مقدمة
1 - تعريف العلم، موضوعه، تقسيمه، غايته
2 - الأخلاق والعلم1
3 - مكانة الأخلاق من الفلسفة
4 - الخلق وتعريفه، تكونه، المؤثرات فيه، أساليب تكوين الأخلاق
5 - السلوك، المقصد، الباعث
المراجع
مقدمة
1 - تعريف العلم، موضوعه، تقسيمه، غايته
2 - الأخلاق والعلم1
3 - مكانة الأخلاق من الفلسفة
4 - الخلق وتعريفه، تكونه، المؤثرات فيه، أساليب تكوين الأخلاق
5 - السلوك، المقصد، الباعث
المراجع
مباحث في فلسفة الأخلاق
مباحث في فلسفة الأخلاق
تأليف
محمد يوسف موسى
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على صفوة الخلق المبعوث متمما لمكارم الأخلاق، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فهذه مباحث كتبتها منذ سنوات، عمدت فيها إلى بسط القول في غير إسهاب، وإيضاح الفكرة مع القصد والإيجاز، كما عنيت بربط آراء فلاسفة الأخلاق الإسلاميين بأمثالهم الغربيين، وبالإشارة للمراجع الهامة ليرجع إليها من يريد الاستزادة، وبالتعريف بالعلماء والمفكرين الذين يرد ذكرهم في ثنايا البحث؛ حتى لا يردد الشادي في الدراسات الفلسفية أسماء لا يعرف شيئا عنها.
وقد رأيت نشرها هذه الأيام، بشيء من التعديل، لعل في ذلك بعض الخير. ونسأل الله التوفيق والسداد.
الروضة في ذي القعدة عام 1362ه/نوفمبر عام 1940م
المبحث الأول
تعريف العلم، موضوعه، تقسيمه، غايته
(1) تعريف علم الأخلاق
الأخلاق جمع خلق، ومرد معناه في اللغة العربية وغيرها إلى معنى العادة، ففي العربية نجد صاحب لسان العرب يقول: واشتقاق خليق وما أخلقه من الخلاقة وهي التمرين، من ذلك تقول للذي ألف شيئا: صار ذلك له خلقا أي مرن عليه، ومن ذلك: الخلق الحسن. وفي اللغات الأوروبية نجد كلمة إيتيك
Ethique ، وهي اسم هذا العلم في اللغة الفرنسية، ترجع إلى كلمة إيتوس
Ethos
الإغريقية، ومعناها العادة.
من أجل هذا عرفه بعض العلماء بأنه «علم العادات»، وهو تعريف تعوزه الدقة؛ لأن علم الأخلاق لا يبحث قط في أعمال الناس الإرادية التي صارت عادات وتقاليد على اختلافها باختلاف الأمم والأيام، إنما يبحث في توجيهها الطريق السوي طبقا لقواعده وقوانينه، وفي الحكم لها أو عليها حسب مقاييس الخير التي يضعها.
وهناك تعريف آخر لأحد الكتاب الفرنسيين الأعلام وهو باسكال
1
وهو : «الأخلاق علم الإنسان»، تعريف جميل جذاب، جر هذا الفيلسوف إليه أن الأعمال التي هي مناط البحث والحكم الأخلاقي هي أعمال الإنسان؛ ولكنه يتسع حتى يتناول بين دفتيه العلوم الإنسانية المتعددة، كعلم المنطق والنفس والتاريخ والقانون، وما إليها من العلوم التي تتخذ الإنسان من نواحيه المادية أو المعنوية محورا لبحوثها؛ لهذا لا يسعنا أن نرضى بهذا التعريف أيضا.
كذلك نرى له تعاريف أخرى جرت على ألسنة غير هؤلاء من الباحثين، منها أنه «علم الخير والشر»؛ لأنه يميز بينهما ويفصل معنى كل منهما، وأنه «دراسة الواجب والواجبات»؛ لأنه يعرفنا الواجب الذي ننزل على حكمه فيما نأتي ونذر، ويهدينا لما علينا من واجبات نحو أنفسنا وغيرنا وخالقنا. وكل من هذين التعريفين وإن كان صحيحا إلا أنه غير كاف، دراسة الخير والشر لا تغني عن دراسة الواجب الذي نسير على هديه، ولا عن دراسة الواجبات التي علينا أن نقوم بها، كذلك دراسة الواجب والواجبات ليست كافية لتحديد الأخلاق التي تبحث أيضا في الخير والشر، وماهية كل منهما، والمقاييس التي نزن بها الأعمال لبيان خيرها وشرها، ولنا أن نقول: إن هذين التعريفين يكون مجموعهما (بشيء من التأويل) تعريفا صحيحا مضبوطا.
وأخيرا، إذا أردنا تعريفا دقيقا لعلم الأخلاق، لنا أن نقول: «إنه علم القواعد التي تحمل مراعاتها المرء على فعل الخير وتجنب الشر، ويصل بالعمل بها للمثل الأعلى للحياة»، أو «علم القواعد التي تسير عليها إرادة المرء الكامل في أعماله ليصل للمثل الأعلى»، ذلك أن الأخلاق لا تبحث في حياة الناس الراهنة، أي من ناحية أعمالهم على ما هي عليه، بل من ناحية أعمالهم على ما يجب أن تكون عليه، أي في الحياة التي يجب أن يحيوها ليحققوا ما خلقوا له من الكمال.
ولا يبحث علم الأخلاق عن الأعمال الإنسانية من حيث القوانين والنواميس الطبيعية التي تجري على سننها، فقد تكلفت بهذه الناحية العلوم الطبيعية، ولا من حيث إقرار الجماعة التي يعيش المرء بينها لها أو إهدارها إياها، فذلك بحث القانون، ولا من ناحية ما رتب عليها من ثواب أو عقاب في الدنيا والآخرة، فهذه ناحية بحث العلوم الدينية؛ إنما يبحث علم الأخلاق في أعمال الإنسان الإرادية من ناحية مطابقتها للخير أو الشر، وفي توضيح معنى كل منهما، وهو بهذا يهدينا سواء السبيل، ويرشدنا إلى الغاية التي يجب أن نقصدها من أعمالنا. (2) موضوعه
موضوع كل علم هو مباحثه التي يعنى بدراستها. ونظرة إلى علم الأخلاق باعتباره فرعا من فروع الفلسفة ترينا أنه يتخذ هدفا لبحوثه مسائل عديدة هي التي تكون موضوعه، نراه يبحث في الخير والشر: ما هما؟ وما الفرق بينهما؟ وما هو المعنى الذي يلاحظ في هذا العمل فيكون خيرا، وفي ذاك فيكون شرا؟ وما هي ماهية الضمير الأخلاقي الذي به نقف على الخير والشر؟ وهل هو قاض معصوم، وهاد لا يضل في حكمه؟ وما هو الحق والواجب؟ وما هي الواجبات المختلفة؟ وما هو المثل الأعلى الذي يجب أن نتجه جميعا لتحقيقه؟ وأخيرا: ما هي القواعد التي تؤدي رعايتها وعدم الحيدة عنها للخلقية المثالية الكاملة؟
من هذا يتبين أن موضوع علم الأخلاق هو الأعمال الإنسانية الإرادية، أي الصادرة عن تفكير وإرادة من هذه النواحي المتشعبة كلها، ونقول «الأعمال الإرادية» لأن هناك أعمالا تصدر عن المرء وليست في شيء من موضوع الأخلاق.
وبيان ذلك أن من الأعمال التي تصدر عن الإنسان أعمالا لا دخل لإرادته ولا لتفكيره فيها، وذلك كأعمال الجهاز التنفسي والدموي والهضمي، وهذه هي الأعمال الآلية التي تحدث والمرء نائم أو يقظان، مفكر أو غير مفكر، ومنها أعمال منعكسة أي ناشئة عن سبب خارجي عن الجسم، مثل: اختلاج العين عند الانتقال فجأة من ظلمة إلى نور، وانقباض اليد عند وخزها، وهذه الأعمال كسابقتها لا كسب للمرء فيها ولا تتعلق إرادته بها. وإذا عرفنا أن علم الأخلاق يرتب مسئولية خلقية على الأعمال، تبين لنا بجلاء أن الأعمال غير الإرادية سواء أكانت آلية أم منعكسة ليست في شيء من موضوعه؛ لأنه لا يتدخل إلا حيث يكون القصد والاتجاه والإرادة.
على أن هناك نوعا آخر من الأعمال آخذا بشبه من الأفعال الإرادية وغير الإرادية، ومن ثم قد يشتبه الحكم فيها: أيتناولها علم الأخلاق فيصف بعضها بالخير وبعضها بالشر ويرتب على آتيها مسئولية، أم يكون فاعلها بنجوة من هذا كله؟ ويوضح معنى ذلك الأمثلة الآتية: (1)
من الناس من يأتي أعمالا وهو نائم، كالذي ينام ويترك المصباح مشتعلا بجواره ثم تبدو منه حركة لا يحس بها تقلب المصباح فتصيب النار شيئا تحرقه، أو يقوم وهو نائم فيعثر بطفل على مقربة منه فيصيب منه عضوا. (2)
شخص من عادته النسيان، علم أن جماعة يأتمرون بزيد من الناس، وأنهم اتخذوا لتنفيذ جنايتهم موعدا بعد يومين مثلا، فاعتزم تنبيه المؤتمر به، إلا أنه أرجأ ذلك حتى نسي الأمر، فإذا الجناية نافذة دون أن يملك لها ردا. (3)
رجل يعلم من نفسه أنه يثور للبادرة التي تبدر من غيره، وأنه إذا ثار تملكه الغضب وخرج عن وعيه، ومع علمه ذلك من نفسه ذهب لأحد الأندية التي هي مظنة إثارة غضبه فحدث ما كان يخشاه، وأتى بما يعد منكرا من الأعمال أو الأقوال.
بالتأمل نرى أن هذه الأعمال وأمثالها غير إرادية؛ إذ لم يتعمد النائم أن تتصل النار بأدوات الدار، ولا أن يكسر عضوا من الطفل النائم بجواره، ولم يتعمد كذلك الذي علم نبأ الاتفاق على قتل فلان من الناس ألا ينذره بالشر الذي بيت له، ولم يرد الغضوب في المثال الثالث سب أو ضرب من تعدى عليه حين أخذته سورة الغضب؛ لهذا كان لكل منهم أن يعتذر عن أعماله بأنه لم يفكر فيها، ولم تصدر عن إرادته.
ولكن هل يقبل علم الأخلاق هذا العذر، فيعفي صاحبه من المسئولية الأخلاقية ويخرج هذه الأعمال وأمثالها من موضوعه؟ نستطيع أن نؤكد أن الجواب بالسلب لا بالإيجاب، فهذه الأعمال يبحث فيها علم الأخلاق، ويرتب على صاحبها مسئولية خلقية؛ لأنها وإن صدرت عن غير إرادة وتفكير، ولكن كان في الإمكان الحيطة لها وتبين نتائجها وقت الانتباه والاختيار، ويوافق هذا ما اختاره المحققون من المفسرين في معنى قوله تعالى:
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، فإن التماس عدم المؤاخذة على النسيان أو الخطأ دليل أن ذلك مظنة المؤاخذة واللوم والمسئولية.
وقصارى القول أن الأعمال التي يبحث فيها علم الأخلاق هي الأعمال الإرادية، والأعمال التي وإن كانت وقت صدورها لا دخل للمرء فيها ولا صلة له بها، ولكن كان من الممكن الاحتياط لها حين كان المرء في فسحة من الوقت له انتباهه واختياره. أما الأعمال التي ليست من هذا القبيل، كالآلية والمنعكسة، فليست من موضوع علم الأخلاق في قليل أو كثير. (3) تقسيمه إلى نظري وعملي
يجرنا البحث في تقسيم الأخلاق إلى أخلاق علمية نظرية وفنية عملية، إلى بيان معنى العلم والفن أولا.
العلم: اليقين، يقال علم إذا تيقن. وجاء بمعنى المعرفة أيضا كما جاءت بمعناه، ضمن كل منهما معنى الآخر لاشتراكهما في أسبقية الجهل كما «المصباح»، وفي رأي الفيروزابادي صاحب «المحيط» وابن منظور المصري صاحب «لسان العرب» أنه بمعنى المعرفة أيضا، يقول الأول: «علمه كسمعه علما: عرفه»، ويقول الآخر: «العلم نقيض الجهل». وجاء في دائرة المعارف الفرنسية أن العلم هو «المعرفة المضبوطة الصادرة عن نظر وتمحيص، المتعلقة بنوع محدد من أنواع المعارف»، كعلوم النحو والأدب والقانون والهندسة.
وفرق بين المعرفة العلمية
Connairrance Scientifique
والمعرفة العامية
Connairrance Vulgaire ، المعرفة العامية معرفة فردية جزئية؛ إذ هي ما يكونه المرء لنفسه من آراء وأحكام فيما يعرض من الحوادث الجزئية، يتأثر فيها بالآراء الموروثة والبيئة التي تحيط به؛ ولهذا لا تخلو من الأوهام والأخطاء، ولا تأخذ طابع العموم الذي لا بد منه في العلم. أما المعرفة العلمية أو العلم فهي المعرفة العامة التي سبيلها النظر والاستقراء والتمحيص، والتي تعنى بالتعليل ورد الظواهر إلى أسبابها وكشف قوانينها، وهي مع هذا دون المعرفة الفلسفية أو الفلسفة التي تضيف إلى معرفة علل الأشياء وكشف ما يقوم عليه العالم من قوانين بها تجري أموره، محاولة تعرف غاية هذا الوجود وتعرف الله الذي هو غاية الغايات.
ومهما يكن من فرق بين أنواع المعارف المختلفة: العامية، والعلمية، والفلسفية، فإن مدلول تعريف العلم، كما ذكرناه عن دائرة المعارف الفرنسية، هو بعض ما يطلق عليه لفظ العلم عند المؤلفين الإسلاميين، فقد جاء في حاشية البناني على السعد أن أسماء العلوم المدونة «نحو المعاني» تطلق على إدراك القواعد عن دليل، كما تطلق على معلوماتها، وهي القواعد التي يقوم عليها الدليل أيضا، وعلى الملكة الحاصلة من إدراك القواعد مرة بعد أخرى، أعني ملكة استحضارها متى أريد. وحقق السيد الجرجاني أن العلم في إطلاقه على الإدراك يكون حقيقة لغوية، وفي غير ذلك إما حقيقة عرفية أو اصطلاحية أو مجاز مشهور.
أما الفن فهو كما جاء في المحيط: «الحال والقرب من الشيء كالأفنون، جمعه أفنان وفنون، وهو فن علم بالكسر: حسن القيام به»، وغني عن البيان أن حسن القيام بالعلم هو العمل به وتطبيقه عمليا، وكما جاء في بعض التعاريف الذي ذكرتها له دائرة المعارف الفرنسية: «هو تطبيق المعارف الحاصلة بالنظر والاستدلال بطرق خاصة، وهو يكتسب بالدراسة والتمرن»، مثلا فن التجارة: تطبيق قواعد خاصة تتعلق بالكسب وتنمية المال وتدبيره، وفن الطب: تطبيق عملي لعلم الصحة والأدواء وطرق الوقاية منها وعلاجها، وفن المحاماة: تطبيق القانون وأحكامه، وفن حكم الشعوب: تطبيق لقواعد السياسة العامة.
بعد هذا التمهيد نقول: يتميز لدارس الأخلاق أن منها قسما يتوفر على درس المباحث النظرية وآخر يدرس المباحث العملية، الأول هو ما يعرف بالأخلاق العامة أو النظرية، والثاني ما يسمى بالأخلاق الخاصة أو العملية.
الأخلاق النظرية تدرس الضمير وماهيته ومظاهره من عواطف مختلفة (كالرضا والاغتباط والسرور الداخلي لفعل الخير، والألم والتأنيب والندم متى كسب المرء شرا)، وما يصدره من أحكام أخلاقية على مختلف الأعمال الإرادية (كالحكم على العامل بالخيرية أو الشرية)، وتتساءل عما إذا كانت علما من العلوم أي عملا من أعمال العقل أو هي وليدة التقاليد، وما هي الطريقة التي تتبع في تعرف المثل الأعلى الأخلاقي، كما تبين أركان المسئولية الأخلاقية مثل الحرية والإرادة، وتناقش مسائل الجبر والاختيار والثواب والعقاب، وأي البواعث يجب أن يكون باعثنا الوحيد في كل ما نأتي ونذر، وأي الغايات يجب أن تكون غايتنا العليا، وأي الأغراض يجب أن يكون الغرض الأعلى للإنسانية عامة، وما هو الخير والشر والمقاييس التي تقاس بها الأعمال لبيان خيرها من شرها، وما هو الحق والواجب وما يتصل بهما، وأخيرا تنقد النظريات المختلفة التي تواردت على هذه المسائل العديدة، وتجتهد في أن تجد حلا لها.
