Filosofía de la ciencia en el siglo XX: Orígenes, cosecha y perspectivas futuras
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Géneros
فكما أشرنا، لم يكن العلم الحديث مجرد تغير أو تطور في آليات الكسب المعرفي، بقدر ما كان نقلة حضارية شاملة، وما إن بدأ مشروعه ينمو ويتصاعد، إلا وقد امتثل نصب الأعين منهاج واضح قاطع ألا وهو المنهج التجريبي المعروف باسم «الاستقراء
Induction »، وقد بات معتمدا بوصفه شريعة العلم الحديث وناموسه وسر عظمته، بقدر ما هو روح العصر الحديث وأوضح تعبير عن متغيراته وعن آفاقه المستهدفة.
ولا غرو في أن يحتل المنهج التجريبي مثل هذا الموقع في منظومة العصر الحديث، فإذا حق القول: إن الفلسفة تجريد وتجسيد لروح عصرها، فإن منهج البحث أو نظرية المنهج العلمي «الميثودولوجيا
Methodology » دونا عن كل فروع الفلسفة هي الأجدر والأقدر على تجريد وتجسيد روح العصر، فهل من تعبير عن صراعات العصر المعني وطموحاته وتوثباته، وأيضا عن قصوراته ومواطن زلله أصدق خبرا من المنهج؟! أي الأسلوب الذي يتبعه ويعتمده العصر المعني بشكل عام للبحث عن الحقيقة، أو بالأحرى عن الوجه المعين من الوجوه الشتى للحقيقة ... الوجه الذي استقطب الاهتمام والاتجاه العام للعصر المعني، فتكشف نظرية المنهج عن ديناميكياته، أما حين تكون المعالجة متتبعة لمشارف التقدم التي أحرزت فيما تلى العصر المعني - كما سيحدث في فصول الكتاب القادمة - فسوف تكون النظرية المنهجية كاشفة أيضا عن قصوراته والتقييدات التي حاقت بإمكانياته المعرفية، وسبيلنا الآن إلى تفصيل هذا، وهو في الوقت نفسه تفصيل لنشأة العلم الحديث، أليس المنهج التجريبي مفتاحه وآيته، على أن العلم الحديث وفلسفته على السواء قد اتخذا - للحق المر - من قارة أوروبا ... أو من الحضارة الغربية مسرحا وموطنا؛ لذلك وجب أن نصوب الأبصار للعالم الغربي؛ لكي نفهم أصول نشأة العلم الحديث وبيرقه المرفوع والمعروف باسم المنهج التجريبي، ونعود قليلا إلى الوراء لنتتبع مسار الأحداث في الحضارة الغربية.
وكما ذكرنا كان التحقير من شأن العمل اليدوي المنكب على جزئيات الواقع التجريبي هو دأب الحضارة الإغريقية، والذي تأدى بها إلى حد التردد في اعتبار العبيد القائمين عليه والنساء المتصلات به بشرا! فالإنسان هو الرجل الإغريقي الحر الذي يتوافر له فراغ يمكنه من ممارسة فضيلتي التأمل العقلي الخالص والصداقة؛ ليتحاور مع الأصدقاء الأحرار - الفارغين - في نتاج تأملاته العقلية، وبطبيعة الحال انعكس هذا على الفكر الإغريقي، خصوصا بمجيء الثالوث الأعظم سقراط الرائد وأفلاطون شيخ المثالية المهيب وعدو التجريبية اللدود، ثم المعلم الأول أرسطو.
لقد أتى أرسطو (384-322ق.م) في ذروة مد الفلسفة الإغريقية وخاتمة عصرها الذهبي الذي شهد فيض إبداعاتها العظيمة وصياغاتها الباقية لأسس العقل النظري، فمكنته عبقريته من أن يكون خير تعبير عنها وأصفى بلورة لها، أو كما اتفقنا خير تجريد وتجسيد لروح عصره - روح الحضارة الإغريقية؛ لذلك فعلى الرغم من نزعته العملية الواقعية، ومن تجريبيته الشهيرة التي جعلته يوصي قواد تلميذه الإسكندر الأكبر بجلب عينات من البلدان المفتوحة؛ ليستكمل بحوثه في علم الأحياء، وعلى الرغم أيضا من إشارته إلى أهمية الحواس بوصفها أبواب المعرفة، بل ومن أنه واضع مصطلح الاستقراء
Epagoge
وقد بحث معانيه وطرائقه في كتاب «الطوبيقا» وحددها بثلاث طرق هي: الاستقراء التام الذي يستقرئ كل أفراد العينة أو كل أمثلة الظاهرة. والاستقراء الناقص أو الحدسي الذي يكتفي بعدد قليل أو أمثلة قليلة ويصعد منها إلى القانون الكلي. ثم الاستقراء الجدلي الذي لا يبدأ من عد كلي أو عدد بسيط، بل يبدأ من مقدمات مشهورة ظنية أو شائعة فتكون نتائجه احتمالية عرضة للشك. والنوع الثاني، أي الاستقراء الناقص أو الحدسي، هو القريب من المعني الحديث، وقيل: إن إيمان أرسطو بالاستقراء يبلغ درجة إيمانه بالقياس، فإذا كان القياس هو الوسيلة اليقينية للخروج من مقدمات بنتيجة، هي ربط الحد الأصغر بالحد الأكبر عن طريق الحد الأوسط، فإن الاستقراء هو الوسيلة لتكوين المقدمات الكبرى، ولا قياس طبعا بغير مقدمات، إذن لا قياس بغير استقراء ... نقول: إن أرسطو على الرغم من كل هذا جرد وجسد الروح الإغريقية الممجدة للنظر العقلي الخالص، وذلك حين وضع أعظم إبداعاته طرا، أي علم المنطق الذي خلقه أرسطو خلقا مما يشبه العدم، من أجل نظرية القياس التي تعد من المنطق بمثابة الثمرة من الشجرة.
والقياس الأرسطي هو طريقة يقينية للخروج بقضية «نتيجة» من قضيتين مطروحتين «مقدمات»، إذا كانت المقدمات يقينية واتبعنا سبل القياس الأرسطي فلا بد وأن تكون النتيجة يقينية، بغير أي احتياج للتجريب أو التجاء لمعطيات الحواس أو استشهاد للواقع . القياس إذن صورة من صور المنهج الاستنباطي الخالص، أي منهج استنتاج النتائج من المقدمات المطروحة اعتمادا على قوانين العقل والمنطق فقط. وقد كان القياس الأرسطي منطقا خالصا وفعلا عقليا صرفا، إنه الابن الشرعي للحضارة التي دأبت على تمجيد النظر وتحقير العمل، والصياغة النهائية لطابع الفكر الإغريقي، أو ببساطة تجسيد وتجريد لروح الحضارة الإغريقية، ولكنه أيضا أول صياغة في تاريخ الفكر البشري لمنهج البحث، وأول نظرية منطقية مقننة لأساليب الاستدلال وأشكال التفكير.
ثم انتهت مرحلة الحضارة الإغريقية بخيرها وشرها، وراحت ظروفها العينية التي أنجبت إنجازاتها، وبدأت مرحلة العصور الوسطى
Página desconocida