجوهره.
وبيان هذه المسألة الغامضة التي نرويها من قبيل الرواية لا التقرير، أن العقل الذي استمده الإنسان من واهب العقل لا يعيش بعد الموت مستقلا وحده، كما يعتقد العامة، بل له حياة أخرى مجهولة. ذلك؛ لأن العقل الفاعل لا يفنى من حيث نوعه؛ لأن جوهره خالد أبدي، وإن كان فانيا من حيث الإنسان الذي أودع فيه، ولكن ما هي الحياة التي تكون له بعد الموت؟ أهي فناء في الكل الأبدي الذي أخذ منه فيكون موجودا أو فانيا في وقت واحد. أم هي شيء آخر؟ الله أعلم.
ولسنا نزعم أن هذا المذهب هو مذهب ابن رشد وأرسطو حرفيا؛ فإن أقوال المفسرين متضاربة في هذا الموضوع وكل واحد منهم يفسره كما يشاء. فبعضهم يقول: إن أرسطو قد صرح بأن العقل المنفعل أو المفعول فان، وهو تصريح كاف للدلالة على فكره. وبعضهم يقول: بل إن روح فلسفته تدل على خلاف هذا القول. وكذلك قولهم في رأي ابن رشد في هذا الشأن لا يخلو من نظر. فمنهم من يرى أن ابن رشد يكرر مرارا أن العقل المنفعل غير مفارق للإنسان ولا هو خالد. ولذلك؛ فإنه يعتقد بأنه فان مع المادة. ويستشهدون على ذلك بقوله في بعض المواضع: «إن العناية الإلهية منحت الحي الفاني المقدرة على التوالد لتخليد نوعه، وتعزيته بهذا الخلود النوعي عن الفناء».. (ابن رشد تأليف رنان الصفحة 153.)
ومعنى هذه العبارة واضح عند بعضهم وغامض عند البعض الآخر. أما الأولون؛ فإنهم يفسرونها بقولهم: إن لابن رشد مذهبا خاصا في وحدة العقل في العالم. وبيانه أنه يعتقد أن كل عقل في كل إنسان مصدره واحد، ومأخوذ من نبع واحد، وهو العقل الأول العام الذي تقدم ذكره. فالعقل الذي في كل إنسان إذن هو واحد. وقد كان هذا المذهب من أضعف الجوانب في الفلسفة الرشدية، ولذلك سهل على أعدائه نقضه في أوروبا. وقد كان القديس توما يصيح بأنصار ابن رشد: هل تزعمون أن العقل الذي كان في أفلاطون وأرسطو، والعقل الذي في قطاع الطرق واللصوص هو واحد.
فهذا المذهب يجعل للإنسانية عقلا واحدا وهو ما سميناه عقل الإنسانية، وبحسب رأي ابن رشد فيه يكون هذا العقل خالدا في الأرض دون سواه. أي أن الإنسانية تبقى في الكون متعاقبة قرونا بعد قرون، وأجيالا بعد أجيال، إلى ما شاء الله. فهي خالدة بالحياة لا بالموت.
ولكن إذا نظر إلى تعليم ابن رشد من وجه آخر استطاع الناظر أن يستخرج منه رأيا آخر. مثال ذلك أن ابن رشد يقول إن الحس والذاكرة والحب والبغض مفارقة لعقل الإنسان بعد الموت، فالنفس التي فيه تتجرد منها، ولكن يبقى لها العقل أي أنها لا تفنى. وهذا القول استخرجه من فلسفة أرسطو الباحثون فيها بحثا، يقصدون به تطبيقها على الدين كالقديس توما وألبر. ومن ذلك يظهر أن النص في هذه المسائل حكمه حكم لا شيء، وإنما العمدة على التأويل والتفسير والتأويل حياة وروحا يوافقان مذهبه. وهذا هو السبب في اختلاف الفلاسفة في تفسير فلسفة أرسطو وجميع الكتب الشرائعية العليا، التي يرجع إليها البشر في شئونهم الروحية كالقرآن والإنجيل والتلمود وغيرها.
Página desconocida