أما الأخلاق العملية فتبين وتدرس الواجبات المختلفة: واجب الإنسان نحو نفسه، نحو العائلة، نحو الوطن والدولة، نحو الإنسانية، نحو الحيوان، نحو الله تعالى، وبعبارة أخرى: تعرض لمباحث الأخلاق النظرية بالتطبيق على ظروف الحياة العملية المختلفة لتقول فيها كلمتها، ببيان ما يتفق مع معاني الخير والشر والحق والواجب. والمقاييس الأخلاقية تقول رأيها الفصل - كما تقدم - في الواجبات الشخصية والاجتماعية والإلهية وفي المشاكل الاجتماعية كحقوق النساء والعمال والاشتراكية والشيوعية، ونحو ذلك من المسائل التي تعرض للبحث في حياتنا الخاصة والاجتماعية.
ولنختم هذا البحث يجب أن نشير إلى رأي بعض الباحثين في الأخلاق من أنها علم ميزاني كعلم المنطق؛ إذ كان من مباحثها الهامة استنباط مقاييس تقاس بها الأعمال لبيان طيبها من خبيثها، وتعرف المثل العليا التي يجب أن تكون قبلتنا في أعمالنا، ووضع قواعد تعصم مراعاتها الإرادة من الجنوح للهوى والميل للشر، وغير ذلك من المباحث التي تقدمت الإشارة إليها. إلا أنها في رأيهم مع هذا لا تضع من الطرق ما يصل بنا لتحقيق المثل العليا الأخلاقية للسلوك الإنساني، فيكون أسلوب البحث فيها أسلوبا علميا نظريا محضا.
يقابل هذا الرأي ما يراه غير هؤلاء - وهو الرأي الذي أرضاه - من أن الأخلاق علم نظري أولا، ثم فن عملي ثانيا، تبحث كما سلف في المعاني الكلية العامة النظرية، مثل الخير والشر، والحق والواجب، والمقاييس والبواعث، والغايات والمثل العليا، وتبحث أيضا فيما يدعو لتحقيق هذه المثل وتلك الغايات، شأنها في ذلك شأن بقية المعارف كالهندسة وعلم الصحة ونحوهما تكون علمية نظرية أولا وفنية عملية بالتطبيق ثانيا. بهذا يكون للأخلاق قيمتها وخطرها من هداية الناس إلى سواء السبيل. (4) الغاية من دراسة الأخلاق
ما الثمرة المرجوة من دراسة الأخلاق؟ وما الغاية التي نبتغيها من هذا الضرب من الدراسة العلمية والعملية؟ وبتعبير آخر: هل لدراسة الأخلاق من فائدة نرتجيها؟
اختلف الفلاسفة أيما اختلاف في هذه المسألة؛ إذ بينا نرى «سقراط»
2
وهو من نعرف خطره ومكانته في الفلسفة القديمة يقول: «إن معرفة الفضيلة تكسبها، والجهل بها مصدر الرذيلة ومأتاها»، نرى كثيرا من الفلاسفة غيره يقررون أن ليس للعلم أثر في إصلاح النفوس، من هؤلاء العلامة الفرنسي باسكال
الذي يقول: «إن الأخلاق الصحيحة تهزأ بعلم الأخلاق وتسخر منه»، وهربرت سبنسر
Spencer
3
الذي يرى أن حماسة الأخلاقيين من الفلاسفة ونشاطهم في نشر العلم رغبة إصلاح النفوس البشرية إنما هو بدعة سخافة، وكيف يرجى من العلم تهذيب النفوس، بينما نرى المتعلمين الذين استنارت عقولهم لا خلاق لهم، ونرى الوعاظ يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وبجانب هؤلاء نجد من الجهال والأميين من هم على جانب عظيم من الاستقامة والشرف؟! وبذلك ينكر «سبنسر» تماما الصلة بين العلم والأخلاق.
وكأننا بهؤلاء الفلاسفة ومن لف لفهم يذهبون إلى أن الوراثة ضربة لازب، وأن المرء ينشأ على ما أمدته به الوراثة من صفات الآباء والأجداد، فهي إما أن تسمو به للخير والفضيلة وإما أن تنحدر به نحو مهاوي الرذيلة. على أن من الحق علينا أن نقول بأن هذا الرأي الذي يقرر عدم غناء دراسة الأخلاق مهما كان أساسه وسنده متطرف غاية التطرف، فهو يهدر جميع التعاليم الأدبية، ولا يجعل قيمة للمواعظ والنصائح الأخلاقية!
حقيقة إن المرء محكوم إلى حد ما بعامل الوراثة، ولكن لا يمكن أن ينكر باحث ما للبيئة بمعناها الأعم، ومنها ما يدرسه من مختلف العلوم والفنون، من أثر قوي في تكييف عاداته وأخلاقه وتوجيهه وجهة خاصة في الحياة. وسيجيء لهذا زيادة بسط عند الكلام على الخلق وتكونه والمؤثرات فيه.
وكيف لا تكون لدراسة الأخلاق قيمة والله تعالى يقول:
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ؟! وهذا الإمام الغزالي يقول في هذا الصدد أيضا: «لو كانت الأخلاق لا تقبل التغير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات، ولما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : حسنوا أخلاقكم. وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير طباع البهيمة ممكن؛ إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد؟!»
4
وكذلك يقول حكيم آخر من حكماء الإسلام: «إنه بالدراسة الأخلاقية تقوى الإرادة على الخير وسلوك السنن القويم، وتنشط العزيمة للمضي في سبيل الفضيلة واتخاذها نبراسا في أعمالها.»
نخلص من هذا إلى أن دراسة الأخلاق وسيلة ناجحة من وسائل التربية والتهذيب؛ لأن البحث في الفضائل وتبين حسن عاقبتها وتعرف الرذائل وسوء مغبتها، وكذلك دراسة كثيرين ممن كانوا في حياتهم العملية مثلا سامية للفضائل، كل ذلك يستهوي الدارس ويغريه بالتحلي بالفضيلة والتخلي عن الرذيلة، وبأن ينشئ نفسه على غرار هؤلاء الفضلاء، ولا ينكر أحد ما لقوة الإغراء والاستهواء من أثر كبير.
هذه هي إحدى غايات الدراسة الأخلاقية. وهناك غاية أخرى لتلك الدراسة، وهي أنها تكسب الدارس الدقة في تقدير الأعمال الأخلاقية والإصابة في الحكم عليها بعد أن وقف على معاني الخير والشر وما إليها، وعرف المقاييس التي تقاس بها الأعمال المختلفة، وفي ذلك أيضا يقول الحكيم السالف الذكر: إن دراسة الأخلاق تكسب صاحبها القدرة على تمحيص الأعمال ونقدها وتقديرها حق قدرها، دون أن يخضع في حكمه إلى إلف أو عادة، أو يتأثر بحكم الزمان والمكان.
وما أبعد الفرق في بحث هذه الأعمال لبيان خيرها وشرها، بين رجل يعتمد في حكمه على تلك الدراسة الدقيقة، وآخر سنده الإلف والعرف فقط! لقد يصيب هذا ولكن صوابه يكون رمية من غير رام، وقد يخطئ ذاك وخاصة في الجزئيات التي تحتاج لتطبيق دقيق غير أنه يكون نادرا.
والفرق بين أمثال هذين كالفرق بين دارس للزراعة علميا وعمليا، خبير بتربة الأرض وما يصلحها، واقف على ما يصيب كل نوع من المزروعات من أمراض وطرق علاج، وبين زارع كل معلوماته عن المزروعات وأدوائها وعلاج ما يصيبها من آفات لا تعدو ما لقنه من آبائه وما عرفه بالتجربة الناقصة، ونجد مثل هذا الفرق أيضا بين الطبيب والدجال، والمهندس المعماري والذي اتخذ البناء حرفة عن والده.
هذا، ولا يسعنا أن نختم هذا البحث قبل أن نقرر أن دراسة الأخلاق لا يمكن أن تجعل جميع الناس خيارا، فذلك يتوقف إلى حد كبير على الاستعداد الشخصي، ولكن حسبها فخرا وفضلا أنها تبين لنا النجدين، وترشدنا إلى الصراط المستقيم، وتحفزنا إلى عمل الخير وتغرينا به، وأنها كما يقول «أرسطو»
5
المعلم الأول في كتابه علم الأخلاق:
تشد من عزم بعض فتيان كرام على الثبات في الخير، وتجعل القلب الشريف بالفطرة صديقا للفضيلة وفيا بوعدها.
6
وخير ما نختم به هذا الموضوع قول النبي
صلى الله عليه وسلم : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به.»
7
وهكذا شأن الأخلاق والنفوس التي فيها استعداد للخير والفضيلة، والنفوس التي ختم الله على قلوبها فلا تقبل نصحا ولا تنتفع بموعظة،
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون .
المبحث الثاني
الأخلاق والعلم1
(1) تمهيد
سبق أن قلنا إن العلم هو اليقين، وعرفناه بأنه المعرفة العامة المضبوطة الصادرة عن نظر وتمحيص، وهذا التعريف لا يختلف في المعنى عما عرفه به بعضهم من أنه معرفة عامة تتجه في جهودها نحو العموم للوصول إلى الحقيقة، وسبق أن ذكرنا أن الأخلاق تبحث في تحديد الخير والشر، والحق والواجب، والمثل الأعلى، وما شابه ذلك من المعاني الكلية والبحوث النظرية. من أجل هذا يكون من الطبعي أن يتساءل كل باحث في الأخلاق عما إذا كانت تصل إلى آراء وأحكام تبلغ من العموم وقبول الناس لها حدا يجيز وصفها بأنها حقائق علمية، فتوصف الأخلاق لذلك بأنها علم من العلوم التي تقرر حقائق وقوانين عامة، هل هي دراسة عقلية أي عمل من أعمال العقل، أو دراسة مرجعها التقاليد؟ (2) الصلة بين العلم والأخلاق
على أننا نتعجل القول بأنه يعرض بادئ الأمر لمن يتساءل هذا التساؤل حقيقة واقعية تفرض نفسها فرضا، هي أن العلم على اختلاف أنواعه، كعلم الطبيعة والمنطق والرياضة والنفس والاجتماع والتاريخ والحياة مثلا، لا يعارض الأخلاق ولا يحل محلها بل يتطلبها.
العلم لا يعارض الأخلاق؛ لأن العقل العلمي يدفعنا لمعرفة الحقائق على ما هي عليه وفهمها، دون أن تتدخل في هذا البحث أية فكرة أو نظرية لم تمحص بعد، لكنه لا يمنع مطلقا أن نقابل بين الواقع وبين ما يجب أن يكون، وبعبارة أخرى: معرفة الواقع والحقائق العلمية لا تحول بيننا وبين أن يكون لنا مثل أعلى أخلاقي.
العلم لا يحل محل الأخلاق ولا يغني عنها؛ لأنه يعرفنا الواقع فحسب في مختلف مناحي الكون ومظاهره، غير معني ألبتة بما كان يجب أو بما يجب أن يكون، فهو يتحقق ولكن لا يحكم. كل العلوم التي أشرنا إليها وأمثالها، حتى علوم النفس والتاريخ والاجتماع، لا تمدنا بمبادئ للسير والسلوك، ولا بقاعدة نهتدي في أعمالنا بهديها، لكنها في الوقت نفسه لا تريدنا على أن نمتنع عن طلب هذه المبادئ خارجا عنها.
علم الحياة مثلا يرينا أن الأنواع الحيوانية في تقاتل مستمر، وتنازع دائم على الحياة، القوي يفترس الضعيف، والغلب للقادر على تعديل نفسه حسب البيئة التي يعيش فيها. إذن هل لنا أن نتخذ من ذلك مبدأ لنا في حياتنا، فنقرر أن الناس - كسائر الحيوان - يجب أن يصدروا في أعمالهم عن مبدأ تنازع البقاء وبقاء الأقوى، أو يمكن أن نحكم أنهم على الضد من هذا يجب أن يتساعدوا وأن يحترم الأقوياء حقوق الضعفاء؟
وهذا علم النفس يكشف لنا الميول والعواطف النفسية، ومنها عاطفة الأثرة وعاطفة الإيثار، أليس لنا بعد أن نتبين هذا أن نعطي لكل من هذه الميول قيمته الأخلاقية؟ كذلك علم الاجتماع أتاح لنا أن العالم كان مسرحا في كثير في العصور، القديم منها والحديث، لحروب طويلة طاحنة، فهل هذا التحقق العلمي يكفينا للبت في اختيار أي المبدأين: مبدأ الاحتفاظ بروح العداء بين الأمم والشعوب، ومبدأ اقتلاع جذور العداوة وبذر عواطف العدالة والمحبة العالمية التي تسمح يوما أن نصل إلى سلم عام نهائي وأخوة متبادلة؟
الروح العلمي لا يتطلب منا أن نأخذ العلوم كدليل أخلاقي وحيد، وبعبارة أخرى: لا يتطلب منا أن نأخذ مما تكشفه من حقائق وقوانين مثلا أعلى نأتم به في أعمالنا ونسير على ضوئه وسناه.
إن العلم لا يعارض الأخلاق ولا يغني عنها فقط، بل يقدر ضرورة وجودها ولا يستغني عنها، وبدونها يكون إثمه أكبر من نفعه، يدل على ذلك تحليل نفسيات العلماء والعواطف التي كانت تسودهم في حياتهم العلمية، ففي هذه الجهود المضنية التي قام بها العلماء لفهم الطبيعة وأسرارها وللوقوف على النظم التي تسيرها، وفي تلك المشاق التي عاناها قادة الأمم وهداتها والمحسنون إلى الإنسانية؛ نجد عاطفة أخلاقية كانت تملك على هؤلاء الأبطال ألبابهم وتسوقهم إلى أداء رسالاتهم، تلك العاطفة هي الرغبة في خدمة الإنسانية وتحسين حالتها المادية والعقلية. وأيضا القيمة العالية التي يراها العلماء للعلم تفرض أن الأعمال الإنسانية ذات قيم مختلفة منها العالي ومنها الدون، فالعلم مثلا أفضل من الجهل، والهدى خير من الضلال، والسعي لمعرفة الحقيقة خير من مقاومتها.
إذن واجب البحث عن المعرفة وإعلانها يفرض الواجب بصفة عامة، والمثل الأعلى العلمي يفرض أن هناك مثلا أعلى عاما يجب أن ننشده جميعا.
كذلك حب الحقيقة، وعدم التحيز للهوى، والإخلاص، والصبر، والحمية في العمل؛ كل هذه صفات أخلاقية بدونها لا يتحقق عمل طيب علمي، بل ولا علم أيضا. العالم كالرجل الفاضل يستشعر سرورا عاليا روحيا، وهو الرضاء بالواجب المؤدى بنبل، والحياة تقضى في شرف وأمانة. يقول الفيلسوف الفرنسي المؤرخ إرنست رينان
Renan :
2 «المعرفة بين جميع الأعمال الإنسانية أسماها قدرا؛ لأنها أكثرها بعدا عن الهوى واستقلالا عن المسرات.» ثم يضيف : «وإنه لمن العناء الذاهب سدى أن يدلل المرء على قداستها وسموها؛ لأنه لا ينكر ذلك إلا من لا يعترف لشيء بالسمو والقداسة.»
والمؤرخ الفرنسي العلامة أوجستين تييري
Augustin Thierry
3
الذي عاد أعمى لفرط أبحاثه الدقيقة التفصيلية، يذكر في مقدمة كتابه «عشر سنوات في دراسات تفصيلية» أنه لو خير ثانية في اختيار حياة له لاختار أن يكون أيضا عالما مؤرخا؛ لأن «الدراسة الجادة الهادئة مأمن وأمل وحرفة يبلي المرء فيها حياته بشرف، أعمى ومتألم بدون رجاء وبدون مهلة وراحة تقريبا، يمكنني أن أتقدم بهذه الشهادة التي أعتقد أنها لن تكون موضع شك بحال، وهي أنه يوجد شيء في العالم خير من الثروة وسائر المسرات المادية ومن الصحة أيضا: هو الإخلاص للعلم.»
هكذا الدراسة العلمية ودراسات نفسيات العلماء، تكفي لبيان أن الخير والشر، وهما موضوع الأخلاق، يلاحظان دائما في كل البحوث والدراسات العلمية على اختلافها.
وأخيرا، إذا كان العلم كما قلنا لا يعارض الأخلاق ولا يغني غناءها بل يسير معها جنبا لجنب، هل لنا أن نخطو في البحث خطوة أخرى لنعلم ما إذا كانت الآراء والحقائق الأخلاقية تبلغ من العموم حدا يجعلها حقائق علمية فتكون الأخلاق علما من العلوم؟ الأخلاق علم إذا كان هناك حقائق أخلاقية عامة، ولكن هل يوجد حقائق أخلاقية عامة للجميع؟ (3) اختلاف الأفكار والنظريات الأخلاقية
من فلاسفة الأخلاق من ينكر وجود حقائق أخلاقية؛ لأن القواعد الأخلاقية ليست إلا تقاليد تختلف باختلاف الأزمنة والبيئات.
هذا مونتاني
Montaigne
4 (الفيلسوف والأخلاقي الفرنسي المعروف) بعد أن جمع كثيرا من الآراء والأحكام الأخلاقية، يؤكد هذه النظرية بقوة حين يقول:
لا يوجد شيء أكثر اختلافا بين أمم العالم بأسرها كالعادات والقوانين، كثيرا ما يكون أمر ممقوت هنا وممدوح بل موصى به هناك؛ في «إسبارطة» كانوا يمتدحون المهارة في الغش ويتواصون بها، وقتل الآباء المعمرين والتجارة بالمسروقات والزواج بين الأقارب، كل ذلك وهو محرم بيننا بصفة عامة مأمور به عند آخرين. وأخيرا لا يوجد أمر غير مرضي هنا إلا ويكون مرضيا عند أمة أخرى.
5 «وباسكال» الفيلسوف والكاتب الفرنسي الشهير استعار بعض ما أتى به مونتاني من مثل وحجج، وأتبع ذلك بفيض من فصاحته اللاذعة؛ إذ يقول:
لا يوجد تقريبا شيء عادل أو غير عادل إلا ويغير من صفته تغير إقليمه؛ ثلاث درجات في الارتفاع إلى القطب تقلب رأسا على عقب كل ما عرف من عدالة، خط واحد من خطوط الزوال يتحكم في الحقيقة والحكم الخلقي ... الحق له بيئاته، أزمنته، عدالة مضحكة هذه التي يحدها نهر! حقيقة أمام البرينييه
Des Pyrenées
6
خطأ وضلال وراءها!
7
حقيقة، إن التاريخ وعلم الاجتماع ليؤكدان أن القواعد الأخلاقية اختلفت باختلاف الأزمنة كما اختلفت وتختلف في العصر الواحد بحسب البيئات، هذه مسألة الرق والاستعباد كان نظاما معروفا لدى العبرانيين والمصريين القدماء والهنود والصين على اختلافهم في معاملة الأرقاء، كما كانت الجمعية الإنسانية في المدنية الإغريقية القديمة - التي يفخر بها الأوروبيون اليوم - تقوم على استرقاق فريق من المواطنين، حتى إن أرسطو بجلالة قدره يبرره لاعتبارات مختلفة، منها: أنه لا بد من العبيد ليتوفر الرجال الأحرار على الدراسات العقلية العالية، وأنه يوجد أناس بلغوا من السفالة والضعة أن يفهموا أنهم خلقوا للاستعباد. كما لم تمنعه الديانة المسيحية أيضا، أما في أيامنا هذه فقد صار الرق معتبرا من أشنع المظالم الإنسانية، وغدا محرما تحريما باتا.
كما أن أنظار الأمم بالنسبة للمرأة اختلفت في التاريخ أيما اختلاف، كان الأثينيون - وهم من نعلم مدنية وحضارة في الأزمان الماضية - يعتبرون المرأة سلعة تباع وتشترى، وجعلوا مهمتها في الحياة مقصورة على تربية الأطفال وتنظيم البيوت، كما أباح بعض الطوائف اليهودية للأب بيع بنته وهي قاصرة، وفي فرنسا قديما بلغ من امتهان المرأة أن عقدوا مؤتمرا سنة 586م في بعض الولايات فأخذوا يبحثون فيه ما إذا كانت تعد إنسانا أو غير إنسان، وانتهى الأمر بتقرير أنها إنسان، ولكنها خلقت لتخدم الرجل ليس غير!
ولا ننسى ما كان من وأد بعض عرب الجاهلية بناتهم، ومن اعتبار المرأة بعض ما يورث عن أبيها أو زوجها، والآن تغير ذلك كله وأصبحت المرأة مساوية للرجل تماما إلا في بعض حقوق يرى بعض الأمم من الصالح العام عدم منحها إياها.
وفي العصور المتوسطة
8
كان عدم التسامح الديني لدى المسيحيين مبررا لا نكير فيه، ما كان أكثر رجال الدين الأعلام الذين كانوا يؤكدون أن الحقيقة لها كل الحقوق ومن بينها اضطهاد الضالين في رأيهم بوساطة القوة! وأية حقيقة هذه التي كانوا يتكلمون عنها؟ إنها الحقيقة التي يعتقدونها، أي حقيقة كنيستهم، التعاليم المضادة لتعاليم كنيستهم كلها ضلال وجرائم موجهة ضد الإرادة الإلهية، فتستحق أشد العقاب.
ها هو ذا «سانت أوجستين» (أشهر رجال الكنيسة اللاتينية 354-430م) مع رجاحة عقله وسمو فكره يوصي باللجوء للإكراه لهداية الضال حينما لا ينجع الإقناع، وكذلك «سانت توماس» (أشهر رجال الكنيسة الغربية 1226-1274م) يقول: «إذا كان المزورون والمجرمون يعاقبون عدلا بالإعدام، فبالأحرى الهراطقة الخوارج عن الدين يجب أن يكون جزاؤهم لا الحرمان الأبدي من الكنيسة فقط، بل الموت الزؤام»،
9
هذه كانت عقلية كبار الأحلام في تلك الأيام! ولكن في أيامنا هذه يعتبر عدم التسامح سبة وجريمة أخلاقية مهما كان سببه ومأتاه، العقول الحرة تجده مرذولا، وأغلبية رجال الأديان يمقتون استعمال الإكراه في سبيل نشر ما يعتقدون.
وإذا كانت النظريات والآراء الأخلاقية تختلف في الأمة الواحدة باختلاف الزمن، فهي كذلك مختلفة في الزمن الواحد باختلاف البيئات، بينما نرى هذه الأيام الناس الذين على الفطرة كسود أستراليا يعتقدون القداسة لحيوانات ونباتات معينة، فيكون الموت عقاب من يجرؤ على أكل شيء منها، كما نرى البراهمة في الهند يقدسون البقرة ويعتبرون أكبر الجرائم قتلها أو الأكل من لحمها، وتقوم المعارك الدامية بينهم وبين المسلمين هناك لهذا السبب. بينما نرى هذا وأمثاله، نرى كثيرا من سود أفريقيا يستحلون بل يفضلون أكل لحوم البشر من أعدائهم الذين سقطوا في ميدان القتال، أو عبيدهم الذين يعنون بتسمينهم حتى يكون منهم غذاء دسم شهي، أو أقاربهم الذين نالت منهم السنون وعجزوا عن احتمال أعباء الحياة.
10
في مقابل هذا نجد بعض البوذيين الدينيين كرهبان الهند الصينية يعتبرون قتل أي كائن حي مهما كان جريمة شنيعة، ويصل الأمر إلى أن يرشح الرهبان مياه الشرب حتى لا يبتلع أحدهم أثناء شربه أية حشرة حقيرة غير مرئية فيتسبب في قتلها. أما نحن فنتخذ موقفا وسطا بين الفريقين المتطرفين، فاحترام الحياة الذي يعده هؤلاء الرهبان حقا مقدسا لكل حي لا نعده كذلك إلا للآدميين، ولا يعترف به أولئك المتوحشون إلا لعدد قليل كأسرة الشخص أو قبيلته أو أهل قريته.
كذلك الانتحار الذي يحرمه الدين الإسلامي وتنكره المدنية الأوروبية الحالية، يعده اليابانيون تقليدا وطنيا طيبا، يكون واجبا في كثير من الحالات؛ ينتحر الواحد منهم حين يرى أنه تجرد من شرفه أو عانى سقوطا فاضحا كبيرا، أو احتجاجا ضد مظلمة ارتكبت، أو نحو ذلك من العوامل الأخرى التي تجيزه في رأيهم.
ذكر الأستاذ شالي
Chalaye
في كتابه «اليابان المصورة» كثيرا من حالات الانتحار للعوامل المختلفة، منها أن ضابطا انتحر سنة 1891 للفت نظر الحكومة والرأي العام إلى تعدي الروسيا على بعض النواحي في شمال اليابان، وأنه في 14 سبتمبر سنة 1912 انتحر أحد الضباط الكبار هو وزوجته أثناء سير جنازة الإمبراطور إظهارا لإخلاصهما له وعدم رغبتهما في الحياة بعده.
من الممكن مضاعفة هذه المثل والإتيان بغيرها مستمدة من حياتنا اليومية في الصعيد أو الوجه البحري مثلا من مصر، وخاصة فيما يتصل بالأفراح والمآتم وعادة أخذ الثأر والانتقام، مما يؤكد أن الآراء والأحكام الأخلاقية تتغير مع الزمن، وتختلف مع الأوساط والبيئات، ولكن هل من الحق رغم تضافر هذه الشواهد كلها أن ننكر أن هنا حقائق أخلاقية عامة؟ (4) الحقائق الأخلاقية
أولا من السهل أن نلاحظ أن الناس على اختلاف أجناسهم وبيئاتهم وأزمانهم يمتثلون للواجبات - التي يعتقدونها - على أوجه مختلفة تكون متباينة أحيانا كما رأينا، ولكنهم جميعا يقبلون فكرة الواجب، ويعتقدون أن بعض الأعمال أعلى خلقيا مع البعض الآخر، الكل يميز أنه يوجد خير وشر، ويحس الاحترام لبعض الناس، والاحتقار لآخرين. الأسود المتوحش في أفريقيا وأستراليا في خضوعه لتقاليده العجيبة وعده ذلك واجبا، والمجرم الذي يرى نفسه ملزما بعدم خيانة عصابته؛ عندهم خلقية مشابهة في صورتها لخلقية الرجل الفاضل في هذه الناحية، ما دام الجميع يعتقدون القيام بالواجب أمرا مقضيا فقط يجب إنارة عقول أولئك المساكين الذين يخضعون هذا الخضوع الأعمى لتلك التقاليد الظالمة، وتفهيمهم أي الأعمال تعتبر واجبات يجب أن يقوموا بها ويعد الخضوع لها أمرا إلزاميا.
هذا التحقق، وهو أنه يوجد لدى جميع الناس بلا استثناء منذ ابتدءوا يفكرون نظريات وعواطف أخلاقية، يجيز لنا أن نصف فكرة الواجب والخضوع له وعد من يقوم به خيرا بأنها حقيقة أخلاقية عامة، ثم رغما عن هذا الاختلاف الذي لا ريب فيه بين ما يسمى واجبا هنا وواجبا هناك، ليس من النادر أن نلاحظ تماثلا بين بعض النظريات والآراء الأخلاقية لدى جميع الناس، إنه من العسير بل من المستحيل أن نذكر وسطا أو عصرا يعتبر الجبن فيه أفضل من الشجاعة أو الظلم أفضل من العدالة.
العدالة فهمت وطبقت بطرق متغايرة في الأمم المختلفة، هذا حق، ولكن الرجل العادل أو الشجاع محترم دائما بخلاف الظالم أو الجبان.
الرجل الساذج في تربيته، بل الطفل، يقبل بطيبة خاطر عقابا يعتقد عدالته، ويثور داخل نفسه ضد عقاب يراه ظالما، ذلك معناه تأصل فكرة العدالة لدى الجميع، العدالة العامة التي يحسها الناس جميعا في قرارة نفوسهم، لا العدالة القانونية التي تتغير بتغير البيئات، وفي ذلك يقول مونتاني
Montaigne
الشاك، أي الذي يرفض كل شيء ليس متحققا بطريقة لا ريب فيها: «العدالة الطبيعية العامة فيها من النبل ما ليس في العدالة الخاصة الأممية التي تنفذ عند الحاجة بسلطة الشرطة ورجال الأمن العام.» كذلك فولتير
Voltaire
11
نراه يدلل على عموم عاطفة العدالة بعد أن بحث الأمر بحثا دقيقا بدليل مقنع، إذ يقول: «فكرة العدالة تظهر لي حقيقة من الطراز الأول، يقبلها الجميع ويشعر بوجوب احترامها، حتى إن أكبر الجرائم نراها ترتكب تحت حجة باطلة من العدالة. الحرب وهي أكبر الجرائم الهدامة قاطبة، التي تتعارض مع الغرض الإنساني النبيل، وهو المساعدة والتساند، يجتهد في تبريرها من يشعل نارها أولا بحجة الدفاع عن العدالة.»
12
وأيضا عاطفة الكرم، تلك العاطفة السامية التي تنبئ بالإخاء الإنساني ، نجدها ممدوحة موصى بها في كل الأوساط والأزمان ، فمن الممكن وصفها بأنها حقيقة عامة أخلاقية.
وليس عجيبا أن نرى تقاربا بل اتفاقا على كثير من الآراء الأخلاقية، بل لعل العجيب ألا يكون مثل هذا الاتفاق؛ ذلك أن الناس جميعا، تقدم بهم الزمن أو تخلف، السامي والآري والشرقي والغربي والأسود والأبيض، لديهم جميعا معين للأخلاق يكاد يكون واحدا أو هو واحد في أصله وإن اختلف في بعض التطبيقات تبعا لاختلاف الأزمان والبيئات، ذلك المعين هو الضمير.
وفي هذا يقول العلامة «بارتلمي سانتهلير»، مترجم أرسطو من اليونانية للفرنسية، في مقدمة كتاب الأخلاق لأرسطو:
ولنؤكد من غير أن نخشى الزلل أن حقائق علم الأخلاق في الساعة الراهنة عند الأمم المتمدنة، ليست منذ الآن محلا للجدال بين النفوس الفاضلة، وأن تلك الحقائق لا خوف عليها، يمكن أن يقع الجدال في النظريات، ولكن بما أن سلوك الناس الأخيار هو في الواقع واحد، يلزم حتما أن يكون بينهم قدر من الحق مشترك، يستند إليه كل واحد منهم، من غير أن يستطيع مع ذلك في الغالب أن يقف غيره عليه، ولا أن يدركه هو نفسه.
ومن النادر أن يقع إجماع الآراء على طريقة بسط مذهب بعينه مهما أجيدت ومهما بلغت من الحق، ولكن من الأفعال ما هو مقر عند جميع الناس، وبين أن هذا الإقرار العام سببه أن تلك الأفعال تابعة لمبادئ مسلمة عند الجميع، وتقع على مقتضاها من حيث لا يشعر الفاعل لها في غالب الأحيان.
13
ثم يقول في موضع آخر:
غير أن قانون الأخلاق ليس قانونا شخصيا بل هو قانون عام، قد يكون في ضمير أشد قوة وأكثر وضوحا منه في ضمير آخر، ولكنه موجود في كل الضمائر بدرجات تختلف قوة وضعفا.
إنه ليناجي جميع الناس بلهجة واحدة، وإن كانت أفئدتهم لا تصغي إليه على السواء، ينتج من ذلك أن قانون الأخلاق ليس فقط قاعدة للفرد، بل هو أيضا العامل لوحدة الروابط الحقيقية التي تربط الفرد بأمثاله، لئن كانت الحاجات تقرب بين الناس فإن المنافع تباعد بينهم إذا لم تكن تذكي بينهم نار الحرب، فلولا الاتحاد الأخلاقي لكانت الجمعية البشرية محالا.
14
ولعمر الحق إن هذا لا يحتاج إلى أي تعليق لبيان صحة ما فيه من آراء، فهناك كثير من المبادئ الأخلاقية مسلم بشهادة الواقع من الجميع لصدورها من معين واحد، قد يختلف قليلا أو كثيرا بعض الأحيان، لكنه واحد على كل حال.
ثم التاريخ يكشف لنا أمرا آخر لنا أن نعلق عليه أهمية لها خطرها، المثل الأعلى الأخلاقي يقاسي الكثير من التقاليد في بعض الأزمنة والبيئات، هذه التقاليد التي نراها حجر عثرة في وجه المصلحين دائما.
تصفح تاريخ أمة من الأمم تجد في فترات مختلفة بعض كبار الأحلام والفكر الراجح يعارضون التقاليد الضيقة التي تسيطر في أيامهم، بمثل عليا رحبة واسعة صالحة للجميع.
حقا إن الرأي العام كان يقف ضد هؤلاء العباقرة، إلا أن المستقبل كان يحكم بأنهم كانوا على حق فيما بشروا به، كما أن الإنسانية باركت هذه الثورات المدينة لها بخلقية أعلى وأفضل، وأذاعت في الخافقين أنهم النبلاء المحسنون للإنسانية عامة. ولعل من الطريف أن نلاحظ أن تلك التقاليد التي عارضها أولئك المصلحون كانت مختلفة أشد الاختلاف فيما بينها، وأن هذه الآراء الأخلاقية والمثل التي كانوا يدعون لها في الأزمنة المختلفة والبيئات المتعددة تعطينا مشابهة مدهشة عجيبة وانسجاما خارقا كأنها صادرة من معين واحد.
من الممكن أن يذكر في معرض التمثيل في الأزمنة العريقة في القدم «بوذا» الحكيم الهندي، و«كونفشيوس» الصيني، وسقراط الإغريقي، وأنبياء بني إسرائيل وفلاسفتهم وحكماؤهم، وأخيرا المسيح ومحمد خاتم الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام.
يجد الباحث في تراث الهند الروحي وتعاليمها السامية تعاليم أخلاقية صالحة حقا، أو يجب أن تكون كذلك لكل الناس، منها: لا تقتل، لا تكذب، لا تشرب المسكرات، لا تأخذ مال غيرك ولا زوجته، هذه بعض التعاليم الأخلاقية السلبية، وفي التعاليم الإيجابية نجد الأمر بالصبر والرحمة والتسامح والإغضاء عن الأذى والتضحية ونكران الذات، «بوذا» نفسه يقول في بيان وجوب مقابلة السيئة بالحسنة: «إذا كان الحقد يرد على الحقد بالمثل كيف ينتهي إذن؟!» وللبوذيين مثل بديع في وجوب الإحسان، هو أن أرنبا لا يملك من حطام الدنيا شيئا عز عليه أن يرد سائلا طلب ما يمسك به رمقه، فشوى نفسه له حتى لا يرده خائبا! هذا المثل يبين بإعجاب وجوب أن يساعد المرء غيره بما يملك من وقت ومال، وبذات نفسه أيضا، ويحضرني بهذه المناسبة قول الشاعر العربي:
ولو لم يكن في كفه غير نفسه
لجاد بها فليتق الله سائله
وإذا تركنا الهند إلى الصين، نجد كونفشيوس الفيلسوف يبشر في القرن السادس قبل الميلاد كسابقه بأخلاق يحكم العقل السليم بصلاحيتها للجميع، كان يوصي بالاعتراف بالخير والجميل للأموات، وبالشفقة البنوية، وبالإخلاص الأخوي، وبالأدب الذي منبعه القلب، وبالمعاملة الحسنى لجميع الناس؛ ولهذا نجد بعض كلماته تمثل نمطا عاليا من التفكير، وأخلاقا تفرض نفسها فرضا على الجميع، ها هو ذا يقول: «من المعرفة الحقة أن يكون المرء عارفا ويعلم أنه عارف، أو جاهلا ويعلم أنه جاهل، العاقل لا يرفض كلمة طيبة لأنها جاءت من شرير، يجب مقابلة الشر بالخير والظلم بالعدل، أحبوا الآخرين كأنفسكم»، ولما حانت وفاته رفض أن يصلي تلاميذه لأجله، وقال في نبل وإيمان: «حياتي كانت عبادتي وصلاتي.»
وفي اليونان القديمة كان سقراط، مؤسس الأخلاق، يأمر ضمن ما يأمر بأن يكون المرء سيد نفسه، بالشجاعة، بالعدالة ... إلى غير ذلك من الصفات الأخلاقية العامة، وفي ساعة موته رفع شجاعته إلى البطولة قائلا لقضاته، وقد قدم للمحاكمة متهما بالسفسطة وإفساد الشباب والإلحاد: «لشد ما أنتم في الضلال إذا كنتم تعتقدون أن رجلا يعرف لنفسه بعض القيمة يفاضل بين حظوظ الحياة والموت وبين البحث دائما عما إذا كان ما يعمله عدلا أو غير عدل!» وفي قوله لتلميذه كريتون
Criton : «لا يجب أن نجترح أي ظلم حتى ولو كنا ضحايا لظلم الآخرين، عمل الشر للغير هو الظلم بعينه، لا يجب مقابلة السيئة بمثلها.»
وبنو إسرائيل كان من تقاليدهم الضيقة في فجر تاريخهم أنهم لا يعتقدون واجبا إلا إلههم المحلي وأنفسهم، حتى جاءهم أنبياؤهم وحكماؤهم بالمثل الأخلاقية الرحبة الواسعة، وفي ذلك يقول أحدهم في القرن السادس قبل الميلاد: «ليس لجميع الشعوب إلا إله واحد، كل العالم معبده، وتكريمه أن يكون الكل عادلا.»
وفي التلمود:
15 «أحبب غيرك كنفسك، لا تعامل غيرك بما لا تحب أن يعاملك به»، وهذه هي الحكمة التي أخذها أحد حكماء اليهود في القرن الأول قبل الميلاد وهو هليل
Hillel
مبدأ له، فهي عنده كلمة الشريعة وما عداها مجرد تفسير لها. وفيه أيضا: «أربعة لن يدخلوا الجنة: الساخر والكذاب والمرائي والنمام. من لا يضطهد مضطهديه، ومن يتحمل الإهانة صامتا، ومن يفعل الخير حبا في الخير، ومن يستسلم لآلامه فرحا، أولئك هم أصدقاء الله.
16
وجاء في كلمة لمكسيم غوركي، أحد كتاب الروس المعروفين، هذه الحكمة السامية لهليل الحكيم السابق ذكره: «إن لم تكن لنفسك فلمن تكون؟ ولكن إن كنت لنفسك فقط فلم تكون؟» ويقول غوركي عن نفسه إنه تأثر بما في تلك الكلمة الخالدة من معنى دقيق وحكمة عميقة، فجعل مبدأه أن يعنى بنفسه، فلا يكون كلا على غيره، وألا يحيا لنفسه فقط، وإلا أضحت حياته هباء منثورا، وأخيرا يختم كلمته بقوله: «إن حكمة هليل هي النبراس الذي هداني السبيل وما كان سهلا سويا.»
نترك اليهود وتقاليدهم وأخلاقهم إلى المسيح - عليه السلام - فنجده جاء معارضا لما وجده من تقاليد عتيقة ضيقة بمثل أخلاقي صالح للجميع؛ كان مما بشر به «حب المرء لله هو أن يحب قريبه كنفسه»، وليس القريب هنا هو الإسرائيلي للإسرائيلي مثلا بل الإنسان للإنسان: «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، إن وصيتي أن يحب بعضكم البعض كما أحببتكم، لا يوجد حب أعظم من أن يعطي المرء من حياته لأصدقائه.»
أما محمد، صفوة الخلق كافة وخاتم الأنبياء والمرسلين، فقد جاء في الأخلاق بما يعتبر بحق المثل الأعلى الكامل:
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ... إلى آخر هذه الأوامر الحكيمة الذهبية العالية التي احتوتها تلك الآيات الكريمات،
وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله ،
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ،
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ،
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ، ويضاف لهذا ومثله قوله
صلى الله عليه وسلم : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.»
وهكذا نرى أن كثيرا من ذوي الضمائر الإنسانية عارضوا التقاليد والأفهام الضيقة التي كانت مقبولة في أزمانهم وبيئاتهم بمثل عليا، وبعبارة أخرى: بمثل أعلى أخلاقي حكموا حقا بصلاحيته للجميع دائما. وصلوا لذلك لأنهم أتيح لهم أن يتخطوا الجماعات التي كانوا يعيشون بينها، ونجحوا في الدخول في حظيرة الإنسانية الخالدة والحياة العامة التي لا يحدها مكان أو زمان.
هذه الأفكار الأخلاقية العالية التي جاءنا بها أصحاب الضمائر العالية النيرة بعد تفكير عميق تجاوزوا به أزمانهم وبيئاتهم وأممهم إلى الإنسانية العامة في أوسع حدودها، هذه الأفكار السامية التي يجب أن تكون مقبولة منا جميعا، أليس لنا أن نقدر بأنها حقائق أخلاقية عامة، فتكون الأخلاق لذلك علما من العلوم؟
إنه مما لا ريب فيه أن هذه الأفكار ليست شعارا أو مبادئ مقدسة للناس جميعا يصدرون عنها في أعمالهم دائما، هذه حقيقة لا ريب فيها، ولكن الحقائق العلمية لا تزيد عنها في هذا المعنى. حينما يعرف العلماء الحقيقة العلمية بأنها الاتجاه العقلي العام نحو مركز واحد أو نتيجة واحدة، وبعبارة أخرى بأنها الشيء الذي تتجه إليه العقول كلها وتقبله، لا يقصدون من ذلك أن هذا الاتجاه العام محقق، بل يقصدون أنه أمنية يرجون أن تكون يوما ما.
وفي الواقع لا يقبل سود أفريقيا أو أستراليا أو زنوج أمريكا مثلا التفسيرات العلمية الصحيحة لكل الظاهرات الكونية كالرعد والبرق والمطر والكسوف والخسوف، بل لا يزال منا معشر المصريين من يعلل هذه الظواهر ونحوها بما لا يتفق مع العقل،
ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون ! فحينما يعلن العلماء أن الحقائق العلمية تنتج اتفاق جميع العقول، يكون الغرض إما أنها تؤدي لاتفاق جميع العقول الموهوبة القادرة على الحكم الصحيح، أو الأمل في أنها تؤدي حقا ذات يوم لاتفاق جميع العقول بلا استثناء، إذن يكون من الممكن أن نأمل هذا للحقائق الأخلاقية السابق ذكرها هي وأمثالها، فنقول: هناك حقائق أخلاقية تفرض نفسها على الضمائر السليمة، وأنها من الآن مقبولة من كل من وهب القدرة على الحكم الصائب، كما أنها ستكون يوما ما مقبولة من الجميع عندما يرزق المرء رحابة الصدر والنظرة الواسعة التي تنتظم العالم بأسره، وتعتبر الناس إخوة متساوين فيما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات.
هذا الرجاء الذي يجب أن نقنع به الآن، نجد لحسن حظ الإنسانية أنها تقترب منه شيئا فشيئا لعوامل عديدة؛ هناك قوى هامة مختلفة تعمل في الإنسانية الحالية للتقريب بين الضمائر وجمعها على مبادئ واحدة من الناحية الأخلاقية كما من الناحية العلمية، من ذلك انتشار العلم في كل البقاع، وسهولة اتصال الناس في كافة أرجاء الأرض، وسرعة ذلك الاتصال وتزايده يوما فيوما، لا فرق في ذلك بين السود والبيض وغيرهما من الأجناس المختلفة، هذا الاتصال المستمر، الذي طابعه الحدة والعنف بل الوحشية في بعض الأحيان كما في حالات الاستعمار، أنتج كثيرا من المظالم والآلام، ولكنه كان من نتيجته أيضا تعارف الأمم وتفاهم الشعوب والقضاء على التقاليد والعادات الأخلاقية الضيقة الخاصة، وتبادل المبادئ الأخلاقية واختيار أنفعها، وسيؤدي استمراره إلى إتاحة الفرصة إلى أن يوسع الناس جميعا مداركهم ويسموا بتربيتهم حتى يتخطوا بذلك الحواجز الطبيعية من محيطات وبحار وأنهار وجبال، ويصلوا إلى أبعد الآفاق، وحينئذ يجمعون في عقولهم وقلوبهم كل ما أمكن لشعوب العالم قاطبة كشفه أو خلقه من حقيقة وجمال، ويذكرون في ضمائرهم كل ما يوجد في الحياة العامة من عقل وحكمة ومبادئ أخلاقية نبيلة.
والآن، وقد ثبت أن هناك حقائق أخلاقية عامة، نرى الضمير المستقيم مجبرا على قبولها، ونرى أن من الواجب أن يقبلها الجميع يوما من الأيام قريبا كان ذلك أو بعيدا، الآن لنا من غير إسراف أن نقدر أن الأخلاق علم من العلوم، وأن نعتبره عملا من أعمال العقل كسائر العلوم الأخرى، لا وليد التقاليد أيا كان مصدرها، الأخلاق عمل من أعمال العقل الذي يبحث بكل ما يملك من قوى مختلفة للوصول لحقائق أخلاقية صالحة للجميع، وإذن فلننظر مكان هذا العلم من الفلسفة.
المبحث الثالث
مكانة الأخلاق من الفلسفة
لا بد لهذا البحث من أن نقدم له بكلمة قصيرة عن معنى الفلسفة وإطلاقها قديما وحديثا، نخلص بعدها إلى مكان الأخلاق منها ونسبتها إليها، فقد قال بحق الفيلسوف الهولندي: هارالد هوفدنج
Harald Hoffding (1843-1931): «بما أننا نتعلم أن نعرف المرء من تاريخ حياته، يكون إذن من الواجب إذا أردنا أن نعرف أي علم الرجوع إلى تاريخه، وطبيعي أن نسير في هذا الطريق في الفلسفة أيضا.»
1 (1) أصل كلمة «فلسفة»
إذا رجعنا لأصل هذه الكلمة من ناحية الاشتقاق وجدنا أنها تتركب من لفظين معناهما «محبة الحكمة»، وهي كلمة إغريقية اقتبسها العرب واشتقوا منها فعلا فقالوا: «تفلسف، يتفلسف»، أيام إقبالهم على ترجمة ما وصلت إليه قرائح الأمم، التي لها في عالم العلم والعرفان تاريخ معروف، من معارف وعلوم وفنون، وها هو ذا نص عبارة المعلم الثاني أبو النصر الفارابي
2
في بيان معنى اسم «الفلسفة».
قال في اسم الفلسفة: «اسم الفلسفة يوناني، وهو دخيل في العربية، ومعناه إيثار الحكمة ... والفيلسوف مشتق من الفلسفة ... ومعناه المؤثر للحكمة، والمؤثر للحكمة عندهم هو الذي يجعل الوكد من حياته وغرضه من عمره الحكمة.»
3
حدثت هذه الكلمة في القرن السادس قبل الميلاد؛ إذ كان أول من استعملها هو فيثاغورس
4
كما تقول جمهرة المؤرخين، أو سقرط كما يقول آخرون، ذلك أنه كان متواترا كما يؤكد شيشرون
5
أن فلاسفة الإغريق الذين سبقوا فيثاغورس كانوا يلقبون أنفسهم الحكماء، حتى جاء هذا الفيلسوف فوجد اللقب فضفاضا عليه وعلى أمثاله، فأعلن أن الحكمة لله وحده وأن الأليق بنا أن نختار لأنفسنا لقب «محب الحكمة».
وكيفما كان الأمر في سبب حدوث هذه الكلمة، فقد كان مقصد الفلاسفة السابقين البحث عن الحقيقة وعن المادة التي تكون منها العالم ما هي؟ فكان منهم من رأى أنها الماء، فهو أصل الكون كله، ومنهم من رأى أنها الهواء، ومنهم من أعلن أنها النار، أما فيثاغورس فقد أكد أنها الأعداد.
ومهما يكن في هذه الآراء من صواب قليل وخلط كثير، فهؤلاء المفكرون الأولون، الذين توفروا على البحث عن الحقيقة، هم الألى يستحقون أن يلقبوا بالحكماء أو بالفلاسفة كما يرى فيثاغورس، وهو في هذا يقول كما رواه شيشرون أيضا: أغلب الناس عبيد، البعض عبيد للشرف والمجد والجاه، والآخرون عبيد للمال والثراء. إلا أنه نجد منهم عددا قليلا عنوا بالبحث عن الطبيعة وفهمها، وهم الذين يسمون الفلاسفة. (2) إطلاقها قديما
كانت الفلسفة قديما تطلق على كل المعارف البشرية؛ من بحث عن الطبيعة في العالم وأصله ونشأته، ومن فلك وطب وهندسة وإلهيات وغيرها، أيام كان العقل كالطفل الغرير يتلمس المعارف تلمسا ولا تنهال عليه انهيالا كما في العصور الحديثة، وكان في مقدوره أن يقوم بها كلها لقلتها وعدم تفرعها كثيرا في ذلك الزمن القديم.
وإذا رجعنا الآن إلى تاريخ الفلسفة نفسها، لا إلى تاريخ اللفظ الدال عليها فحسب، وجدنا أن مسألة المعرفة ومسألة السلوك الإنساني كانتا أهم ما شغل به الفلاسفة أنفسهم، وبعبارة أخرى: كانت هاتان المسألتان على ما يظهر هما العناصر الأساسية للبحث الفلسفي.
نعم، إنه من الحق أن وجدان المرء نفسه وسط هذا العالم الخضم، واضطرابه في أرجائه ووقوع نظره على ما يتألف منه من عناصر وما يكتنفه ويقع تحت حسه من ظواهر؛ من خسوف وكسوف، ورعد ومطر، وليل ونهار يتعاقبان، وبرد وحر يتناوبان، ونحو ذلك من الظواهر الكونية المختلفة، كل ذلك أيقظ ذكاءه ودفعه بإلحاح إلى التفكير عساه يفهم الكون الذي يعيش فيه، والظواهر التي لا تفتأ تتوالى أمام سمعه وبصره، ولا غرو فالمرء مفطور على حب المعرفة والسعي لها، يتجلى هذا في الطفل حينما يسأل باستمرار لماذا، وكيف؛ إرضاء لغريزة حب الاستطلاع الطبعية فيه. ومن أجل ذلك يعلمنا التاريخ أن الرغبة في المعرفة رغبة أساسية لدى الناس جميعا في كل الأزمان والبيئات، ليس هناك أي شعب مهما كانت درجة تأخره وانحطاطه لم يظهر فيه هذا الميل الغريزي والحاجة الطبعية للمعرفة ، مما يجيز لنا بحق أن نعتبرها عريقة في القدم عراقة الإنسانية نفسها.
وبعد فترة من الزمن، علم مقدارها عند الله وحده، أشرب المرء حب التفكير والنظر شوقا للمعرفة الخالصة التي لا تدفع إليها حاجة ملحة، وأدخل ضمن دائرة بحثه وضع شيء من النظام والمنطقية في أعماله وسلوكه. بهذا وذاك أصبحت عناصر الفلسفة - كما قلنا - اثنين: أحدهما نظري عقلي يتعلق بالمعرفة، والآخر عملي أخلاقي يتعلق بالعمل، هذا ما يرينا إياه تماما تاريخ التفكير الإغريقي في العصور القديمة، الذي هو مرجع الفلسفة الغربية.
وعدت العوادي على الفلسفة على يد السوفسطائيين؛ إذ نزلوا بها عن مكانتها وجعلوها وسيلة للارتزاق، حتى جاء سقراط فنجاها مما آل إليه أمرها على يد هؤلاء الذين وجهوا همهم وعلمهم وتفكيرهم لجني أكبر ما يمكن جنيه من الفوائد الذاتية، وصاروا يعلمون الناس طرق النجاح في الحياة غير مقيدين في ذلك بمصالح الآخرين، ولا بشيء من العادات والتقاليد التي كانت معروفة حينذاك، كما أنزلها كما يقول شيشرون: «من السماء للأرض»، أي أنه وجه نظر الفلاسفة إلى التفكير في الإنسان وأعماله من ناحية وضع قواعد تتجه به نحو الفضيلة، بدل أن كانوا يتجهون دائما في أبحاثهم وتفكيرهم نحو العالم وأصله ومنشئه وتفسير ظواهر الكون المختلفة، وبذلك يعتبر المؤسس لعلم الأخلاق على أسس عقلية سليمة مستقيمة. (3) إطلاقها حديثا
هكذا كان الحال في الأزمان القديمة؛ يراد من الفلسفة المعرفة العامة، المعرفة التي كما يقول «شيشرون»: «تضم الأشياء الإلهية والإنسانية، كما تشمل المبادئ والعلل لكل حادث خاص.»
ظلت الحالة كذلك زمنا طويلا، حتى تقدم العقل البشري وكثرت العلوم وتنوعت البحوث، فأخذت الفروع العلمية تنفصل شيئا فشيئا عن الأم الأولى وهي الفلسفة، وأصبحت معارف وعلوما مستقلة عنها، وبذلك حصل التخصص بين العلم والفلسفة.
صارت العلوم مختصة بالبحوث المادية، فكان منها ما يبحث في جسم الإنسان وأعضائه ووظائفها، وهذان هما علما التشريح ووظائف الأعضاء، وما يبحث في الأمراض التي تنتاب الإنسان وطرق الوقاية منها وعلاجها، وذلك علم الصحة وفن الطب، وما يبحث في أحوال الشعوب وماضيها وحاضرها، وهذا علم التاريخ، وما يبحث في وصف البلدان: جوها وسكانها وغلاتها، وهو علم الجغرافيا، وما يبحث في حركة الأرض والأجرام السماوية وأبعادها وسائر أحوالها المادية، وذلك علم الفلك ... إلى آخر العلوم الأخرى التي لا تكاد تتجاوز الجانب المادي من الناحية التي تبحث فيها.
بقي بعد هذا كله الصلات العامة التي تربط العلوم بعضها ببعض، والنواحي غير المادية من الكون والإنسان، والله وما يتصل به؛ للفلسفة.
بقي للفلسفة البحث في مبدأ الكون والنواميس التي يسير عليها والغاية التي ينتهي إليها، والبحث في العلة الأولى أو الموجود الأول، والجواهر الروحانية وهي الملائكة وما يتعلق بها، والوحي والبعث والحياة الآخرة وكيف تكون، وماهية الروح وأصلها وغايتها وكيفية تأثيرها في الجسم وهي من جوهر مغاير له، والبحث في الإنسان من الناحية المعنوية، أي محاولة تعرف العقل وطبيعته وقواه وآثارها ومظاهرها، وكيف يصل إلى ما ينبغي أن يبلغه من كمال، وبعبارة أخرى: بقي للفلسفة هذه النواحي من البحوث وأمثالها التي لا تتناولها العلوم على اختلافها. (4) تقسيم الفلسفة
للباحثين طرائق متعددة في تقسيم الفلسفة، فبعضهم يقسمها باعتبار الغاية منها إلى فلسفة نظرية غايتها المعرفة والعلم فحسب، وفلسفة عملية غايتها العمل والعلم وسيلة له، والمنطق مقدمة لا بد منها للبحث في هذا الضرب أو ذاك، والقسم الأول يشمل الفلسفة الإلهية أو فلسفة ما بعد الطبيعة، والفلسفة الرياضية والفلسفة الطبيعية، والقسم الثاني يشمل فلسفة الأخلاق والفلسفة المنزلية والفلسفة السياسية أو المدنية. وبعضهم يقسمها باعتبار موضوع البحث الذي هو الله أو العالم أو الإنسان، فتكون لذلك أقساما ثلاثة، هي: فلسفة ما بعد الطبيعة، وموضوعها الخاص الله وسائر ما لا يدركه الحس عامة، والفلسفة الطبيعية، وموضوعها العالم وما يشمل من الأشياء التي تقع تحت الحس وإدراكه، والفلسفة الإنسانية وموضوعها الإنسان من نواحيه النفسية المعنوية المختلفة، وتشمل علم النفس والأخلاق والمنطق.
وربما كان منشأ تسمية بعض أقسام الفلسفة ب «ما بعد الطبيعة» أن الذين رتبوا مؤلفات أرسطو جعلوا ما كان خاصا منها بالإلهيات ونحوها بعد ما كان خاصا بمباحث الفلسفة الطبيعية؛ ومن ثم نجد ابن خلدون يقول عن علم الإلهيات، وهو فلسفة ما بعد الطبيعة: «وهو تال للطبيعيات في ترتيبهم؛ ولذلك يسمونه علم ما وراء الطبيعة.»
6
هذا، والتقسيم على النحو الأول هو جوهر تقسيم أرسطوطاليس، وعلى النحو الثاني تقسيم بعض الفلاسفة والمفكرين المحدثين، وقد استوحى المسلمون في تقسيمهم الفلسفة تقسيم أرسطو فجعلوه أساسا لهم، وما يوجد بينهم وبينه في هذه الناحية من اختلاف يسير أو كبير، فمرجعه إلى ما تأثرت به الفلسفة اليونانية في طريقها للمسلمين من اعتبارات، وما أضيف إليها من فروع وبحوث.
والذي يرجع إلى «مبادئ الفلسفة القديمة» للفارابي، و«تسع رسائل» لابن سينا، و«مفاتيح العلوم» للخوارزمي، و«المقدمة» لابن خلدون، و«كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي؛ يرى أن الفلاسفة والمفكرين المسلمين بعد أن تكلموا في الفلسفة وتقسيمها اختلفوا في المنطق ومكانته من الفلسفة، هل هو مقدمة لها، أو جزء بين الفلسفة النظرية، أو جزء ثابت يبحث فيه من حيث إنه ناحية مستقلة لا آلة للعلوم؟
ومهما يكن من خلاف في تقسيم الفلسفة إلى أصول وفروع قد يتداخل بعضها في بعض، فإنه مما لا ريب فيه أن مما تبحث فيه الفلسفة تفكيرنا وإرادتنا وعواطفنا وإحساساتنا ومشاعرنا وسائر قوى الإنسان المعنوية، وذلك موضوع علم النفس،
7
ثم أفكارنا وإرادتنا تتجه إلى غايات لها، والعلم الذي يدرس هذه الغايات هو الأخلاق. والتفكير في بحثه عن الحقيقة يتبع طريقة معينة، فدراسة هذه الطريقة هو المنطق. وهذه الفروع الثلاثة، أي علوم النفس والأخلاق والمنطق، هي ما يكون العلوم النفسية، لأن كل واحد منها يتناول الجانب النفسي المعنوي في الإنسان من ناحية خاصة: علم النفس من ناحية ما فيه من قوى التفكير والإرادة والعواطف والمشاعر ونحوها، والأخلاق من ناحية توجه أعماله الإرادية إلى ناحية الخير ووضع قواعد لها، والمنطق من ناحية قيادة فكره ووضع قواعد تعصمه من الخطأ حين يبحث للوصول عن الحقيقة.
8
والخلاصة بعد ما تقدم من بيان أن لنا أن نقرر أن علم الأخلاق فرع من فروع الفلسفة الإنسانية أو النفسية، الشاملة له ولعلم النفس والأخلاق، والتي هي قسم من أقسام الفلسفة العامة. فمكانة علم الأخلاق إذن من الفلسفة هي مكانة الجزء من الكل، فهو غصن الدوحة الوارفة الظلال التي تؤتي أكلها كل حين، وتفيد الإنسانية فائدة لا يقدر قدرها. (5) صلة علم الأخلاق بغيره من العلوم
لا غنى عن علم الأخلاق لكثير من العلوم، كالتشريع والاقتصاد السياسي والتربية؛ إذ يبين المبادئ التي تعتبر أسسا لها، والتي بدونها تكون علوما خادعة ضارة؛ ومن أجل ذلك يسميه أرسطو بالعلم الجليل الخطر، العلم المنظم، العلم الأساسي.
لهذا، لا بد للباحث في علم الأخلاق من تبين الصلة بينه وبين ما يمت إليه من العلوم الأخرى بسبب من الأسباب؛ حتى يكون على بينة مما يرتبط منها ببحوثه. وها نحن أولاء نذكر كلمة عن هذا الموضوع مكتفين بذلك ببيان ما تمس إليه الحاجة من هذه العلاقات، وخاصة بينه وبين العلوم التي هي أمس به رحما وأقرب إليه وشيجة. (5-1) الأخلاق وعلم النفس
يبحث علم النفس في الميول والرغبات والتفكير، وفي الإرادة والشعور والعواطف واللذة والألم، وهذه مباحث لا يستغني عنها دارس علم الأخلاق؛ ليهتدي للتقدير السديد والحكم الصحيح على الأعمال التي تتأثر بهذه القوى النفسية المختلفة، ومن هنا يقول «سانتهلير» في مقدمته لكتاب «الأخلاق» لأرسطو:
بدون المشاهدة السيكولوجية - أي النفسية - لا يتحقق علم الأخلاق أو يكون علما تحكميا.
كما يقول:
إن علم النفس بتحاليله المضبوطة يجب أن يكون دليلنا الوحيد، ولنا أن نضع فيه كل ثقتنا.
9
ولشدة حاجة دارس الأخلاق لعلم النفس كان الفلاسفة الأخلاقيون يقدمون بين يدي بحوثهم وتأليفهم بحوثا أخرى في علم النفس؛ هذا أرسطو وضع قبل كتابه في الأخلاق كتابا في علم النفس سماه «النفس»، وقد شرحه أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الفيلسوف الإسلامي المعروف،
10
كما بدأ مسكويه
11
كتابه «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق» بفصل ممتع في النفس الإنسانية وطبائعها وقواها المختلفة، وهكذا صنع الغزالي في كتابه «الإحياء». (5-2) الأخلاق والمنطق
لكل من العلمين صلة بالآخر تتجلى فيما يلي: (1)
كل منهما يبحث في ناحية معينة من نواحي قوى النفس، فيبحث المنطق في التفكير والأخلاق في الإرادة وما يصدر عنها من أعمال. (2)
كلاهما علم مقياسي، فكما يبحث المنطق عن مقياس للحقيقة يبحث علم الأخلاق عن مقياس لسلوك الإنسان. (3)
يعمل كل منهما على وجوب الاتفاق مع المقياس الذي ينتهي إليه، فيعمل المنطق لاتفاق الذهن في تفكيره مع مقياس الحقيقة، والأخلاق تقول بوجوب اتفاق السلوك ومقياس الخير. (5-3) الأخلاق والاجتماع والاقتصاد السياسي والسياسة
هذه العلوم، بإضافة علم القانون إليها، من الممكن أن نقول عنها إنها العلوم الاجتماعية؛ إذ إنها تعنى بدراسة الإنسان في المجتمع، وإن كان كل منها يدرسه من ناحية خاصة، فبينها إذن وشائج وثيقة العرى.
فعلم الاجتماع يدرس المجتمعات الإنسانية وتطورها، والقوانين التي تخضع لها في تطورها وتقدمها أو انحلالها، وبهذا يكشف لنا عن كثير من العوامل التي يتأثر بها المرء في تفكيره وعمله؛ كالأسرة، والأمة، والدين، والمبدأ السياسي، والنظم التشريعية والاقتصادية التي نعيش تحت ظلالها. ومن ذلك يتبين لنا مقدار ما بين العلمين من صلة متينة، حتى حاول كثير من المفكرين في هذا العصر الحديث بناء الأخلاق على دعائم من علم الاجتماع.
والاقتصاد السياسي يدرس حياة الإنسان في المجتمع من ناحية الثروات وتوزيعها والخدمات وتبادلها، وعلم السياسة يدرس كيف تحكم الشعوب حكما به خيرها وسعادتها، وواضح من ذلك أن هذين العلمين إذا لم يؤسسا على أساس متين من الأخلاق الفاضلة لم يكونا أداة لخير الإنسانية، بل عاملا لشر كبير يصيبها.
وما أحسن كلمة سانتهلير في مقدمة كتاب أرسطو في «الأخلاق» في بيان صلة السياسة بعلم الأخلاق، حين يقول:
12
إن السياسة ليس لها مبدأ واحد لم تستمده من الأخلاق، فماذا عسى أن يكون التشريع في الممالك إذا كان لا يستند إلى علم الأخلاق؟ وما عسى أن يكون حال الحكومة وقد خلت من العدل؟ وما مصير الجمعيات الإنسانية بلا أخلاق؟ ألا إن العلم الأساسي المتقدم على غيره بفضل أنه شخصي، والسامي عن غيره بسبب أنه يعطي القانون ولا يأخذ منه، إنما هو علم الأخلاق.
تلك كلمة عن علاقة الأخلاق بسائر فروع الفلسفة الهامة وما يتصل بها، وهي وإن كانت موجزة إلا أنها تكفينا الآن.
المبحث الرابع
الخلق وتعريفه، تكونه، المؤثرات فيه، أساليب تكوين الأخلاق
(1) الخلق وتعريفه (1-1) تعريفه
عرف بعض فلاسفة الأخلاق الخلق بأنه «عادة الإرادة»، وعرفه آخرون بأنه «تغلب ميل من الميول على غيره باستمرار»، فما الميل الذي إذا تغلب على المرء دائما صار خلقا؟ وما الإرادة التي إذا اعتادت شيئا سميت عادتها خلقا؟ لبيان ذلك يجب أن نتكلم أولا على العمليات والحالات النفسية التي تسبق العمل، وعلى درجات التوجه والتنبه في النبات والحيوان والإنسان. (1)
الحاجة: تسبح جذور النبات في الأرض طلبا للغذاء، وتتجه فروعه وأغصانه للشمس والهواء طلبا لحاجتها منهما، فإن فقد شيئا من ذلك يبس وذوى. إلا أن هذا التوجه من النبات عمل سخرته له الطبيعة تسخيرا، فهو لا يتصور نفس اتجاهه ولا يشعر بهذا الشيء الذي يتوجه إليه ولا بالغاية المترتبة على حصوله، وهذا التوجه اصطلح على تسميته بالحاجة، «فهي مجرد اتجاه أعمى من النبات نحو غرض معين لا بد منه لحياته، دون تصور ما للشيء المتجه إليه ولا للغاية المتحققة به.» (2)
الشهوة: أما الحيوان فهو، وإن كان مثل النبات في توجهه نحو ما به قوام حياته دون إدراك الغاية المترتبة على حصوله، يمتاز عنه بأنه يتصور هذا الشيء الذي يطلبه وإن كان تصورا غامضا، بل ويحس باللذة عند فوزه بما يطلب وبالألم عند حرمانه منه، فالحيوان الظمآن مثلا يتجه نحو الماء ويتصوره ويشعر بلذة الري، غير أنه لا يشعر بالغاية المترتبة عليه. وهذا التوجه والإحساس الحيواني هو ما يسمى بالشهوة، ومن الممكن تعريفها بأنها «توجه الحيوان إلى ما به تقوم حياته، مع التنبه القليل للمتجه له، دون شعور بالغاية التي تترتب على تحقيقه.» (3)
الميل: نرتقي بعد ذلك للإنسان، فنجده يسعى لما يحتاج إليه، وهو شاعر تماما به متصور اللذة التي تعقب وجوده والألم الذي ينتابه لفقده، كما يتصور أيضا الغاية التي يسعى لدركها، وبهذا التصور للغاية ووضوح الشعور بالمطلوب امتاز الميل في الإنسان عن الشهوة في الحيوان. ويصح لنا بعد ذلك أن نعرف الميل بأنه «توجه من الإنسان لشيء متصور بوضوح مع إدراك الغاية المترتبة على الحصول عليه.»
وباختلاف غايات الناس اختلفت ميولهم؛ هذا غايته الشهرة وبعد الصيت، وذاك السيادة ونفوذ الكلمة، وغيرهما الغنى، وهكذا. وكل طائفة متشابهة من الميول تدور حول غاية واحدة تسمى «عالما» ومنها تنشأ الرغبة. (4)
الرغبة: إذا تغلب ميل من هذه الميول على سائر الميول المتشابهة التي تدور معه على محور واحد، وسيطر ذلك الميل عليها، كان من ذلك ما يسمى بالرغبة، فهي «تغلب ميل على سائر الميول التي تعيش معه في عالم واحد»، مثلا شخص تغلب عليه عالم حب الثروة والغنى، فتراه يميل مرة إلى التجارة في القطن، وأخرى إلى شراء أراض وتثميرها، أو إلى السعي وراء عمل يأتيه بدخل كبير، أو إلى الاشتراك في مصرف مصر أو شركة من الشركات الناجحة ... إلى غير ذلك من الميول التي تدور كلها حول عالم حب الثراء السريع، فإذا فكر وروى في نفسه وغلب ميله للمنافسة في سوق القطن مثلا لظروف ودواع تناسبه على الميول الأخرى، يقال: إن هذه الحالة النفسية التي كنا نسميها ميلا صارت له رغبة يسعى لتحقيقها. (5)
الإرادة: فإذا فكر فيما يرغب فيه ورآه ممكنا، وذلل ما قد يكون بينه وبين نيله من عقبات، ثم أجمع أمره عليه، كان من ذلك ما يسمى بالإرادة.
والفرق بينها وبين الرغبة واضح؛ من أن هذه قد لا يتلوها العمل المثمر، فقد يرغب المرء في أمر يستحيل الحصول عليه، أو في شيء دون الظفر به عقبات ليس من السهل تذليلها، أما الإرادة فلا تكون - كما رأينا - إلا حيث يتروى الإنسان في الأمر ويزن جميع الظروف والملابسات، ثم بعد ذلك كله يراه ممكنا فيعزم عليه، وبهذا يعقبها العمل الذي إذا اعتيد صار خلقا.
ومن أجل ذلك لا يختلف التعريف الذي ذكرناه للإرادة، وهو تغلب عالم من عوالم الميول على غيره، بما عرفها به بعض الكتاب، وهو أنها «قوة للنفس تتمكن بها من تخصيص أمر معلوم مقدور عليه للإنسان بالوقوع فعلا، سلبا كان ذلك الأمر أو إيجابا.» (6)
الخلق: من هذا يتضح التعريف الأول للخلق الذي ذكرناه أول البحث، وهو أنه «عادة الإرادة»؛ لأن الإرادة، كما أوضحناه، هي تغلب عالم من العوالم على غيره، والعالم ليس إلا حالة نفسية للإنسان، وإن شئت فقل هو قوة أو هيئة نفسية، ومتى تغلبت هذه القوة باستمرار كانت عادة، وهي مرد معنى الخلق في اللغة العربية وسواها. كما يتضح أيضا التعريف الثاني الذي ذكرناه سابقا، وهو «تغلب ميل من الميول على الإنسان باستمرار»، فإن هذا الميل الذي صار رغبة فإرادة هو الهيئة النفسية، وتغلبه باستمرار معناه أنه صار عادة وخلقا.
ولنضرب لذلك مثلا: رجل يصدق مرة ويكذب أخرى، أو يجود بالكثير من المال آنا ويبخل بالقليل مع وجود الدواعي للبذل آنا، فهل يوصف بأن من خلقه الصدق أو الكذب أو الكرم أو البخل؟ لا؛ لأنه لم يتغلب ميل أو عالم أو هيئة نفسية باستمرار حتى يصير ذلك له عادة وخلقا، ويقال عن مثل هذا الرجل: إنه متقلب لا أخلاق له.
ولا يصح أن نقيم وزنا للرأي القائل بأن الخلق أمر نسبي، بمعنى أنه يحكم على المرء بالميل الذي يغلب عليه، فمن غلب عليه حب الإعطاء وأعطى كثيرا ولم يبخل إلا قليلا كان كريما، وكذلك الصدق والكذب وسائر الفضائل والرذائل، لا يصح أن نقيم وزنا لهذا الرأي، وذلك أنه مما لا بد من ملاحظته في الخلق الرسوخ والثبات لميل أو حالة نفسية معينة، حتى تعطي ثمرتها من الأعمال باستمرار، يؤيد هذا ما ذكره العلامة «ماكنزي» في كتابه «الأخلاق»؛ إذ يقول إنه:
لا بد لتكوين خلق من ثبات عالم من العوالم، أما مجرد باعث خيري أو غرض خيري في حياة الإنسان فلا يكفي لجعله خيرا. (1-2) تعاريف الفلاسفة الإسلاميين للخلق (1)
عرف مسكويه (المتوفى سنة 421ه) الخلق بأنه «حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية.»
1 (2)
وعرفه الإمام الغزالي (450-505ه) بأنه «هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة من غير حاجة إلى فكر وروية.»
2 (3)
وعرفه يحيى بن عدي بأنه «حال للنفس به يفعل الإنسان أفعاله بلا روية ولا اختيار.»
3
وهذا التعاريف، وإن اختلفت ألفاظها وعباراتها، متفقة في معانيها ومدلولاتها، ولا تختلف جميعها عن التعريفين السابقين أول البحث؛ لأن هذه الهيئة أو الحال النفسية هى «العالم» الذي تقدم شرحه، واشتراط صدور الأعمال عنها بلا فكر مؤذن بأنها صارت للمرء عادة تصدر عن إرادته من غير تفكير، شأنها في ذلك شأن سائر الأفعال التي مبعثها المران والعادة التي تأصلت في النفس وأصبحت حالة لازمة لها راسخة فيها.
ولا يشكل علينا نفي التفكير والروية في الأعمال التي تصدر عن الخلق بما يجده المرء في نفسه؛ إذ من شأنه الكرم حين يدعو داعيه واعتزم أن يجود بمائة من الجنيهات مثلا، نراه يفكر في أي الجهات يدفع إليها هذا المقدار، وأي النواحي تمس الحاجة للبذل فيها؛ هل يمد بها ملجأ لليتامى، أو مستشفى للمرضى، أو جمعية الإسعاف، أو يساعد بها في بناء مسجد أو تعليم بعض الفقراء النابغين؟ هذه نواح يفكر فيها هذا الكريم، حتى إذا تبين له حاجة جمعية الإسعاف مثلا للعون سارع فأرسل إليها هذا المقدار الذي رأى الجود به. نقول: لا يشتبه علينا ما اشترطناه في الخلق من نفي التفكير والروية بما نشاهده في مثل هذه الحالة من الإمعان في التفكير؛ لأن هذا التفكير كان في الجهة التي يبذل فيها، لا في نفس وجوب الإعطاء الذي أصبح منساقا إليه انسياقا تدفعه إليه تلك الحال النفسية التي رسخت فيه فصارت له عادة وخلقا.
كذلك التروي في الخلق المكتسب يكون أول الأمر عند إرادة اكتساب خلق من الأخلاق، أما بعد أن يتم اكتسابه فلا روية ولا تفكير، ولهذا نجد مسكويه يقول: «ومنها - أي من الحالات النفسية التي هي الخلق - ما يكون مستفادا بالعادة والتدرب، وربما كان مبدؤه بالروية والفكر، ثم يستمر عليه أولا فأولا حتى يصير ملكة وخلقا.»
4
وأخيرا بعد ما تقدم كله لنا أن نعرف الخلق كما يقول بعض المحدثين بأنه «عادة الإرادة»، أو «إرادة كاملة التكوين»، أو كما يقول مسكويه بأنه «حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية»، وقد تبينا أن تعاريف الغزالي وغيره من الفلاسفة الإسلاميين لا تبعد عن هذا في كثير أو قليل. (2) تكوين الخلق والمؤثرات فيه
عرفنا مما تقدم حقيقة الخلق، وكيف يتكون من الناحية النفسية، وأنه يبدأ ميلا ضعيفا يشتد فيصير رغبة أو نية أو مرجوا، ثم يصير إرادة راسخة في النفس فخلقا تصدر عنه أعماله بيسر من غير حاجة إلى تفكير.
على أنه لا بد لنا إلى جانب هذا من بيان العوامل التي تكون الخلق عمليا، والمؤثرات فيه أثرا محمودا أو غير محمود، من الوراثة والبيئة بمعناها العام، وهذا ما يدعونا للكلام ولو بإيجاز عن فطرة الإنسان ومبلغ استعدادها للخير والشر. (2-1) الفطرة الإنسانية
اختلف الناس في فطرة الإنسان: هل هي خيرة أو شريرة بالطبع، أو فيها استعداد للناحيتين؟
رأى بعضهم أن الإنسان خلق خيرا بطبعه، وفي ذلك يرى سقراط أن نفس الطفل خباء للكمال لا تظهره إلا المناقشة والتحاور، كما يرى زينون مؤسس المدرسة الرواقية
5
أن الطبيعة العامة خير لصدورها عن الله وهو خير ولا يصدر عنه إلا خير، فالإنسان وهو أثر من آثار الطبيعة كذلك خير، كما كان يقول جان جاك روسو في كتابه «إميل»:
إن الطفل خير بطبيعته، والشر يأتي له على يد الإنسان.
ويرى آخرون أن الإنسان خلق شريرا بالطبع، فيجب الوقوف في وجه ميوله ونزعاته، وهذا هو رأي جمهرة البراهمة والبوذيين الهنود ومن تبعهم من مفكري العرب كأبي العلاء المعري، المتوفى سنة 449ه، الذي يقول:
فظن بسائر الإخوان شرا
ولا تأمنن على سر فؤادا
كما يقول من قصيدة أخرى:
وفضيلة النوم الخروج بأهله
عن عالم هو بالأذى مجبول
ويكفي لبيان فساد رأي هؤلاء وأولئك أن نتساءل: إن كان المرء خيرا بطبعه والشر يأتيه على يد الإنسان، فمن أين أتى الشر لهذا الإنسان حتى أعدى به غيره؟ وإن كان المرء مفطورا على الشر ، فكيف نرى كثيرا من الناس خيارا فضلاء؟ هل قلدوا في ذلك غيرهم؟ وإذن فقد كان هؤلاء الأغيار خيارا بالطبع حتى صاروا قدوة صالحة.
على أن هذين الرأيين يؤديان كما قال مسكويه: «إلى إبطال قوة التمييز والعقل، وإلى رفض السياسات كلها، وترك الناس جميعا همجا مهملين، وإلى ترك الأحداث والصبيان على ما يتفق أن يكونوا عليه بغير سياسة ولا تعليم، وهذا ظاهر الشناعة جدا.»
6
بقي أن نقول: إن الرأي الصحيح الذي يقبله العقل وهو مطمئن، وتعضده الملاحظة، وتدل عليه التجارب الصادقة، هو أن الطفل يخلق وفيه استعداد للخير والشر، وتوجيهه إلى ناحية الفضيلة عمل المربي الحكيم.
والأدلة على هذا الرأي كثيرة من كتاب الله وحديث رسوله وأقوال العلماء الأعلام؛ يقول الله في كتابه الكريم ممتنا علينا:
ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين ، والنجدان هما طريقا الخير والشر، ويقول أيضا:
إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ، ويقول الرسول الحكيم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.» الحديث.
7
ومن الحسن أن نلاحظ أن الرسول لم يذكر الإسلام مع هذه الديانات إشارة إلى أنه دين الفطرة، يألفه المرء نفسه بلا حاجة إلى علاج من الوالدين أو المربين.
ويقرر الغزالي أيضا في بيان الطريق في رياضة الصبيان أن «الصبي خلق قابلا للخير والشر جميعا، وإنما أبواه يميلان به إلى أحد الجانبين.»
8
كما يقرر ابن خلدون في مقدمته، في الفصل الذي عقده لبيان أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر، أن «النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير أو شر، قال
صلى الله عليه وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.»
غير أن استعداد الطفل في رأي ابن خلدون للخير أقوى من استعداده للشر؛ إذ يقول في موضع آخر من مقدمته: «لما كان الملك طبيعيا للإنسان لما فيه من طبيعة الاجتماع كما قلنا، وكان الإنسان أقرب إلى خلال الخير من خلال الشر بأصل فطرته وقوته الناطقة العاقلة؛ لأن الشر إنما جاء من قبل الحيوانية التي هي فيه، وأما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير وخلاله أقرب ...»
9
وأخيرا، ذهب إلى هذا الرأي سانتهلير؛ إذ يقول في مقدمته لترجمة أخلاق أرسطو:
إن الله لم يسو بين الناس جميعا فيما وهب من ميول الخير، كما لم يسو بينهم فيما قدر من ميول الشر.
والآن وقد وضح الصبح لذي عينين، وتبين أن في المرء حين يولد استعدادا للخير والشر، وأن أخلاقه لهذا تتغير على حسب ما يؤثر فيها؛ نتكلم عن الوراثة والبيئة، وهما العاملان اللذان لهما كل الأثر في تكوينه. (3) الوراثة والبيئة
10 (3-1) الوراثة (أ) تمهيد
ليست الوراثة وما لها من أثر بالأمر الذي يرجع علمه إلى هذه العصور الحديثة، بل علم ذلك عريق في القدم، أخذ منه الأولون بحظ غير قليل، وعملوا على الإفادة مما علموا؛ ليكون لأممهم شباب نقي الدم وقوي الجسم والعقل.
أدرك هذا المصريون القدماء، الذين يعتبرون في رأي بعض الباحثين الأوائل الذين استعانوا بالقانون لينزلوا الآراء والنظريات الخاصة بتحسين النسل منزلها من الجدارة والتقدير، فعملوا على نقاء دمهم بتحريم الزواج ممن كانوا يعتقدونهم دونهم في المنزلة من الأقوام الذين اتخذوا أعالي النيل مقاما وموطنا.
11
وأدرك ذلك اليونان القدامى، فأخذوا أنفسهم بوأد الطفل الذي يولد ضعيف الجسم غير متناسب الخلق، ونادى أفلاطون وأرسطو بأن من الخير سن قوانين خاصة بالزواج تبين من يسمح له بالزواج دون الآخرين؛ لأنه يجب أن تبدأ التربية قبل الولادة.
هؤلاء وأولئك، وتلك آراؤهم وما دعوا إليه من نظم، كانوا ولا شك على علم بالخطر الذي ينال أممهم إن أجازوا للشاذ الخلق أن يعيش وأن يكون منه نسل، وهذا الخطر الذي أحسوا به هو أن يرث نسل هؤلاء الضعاف أو المشوهين بعض صفاتهم.
وجاء العرب فرأينا منهم من مهر في القيافة، حتى ليكون قوله الفصل في بنوة متنازع فيها، فما هو إلا أن يوازن بين أعضاء من الولد وأخرى ممن يزعم أنه أبوه حتى يتبين له الحق من الباطل، وواضح أن البراعة في هذا شيء من معرفة آثار الوراثة الجسمية، وفي ذلك يقول الشاعر العربي:
ورثنا المجد عن آباء صدق
ونورثه إذا متنا بنينا
كل ذلك، وما إليه كثير، فيه دلالة واضحة على أن الأقدمين لم تفتهم معرفة أن في الكون قوة لها آثارها، وإن لم يفقهوا كنهها، حتى جاء العلم الحديث - الذي عرف عن تلك القوة الشيء الكثير - مؤيدا للسنة الصادقة، إذ يقول
صلى الله عليه وسلم : «تخيروا لنطفكم؛ فإن العرق دساس.» (ب) تعريفها
إن نظرة إلى أفراد سلالة نباتية أو لسرب من الظباء مثلا أو لأسرة تضم الأجداد والأبناء والأحفاد، ترينا أن بين كل من هذه الأصول وفروعها شبها من نواح عدة وإن اختلف قوة وضعفا بحسب شدة أثر الوراثة أو ضعفه، ولاختلاف ذلك التشابه قال بعض علماء الوراثة: «إن المثل ينتج غير المثل»، يعنون أن هذه المشابهة وإن اشتد خطرها فإن إلى جوانبها فوارق عديدة تفرق بين المرء وأصله. ويقول آخرون: «إن المثل ينتج المثل»، ويريدون بذلك أن في الفرع استعدادا لمشابهة أصله فيما له من خصائص ومميزات.
من هذا نرى أن كلا من هذين القولين يكمل الآخر، وأن المراد من الوراثة أن الجسم الحي يلد آخر يشبهه، وأننا نستطيع أن نعرف الوراثة بأنها «انتقال بعض صفات الأصل لفرعه، قل ذلك أو كثر.» (ج) النظريات الوراثية
لاحظ علماء الحياة أن الفرع يمت لأصله بكثير من صفاته ومميزاته، لكنهم وقفوا أول الأمر حيارى في تعليل ذلك. ومن أشهر من بحث هذا الموضوع الأستاذان الطبيعيان «دارون»
12
و«فيزمان».
13 (1)
يرى دارون أن هناك أجزاء صغيرة جدا تقتطع من كل خلية من خلايا الجسم حين التلقيح وتسبح في جسمي الذكر والأنثى حتى تصل إلى أعضاء التناسل. وهذه الأجزاء، وهي بمثابة سفراء عن خلايا الجسم المختلفة، تحمل في طياتها كل ما يمكن أن يورثه الأصل لفرعه، وهي قابلة للتكاثر والانتقال من جيل لآخر، وبذلك نستطيع أن نفسر التشابه بين الأجداد والأحفاد.
على أننا لا ندري كيف يفسر دارون أن يلد أقطع الذراع مثلا ابنا صحيح الذراعين! كذلك لم يثبت لنا العلم وجود هذه الأجزاء التي زعم أن خلايا الكائن الحي تفرزها حين اللقاح؛ لذلك لا نعجب إذا رفض كثير من العلماء، ومنهم من كان معاصرا لدارون نفسه، هذه النظرية، ورأوا أن هناك منبعا دائما لجراثيم الحياة، وأنها في قرار مكين في الذكر والأنثى. (2)
وأما فيزمان، صاحب نظرية «اتصال المادة الأولية للحياة»، وأحد الذين رفضوا ما ارتآه دارون، فيرى أن ما في الإنسان من خصائص ومميزات يتمثل في صورة ذرات غاية في الدقة في خلاياه التناسلية يطلق عليها اسم «المحددات أو المعينات»، كما يطلق على مجموعها اسم «المادة الأولى للحياة»، وهذه الجراثيم أو المحددات لها منبع لا يغيض، وحين التلقيح تتحد بعض معينات الأب بأخرى من معينات الأم فيكون من ذلك نواة الجنين.
إلى هنا يتبين مدى الفرق بين هاتين النظريتين؛ ففي الأولى تتولد مادة التلقيح من خلايا الجسم العامة، وفي الثانية نرى أن تلك المادة متصلة مدى الحياة متوارثة بين طبقات النسل، لا دخل لخلايا الجسم العامة في تكوينها.
والآن وقد عرفنا رأي «دارون» و«فيزمان» في الوراثة وحقيقتها، يجب أن نعرف رأي العلم الحديث فيها. (د) حقيقة الوراثة
أثبت لنا علم تكوين الأجنة أن في نواة كل من خلايا التناسل في الذكر والأنثى عددا كبيرا من الألياف، وأن هذه الألياف هي حاملة العوامل الوراثية، وفيها تتمثل خصائص الشخص، وأنه عند عملية التلقيح تتحد خلية من خلايا الذكر التناسلية بأخرى من الأنثى، بعد أن تكون كل منهما قد انقسمت، ويصحب ذلك طبعا تخلصها من نصف ما كان فيها من الألياف. ويكون وليد ذلك الاتحاد النواة التي يتكون منها الجنين والتي تحتوي على خصائص الجنس والأبوين، وكثير من صفات الأسرة وعاداتها وميولها، ثم تنمو على نظام محكم حتى تصل إلى ما قدره الله لها من كمال.
هذا ما يقوله العلم الحديث، ومنه نرى أن «فيزمان» قد أصاب الحق فيما ذهب إليه، فهذه الألياف ليست شيئا آخر غير ما أطلق عليه اسم «المعينات أو المحددات»، والمادة الجرثومية أو مادة التناسل لا تفرزها خلايا الجسم - كما يقول «دارون» - بل هي مادة مستقلة تتكاثر من نفسها، وتستمر مدى الحياة، كما يحدثنا «فيزمان» في نظريته.
على أنه يجب قبل الانتقال لبحث جديد أن نذكر أن الطفل، وقد تكون من معينات من الأم والأب، ليس من المحتم أن يظهر فيه حتى بعد أن يكمل نموه كل صفات والديه في صورة فعلية، بل قد يظهر بعضها ويكمن البعض الآخر حتى تحين لها الفرصة فتظهر في إحدى طبقات نسله القريبة أو البعيدة؛ جاء في ذيل «تاريخ بغداد» لابن النجار في ترجمة علي بن نصر الفقيه أنه قال ما معناه: زوجت أحد غلمان عضد الدولة بن بويه صبية في جوارنا فولدت له ولدا استحيت أن تريه له، فشكا إلي ذلك، فذهبت إليها فأسرت لي والدتها أن ولده أبلق، أي أنه من رأسه إلى سرته أبيض، وبقية بدنه أسود، فلما سمع التركي قولها «أبلق» صاح: «ابني ابني! وهكذا كان جدي في بلاد الترك.» (ه) ماذا تنقله الوراثة؟
ليس الواحد منا إلا أداة اتصال بين الماضين والآتين، فهو سجل تاريخي نعرف منه كيف كان الأسلاف والأجداد، وينقل ما هو مطبوع فيه من الصفات الوراثية إلى خلفه، بذلك تحفظ خصائص النوع البشري، والمميزات القومية التي لكل أمة، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. (1)
ينتقل بالوراثة كثير من الصفات الجسمية كالطول والقصر والنحافة والغلظ ولون الجسم والشعر والأعين مثلا. وكما تنتقل بها هذه الصفات الجسدية العادية، تنتقل الأوصاف الشاذة الراجعة لعيوب التكوين. هذا «دارون» العلامة في العلوم الطبيعية يقول في ذلك ما نصه:
إذا كان من المقرر أن الاختلافات حتى أكثرها شذوذا والتي لا تنطبق على جنس معلوم، كنقص بعض الأصابع والأظفار أو زيادتها وكالجهر وتشقق الجلد وغيرها، تنتقل في النسل بحرص؛ فكم بالحري ينبغي أن يكون كذلك في الاختلافات العادية التي يصح عليها جليا ناموس الوراثة؟!
14
ولا يعنينا بسط الكلام على هذه الصفات ونحن نبحث عوامل تكوين الخلق، إنما الذي يجب أن نعنى ببحثه هنا هو أثر الوراثة في الصفات الأدبية والعقلية. (2)
وللوراثة كذلك دخل كبير في تكوين المرء أدبيا وعقليا، فشهوات الإنسان وميوله، وغرائزه وأمزجته، وما تركز فيه من عادات وأخلاق، وما وهبه من استعداد للذكاء، وقوة في مظاهر الفكر ونواحيه قد تسمو حتى تصل للعبقرية أحيانا، وما يرزأ به من ضعف في العقل والتفكير قد يشتد حتى يكون صورة من صور البله أو الجنون؛ كل هذه الصفات والاستعدادات نرى للوراثة قسطا كبيرا في تكوينها، فهي لا تني لحظة عن نقل صفات الأجيال الماضية للحاضرة والقادة متى وجدت إلى ذلك سبيلا.
15
وفي هذا المعنى ننقل كلمة للدكتور «شبلي شميل» في شرح مذهب «دارون» في النشوء والارتقاء، وما للوراثة من قيمة فيه، وها هي: «وكما أنها تنقل الصفات الجسدية تنقل أيضا الصفات الأدبية كالشهوات والأميال والعوائد والأخلاق والعقل ... إلى غير ذلك».
16
ويحسن أن ننبه من أول الأمر إلى أن المراد من وراثة هذه الصفات وغيرها في أغلب الحالات هو وراثة الاستعدادات لها، أما ظهورها بالفعل فيتوقف على البيئة. ومع هذا فليس من الضروري أن تظهر في النسل تلك الصفات الموروثة على النحو التي كانت عليه في الآباء، بل قد تبدو في صور شتى ترجع كلها في نوعها لتلك الصفة الموروثة؛ ولهذا «قد نرى الأبوين العصبيين ينسلان أولادا مختلفين؛ أحدهم فنان، والآخر معتوه، والثالث شاعر حاد العواطف، والرابع سكير مفرط، والخامس واعظ عظيم، فنراهم كلهم من واد واحد من حيث حدة الانفعال، ولكنهم اختلفوا بين نافع وضار تبعا لقدر الإرث والبيئة»، كذلك الأبوان الشاعران قد يكون لهما ابن موسيقار وآخر رسام وثالث مثال، ومعنى هذا أنهم ورثوا عن أبويهم الفن الجميل، ولكن تلك الصفة الموروثة ظهرت فيهم على صور مختلفة.
وقد ذكر الأستاذ الأبياري، وهو بسبيل الحديث عن وراثة العقليات الممتازة والعقليات المنحطة؛ أن من الحالات الأولى المعروفة عائلة «دارون» التي وصل خمسة عشر شخصا منها إلى عضوية الجمعية الملكية بإنجلترا. كما أشار في الناحية الثانية إلى أسرة تعيسة هي أسرة «جون لوك» المشهورة بمدينة «نيويورك»، فقد تبين من دراسة تاريخها بدقة أن بين 2100 نفس منها، وهذا العدد ثلاثة أخماسها، كان 378 من العاهرات، و181 من السكيرين، و170 متسولا، و129 متشردا، و118 مجرما، وأن حوالي نصف العائلة كان مصابا بالضعف العقلي الذي كان آفة الأبوين الأولين؟
17
هذا، ومن الخير أن نفرد الغرائز ووراثتها بكلمة خاصة لما لها من أثر بالغ في تكوين الخلق. (و) الغرائز والوراثة
ينكر «هربرت سبنسر» الوراثة العقلية؛ إذ يرى أن لا عقل للطفل حين يولد، وأن عقله هو مجموعة ما يجيء له بعد من الأفكار والمعلومات، كما ينكر الغرائز والميول الطبيعية والاستعدادات الفطرية.
18
ويذكرنا هذا الرأي بما يراه الغزالي الذي يذهب مذهب المنكرين للوراثة العقلية، حين يقول: «والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة تعيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه.»
19
هذا ما يقوله هذان العلامتان، فهل أصابا محجة الصواب؟ إن نظرة إلى بعض الغرائز ترينا كيف ننتقل بالوراثة من جيل إلى جيل. ها هي ذي غريزة المنافسة من الواضح أنها لم تخلق مع الإنسان الأول؛ إذ لم يكن ثمة من ينافسه، وبعد حين من الدهر تكاثر الناس وتسابقوا في نيل وسائل الحياة، فوجدت هذه الغريزة التي توارثها الأجيال، وغدت دعامة متينة في التربية والأخلاق، كذلك قد يشعر الكثير منا بالخوف إذا أجنه الظلام، مع أن له في سهر رجال الأمن وإحكام داره ما كان جديرا بدافع غائلة الخوف عنه لو أن الأمر يرجع لمؤثرات خارجة فحسب، ولكن الأمر فوق هذا، فذلك الخوف مرده الوراثة، فهي التي أورثته هذه الغريزة عن أجداده الأولين الذين لم يكن لهم من وسائل الأمن ما لنا الآن.
ونعود إلى رأي الغزالي فنقول: إنه في رأي بعض الباحثين يمثل الفلسفة القديمة التي تقول: إن الطفل يولد صحيفة بيضاء، للمربي أن ينقش فيها ما يشاء. على أننا لو اعتمدنا المذهب القائل بأن الصفات والأخلاق نفسها لا تورث وإنما الذي يورث هو الاستعدادات لها، وهو رأي محترم في أوروبا؛ لكان الرأي الذي ذهب إليه الغزالي لا غبار عليه ، وخاصة وحديث: «كل مولود يولد على الفطرة» يعضده ويشهد له.
أما «سبنسر» فالأمر معه سهل، فهو وإن أنكر الوراثة العقلية فقد جعل للوراثة الجسمية التي لا ينكرها شأنا في العقل؛ إذ يرى أن الأطفال مختلفون في استعداداتهم المادية، وأن لذلك أثرا في الروح قل ذلك أو كثر، ولذلك يعترف بأنه كثيرا ما يعجز المربي - مهما بلغ من حذق وأنفق من جهد - عن الوصول إلى ما يريد من الغايات.
20
من هذا نرى أنه لا فرق في النتيجة بين «سبنسر» والمثبتين للوراثة العقلية ما دام الكل يعترف بأن الطفل يخرج للحياة وفيه بعض الاستعدادات أيا كان مصدرها التي تمد للمربي يد العون في تربيته وتهذيبه. (ز) سبيل توزيع الصفات الوراثية
ليس من شك الآن في أن الوراثة حق، فكأين من آية تدل عليها، وما أكثر الظواهر الطبيعية التي لا تفسر إلا بها! لكن الباحثين فيها راعهم ألا يجدوا اطرادا في وراثة الفرع لكل الصفات التي تورث عن أصله، فشرعوا يتعرفون السنن التي تتبعها الطبيعة في هذا السبيل، وأشهر من بحث في ذلك هو العلامة مندل
Mendel
النمسوي،
21
الذي بحث كثيرا وقام بتجارب مختلفة حتى اهتدى إلى النظرية التي عرفت باسمه.
أجرى هذا الباحث تجاربه على نبات البسلة الذي كان موجودا منه أنواع مختلفة الطول واللون في حديقة الدير الذي كان قسيسا له، بأن لقح بعضا من النوع الطويل بآخر من القصير فكان الناتج كله طويل الساق، ومعنى هذا أن صفة الطول قد تغلبت وكمنت الصفة الأخرى. ثم استنبت الفصيلة الناتجة ولقحها بعضها ببعض فرأى ما أدهشه، وهو أن ربع الناتج كان قصيرا والباقي كان طويلا! استنبت مرة أخرى هذه الفصيلة الأخيرة ولقحها تلقيحا ذاتيا كذلك فكان الأمر عجيبا؛ إذ كان نسل الربع القصير قصيرا مثله، وقد كرر زرعه فلم ينتج إلا قصيرا، وكان ثلث الباقي طويلا ولا ينتج إلا مثله دائما، وكان الباقي بعد ذلك من النوع الطويل لكن فيه صفة القصر مكسوفة كامنة، لهذا كان باستنباته يعيد السيرة الأولى، فينتج قصيرا وطويلا بالنسبة السابقة، أي أن الربع ظل قصيرا خالصا، والربع كذلك كان طويلا خالصا، والنصف كان طويلا فيه صفة القصر كامنة.
وكذلك أجرى مثل هذه التجربة على اللون، ثم على بعض الحيوانات كالأرانب والدجاج والحمام، فكان صدى هذه التجارب كلها قانونه الذي عرف باسمه. وبهذه النظرية أو هذا القانون - وإن لم يطرد نجاحه دائما - أمكن الحصول على أجود الأنواع في النبات والحيوان.
22 (ح) وراثة الصفات المكتسبة
الصفات المكتسبة هي الصفات التي تصيب المرء في حياته الخاصة لعوامل خاصة به، دون أن يكون لأحد من أسلافه نصيب في شيء منها، مثل آثار الجروح التي تعتري المرء واسمرار بشرة الأبيض الذي يقيم في بلاد حارة، غير مقتف في ذلك أثر أحد من آبائه الأقربين أو الأبعدين. (أ)
وقد اختلف العلماء في وراثتها، فقال بذلك بعضهم وأولهم «دارون» وسائر أشياع مذهب النشوء والارتقاء. وهذا الرأي من دارون يتفق مع نظريته في حقيقة الوراثة التي تتلخص كما قدمنا في أن الجسم يفرز حين اللقاح أجزاء صغيرة من كل عضو يتكون منها الجنين، فمن الطبيعي إذن على رأيه أن تتمثل في هذه الأجزاء صفة كل عضو على حالته التي يكون عليها حين اللقاح.
ويسوق «دارون» لدعم رأيه حالات كثيرة ظهرت فيها وراثة هذه الصفات، ثم يقول: «على أن ما نلحظه في أنواع البقر والماعز الحلوب المستولدة في أقاليم يكثر حلبها فيها، لمثال يبين لنا أثر الاستعمال والإغفال، فإن كبر حلماتها صفة وراثية فيها، ويتضح ذلك من مقارنة هذه الأعضاء فيها بما لأنواعها غير الحلوب في أقاليم أخرى.»
23
على أنه لا يقول مع هذا باطراد وراثة الصفات المكتسبة، بل ولا غير المكتسبة؛ ولهذا نراه يقول أيضا: «إن السنن التي تخضع الوراثة لمؤثراتها مبهمة لدينا غالبا، ولا يتسنى لأحد أن يستجلي غامض ذلك السر الذي تورث به الصفات الخاصة في أفراد النوع الواحد في حين ولا تظهر موروثة في حين آخر.»
24
هذا، ولا يقتصر أنصار هذا الرأي على البحوث النظرية أو المشاهدات الخاصة، بل كثير منهم قام بتجارب متعددة لإثبات رأيهم على كثير من الحيوانات،
25
وقد يعزز نظريتهم ما تراه من أن الحيوانات التي تضطر إلى سكنى الكهوف ونحوها من الأماكن المظلمة، تتعدل أعضاؤها حسب بيئتها الجديدة، فيتغير كثير منها لعدم الاستعمال، وينشأ أولادها على غرارها الجديد. (ب)
هذا بعض ما يؤيد به أنصار وراثة الصفات المكتسبة رأيهم، أما المعارضون لهم فيقولون: نجد الصينيات يحاولن منذ قرون تصغير أقدامهن، ومع ذلك لم يظهر أثر لذلك في الأعقاب (الأبناء والأحفاد)، كما أن عادة الختان لا يظهر لها أثر في النسل رغم وجودها منذ أزمان طويلة بين اليهود والمسلمين، ومثلها عادة الوشم شائعة عند بعض القبائل بأفريقيا وغيرها منذ أزمان بعيدة، ولم نر طفلا ولد وقد ورث تلك الآثار. (ج)
والذي نراه حقا هو ما يراه العلامة «فيزمان»، وهو أن «الصفات المكتسبة لا تنتقل بالوراثة ما لم تؤثر في المادة الجرثومية وتحدث بها تغيرا»، وهذا إنما يكون إذا تسببت عن مؤثرات طبيعية تطاول بها الزمن، كسواد البشرة لطول الإقامة في المناطق الحارة. أما الصفات الناشئة عن عوارض فجائية كالعاهة التي سببها كسر عضو مثلا، فأثرها لا يعدو أن يكون سطحيا لا يستطيع أن يتغلغل حتى يصل لخلايا جرثومة الحياة. ولعل هذا الرأي يفسر لنا وراثة الصفات المكتسبة تارة وعدم وراثتها تارة أخرى.
وهذا الرأي لا يخالف رأي العلامة «ريبو»، وهو من أشهر علماء النفس الفرنسيين،
26
الذي يقول: «يمكننا أن نفهم بصفة عامة أن التشوه المسبب عن حوادث، وكذلك البتر وتحطيم الأعضاء فجاءة، كل ذلك لا ينتقل بالوراثة ...» إلى أن يقول: «يوجد نوع من التغييرات المتسببة عن فعل بطيء ذي أثر في الكائن كالغذاء والتربية، وإن تجارب المعلمين لتؤيد أن بعض الصفات المكتسبة تورث.»
وواضح أنه يريد من قوله: «وإن تجارب المعلمين ... إلخ» أن تلك الصفات التي تورث هي الناشئة عن مؤثرات طبيعية؛ لأنها التي يكون أثرها بطيئا.
وبعد، فإن القائلين بعدم وراثة الصفات المكتسبة لينكرون طلوع الشمس وهي تصليهم نارا حامية! وإلا فليفسروا لنا كيف ينسل العربي، الذي توطن السودان مثلا زمنا طويلا حتى نالت البيئة الجديدة من بشرته، أولادا يمتون إليه بسواد أجسامهم. على أن القوة التي تحفز الناس إلى التقدم لينالها الضعف إلى حد كبير إذا اعتقدوا أن هذه الصفات - وكثير منها ثمرة جهادهم في الحياة - لا ينتقل شيء منها إلى أبنائهم الآتين على ممر الدهور. (ط) الوراثة والتربية
ما أثر الوراثة في التربية؟ وهل هي نوع من القدر الذي لا مفر منه، أو للتربية مجال كبير في فل حدتها وتهذيب آثارها والانتفاع منها؟ ذلك ما نتكلم فيه الآن: (أ)
للوراثة أثر سيئ في كثير من الأحوال، يظهر ذلك في أولاد المدمنين على الخمر والمرضى المشوهين، إلا أننا نجد من الحق أن نذكر مع هذا فضلها وما لها من أياد كبير أثرها، فنظام المجموع العصبي الكبير الخطر، والجهاز الصوتي، والحواس وما تسديه إلينا من نفع، والغرائز التي لا غنى عنها في حفظ المرء ورفاهيته؛ كل ذلك وما إليه للوراثة فيه أثر غير منكور، فهي قوة قد تأتي بالضار كما قد تمدنا بالنافع، ومن هنا تظهر الحاجة الماسة للمربي الحكيم، فهو القادر على أن ينتفع بما يأتي به من حسنات، كما في يده أن يفل من حدتها ويخفف من شدتها إن جنحت للطريق الأخرى. (ب)
وكثيرا ما يتساءل الباحث في المجتمع الإنساني وتطوره عما إذا كان للوراثة - على كثرة ما خصص لها العلماء من بحوث وأنفقوا فيها من جهود - من أثر في رقي الإنسانية المشاهد الملموس، هنا نقول إن الوراثة لا تقف بآثارها على ما تقدم ذكره، بل إن منها نوعا آخر هو وراثة التقاليد والأخلاق، والعلم والمدنية والحضارة، وسائر أساليب الآباء والأجداد في معيشتهم ووسائلهم التي كانت لهم عونا في أزمانهم، بذلك يتيسر أن نبدأ حياتنا من حيث انتهى أسلافنا، وأن نبني على ما شادوه لنا، وبهذا تتقدم العلوم والمعارف وترقى المدنية، والنتيجة تقدم المجتمع عامة نحو الكمال.
نظن الفرق في القوة الجسدية ليس كبيرا بيننا وبين أهل القرون الخالية، لكن الفرق جد كبير بين مدنيتنا ومدنيتهم، وبين علومنا المؤسسة على البحث الصحيح ومعارفهم الساذجة التي أساس أكثرها الحدس والتخمين، وبذلك أمكن لنا ما نشاهده من مخترعات ذللت لنا سبل الحياة، والسبب في ذلك واضح ظاهر، فقد ورثنا مدنيات أصحاب الأيام الخوالي من الفراعنة واليونان والرومان والعرب والأمم الإسلامية جميعا. وبعبارة أخرى: ورثنا حضارة الجنس الإنساني حتى هذه اللحظة دون من سبقونا، فبهذا فقناهم ووصلنا إلى ما لم يخطر لهم على بال؛ من نظم وقوانين، ومخترعات جعلت الحياة سهلة ذلولا، ومكنتنا من تلبية نداء المعري حين يقول:
سر إن استطعت في الهواء رويدا
لا اختيالا على رفات العباد
وبعد: فإن نظرة واحدة يوازن بها المرء بين حالتنا اليوم وبين حالة من سبقونا بعدة قرون، لتبين لنا أهمية ما حصلنا عليه من الإرث الاجتماعي الذي كان الاحتفاظ به وإنماؤه سببا في توطيد أسس الحضارة وإعلاء صرح المدنية. (ي) رجاء أنصار الوراثة
تبين للعلماء ما للوراثة من أثر كبير في نقل كثير من الأمراض الجسمية والعقلية والخلقية، فشرعوا يفكرون في طريق العمل حتى نكون بمنجاة من آثارها السيئة، وحتى نصل إلى مستوى يكون أقرب بقدر المستطاع إلى الكمال.
وقديما عني بهذه المسألة أولو الأمر وفكر فيها الفلاسفة؛ كان الأسبارطيون - كما تقدم - يئدون من لم يولد قوي الجسم حسن الخلق، وكذلك كان الأثينيون يفعلون، وفيهم كان أرسطو، المعلم الأول، الذي نادى بسن قوانين تبين من يسوغ لهم التزاوج، كما نصح الحكومة أن تسير على ما كان متبعا من إعدام من يولد ضعيفا أو مشوها.
على أن هذه التقاليد القاسية والآراء المتطرفة وجدت في الزمن الأخير أنصارا وأعوانا، أمثال شوبنهور
27
ونيتشه
28
وبرناردشو الكاتب الأيرلندي المعروف؛ فقد كان الأولان يريان أن شريعة الاجتماع يجب ألا تعرف شفقة ولا رحمة، وأن تحتذي شريعة الطبيعة فيما لها من طرق، فتقتل العاطل أو تمنع تناسله، ولا تبقي إلا على الأصلح،
29
كما يرى الأخير وجوب تقييد الزواج، وقتل الذين لا يرجو منهم المجتمع خيرا!
30
بهذا كان ينادي هؤلاء الفلاسفة المتشائمون، ونسوا أن يقولوا لنا متى كان يجب أن تنفذ هذه الشريعة الهدامة، كما أنهم لم يضعوا حدا أو مقياسا نعرف به الأصلح فنبقيه، وغيره فنأتي عليه.
الحق أن هذه الفلسفة كان من حظ المجتمع أن جعلها دبر أذنيه فلم يلق لها بالا، وإلا فلو دان الناس بها فيما سلف من الزمان لحرم العالم من كثيرين هم فخر العلم اليوم؛ فكم من نابغ جعل حول اسمه دويا في جنبات الأرض، نشأ من سلالة خاملة لم ترزق شيئا من العبقرية والنبوغ!
وإذن لندع هؤلاء القانطين يسبحون في عوالمهم ولنكن عمليين فنعرف أن بحوث الوراثة تنادي: (1)
بأن بعض الأمراض وراثية، فيجب أن يمنع من رزئوا بها وأعجزنا شفاؤهم من التناسل حتى تنقرض سلالاتهم، ويخلص المجتمع منهم. (2)
وبأن البله والجنون وسائر الأدواء العقلية والخلقية من الأمراض التي للوراثة حظ فيها، فيجب أن يمنع المصابون بشيء منها من التناسل أيضا. (3)
وأخيرا بأنه يجب أن تغير القوانين إلى حد يمكن للحكومة من السيطرة على أولئك وهؤلاء، فتحول بينهم وبين التناسل في غير مشقة ولا إعنات، كأن تنشئ لهم مثلا مستعمرات تضمهم وتكل إليهم بعض الأعمال نظير ما يكلفونها من نفقات. (ك) واجبنا والوراثة
إذا كان للوراثة هذا الأثر الظاهر في الأجسام والعقول قوة وضعفا، وفي الأخلاق حسنا وقبحا لابتنائها على كثير من الغرائز والعادات الموروثة، وإذا كان الإنسان يعترف عمليا بهذا الأثر ويحرص على الإفادة منه دائما، فلا يستنبت إلا أجود البذور، ولا يقتني من الحيوان إلا أفضل الأنواع للحصول على أكبر الفوائد والمزايا، نقول: إذا كان الإنسان يعنى بتحسين سلالات النبات والحيوان، فأولى له أن يعير ذاته - وهي أكرم عليه - ما تستحقه من عناية، وما تتطلبه من تقدير، فيستعرض جميع أحواله من جسمية وعقلية وخلقية، ويجعل من نفسه عليها رقيبا، ثم يحاول أن يستفيد من صفات الخير وينميها، وأن يهذب من سواها بقدر ما يستطيع.
وليس هذا من واجب الإنسان لنفسه فحسب، بل إنه واجب عليه للأجيال الآتية أيضا. إنه إذا أخذ كل منا نفسه بإصلاح جسمه ومداركه وأخلاقه، ونسج أبناؤنا على هذا المنوال، كنا جديرين بأن نصل بفضل وراثة ما يرسخ من الصفات المكتسبة إلى مستوى قريب من الكمال.
والآن، وقد فرغنا من الكلام على الوراثة وآثارها، ومهمة الفرد والمربي حيالها، نرسل البحث إلى عامل آخر في تكوين الخلق وهو «البيئة»؛ حتى نرى مبلغ أثرها أيضا، وما هو واجبنا كأفراد ومربين نحوها. (3-2) البيئة (أ) تعريفها
تطلق هذه الكلمة بأوسع معانيها على كل ما يحيط بالمرء ويؤثر فيه كثيرا أو قليلا، بطريق مباشر أو غير مباشر، من يوم يكون جنينا إلى أن يموت، فالمنزل والمدرسة والرفاق، والسياحات والأسفار، والتقاليد والنظم والقوانين التي يخضع المرء لها، والإقليم الذي يعيش فيه، كل ذلك ونحوه من البيئة التي لها كبير الأثر في تكوين الإنسان. (ب) أنواعها
هذه العوامل التي تشملها كلمة «بيئة» إما طبيعية كالبلد الذي يحيا فيه الإنسان وما فيه من جبال ووديان وسهول وحزون وبحار وأنهار، كذلك ما قدر لهذا البلد من حرارة وبرودة، كل هذا من البيئة الطبيعية.
وهناك سائر العوامل الأخرى؛ من البطن الذي احتواه، والمنزل الذي درج فيه، والأسرة التي نشأ فيها، ومعاهد التعليم التي عنيت بتثقيفه، والرفاق الذين اصطفاهم لنفسه، كل هذا ونحوه ما يسمى بالبيئة الاجتماعية.
البيئة الطبيعية
للبيئة الطبيعية دخل كبير في أخذ كل من النباتات والحيوان شكلا خاصا يناسب الإقليم الذي نعيش فيه، نجد الجهات الباردة يتميز نباتها بالقصر والضئولة، وحيوانها بسمك الجلد ووفرة الفراء، وبجانب هذا نشاهد الأشجار والحيوانات الضخمة في الجهات الحارة، كما نعرف للحيوانات المائية جهازا للتنفس يخالف ما للحيوانات البرية بحيث يساعدها على استخلاص «الأكسجين» من الماء واستنشاقه.
وهناك مثل يكاد يلمسه كل منا يدلنا على فعل البيئة الطبيعية وأثرها، ذلك هو الفرق الكبير بين أي نوع من النبات - كالذرة أو القمح أو القطن مثلا - يزرع في غير الفصل الخاص به، وبين هذا النبات نفسه متى زرع في فصل زرعه المعتاد.
وكما يكون للبيئة الطبيعية أثر إيجابي يكون لها أثر سلبي، فهي قد تساعد شيئا من الصفات الموروثة الكامنة على الظهور، كما قد يكون أثرها تعطيل صفة من الصفات الفعلية بتفويتها الفرصة التي كانت تظهرها وتنميها. ولنا في تجربة أجراها الأستاذ «نجيلي»، أحد علماء النبات، دليل واضح على تأثيرها الإيجابي، ذلك أنه أخذ فسائل صغيرة من نباتات الألب وغرسها في «ميونخ» فكبر حجمها عن أصلها، ثم أخذ بعض هذه النباتات واستنبتها بجبال الألب ثانية فتضاءلت شيئا فشيئا حتى عادت سيرتها الأولى. كما نجد في عمى الخيل التي ظلت الأعوام العديدة تعمل في الظلام بالمناجم دليلا على تأثرها السلبي، فقد جاءها ذلك من البيئة التي اضطرتها لإهمال استخدام حاسة الإبصار فيها.
وأخيرا، فالباحث المدقق في مملكتي النبات والحيوان يرى أثر البيئة الطبيعية واضحا تماما، سواء أكان ذلك الأثر صغيرا أم كبيرا؛ إذ قانون البيئة وهو «تعديل الكائن الحي نفسه حسب ما يحيط به»، لا يكاد يقبل هوادة ولا استثناء، أو بتعبير آخر: إن نصيب من يعصي هذا القانون هو السقوط صريعا في معركة الحياة.
أثرها في الإنسان
وربما يخيل إلينا، وقد نظرنا للوراثة وآثارها في الإنسان، أنها العامل الوحيد فيما يرزقه المرء من صحة وسقم، وما يقدر له من قوة أو ضعف في الفكر، وما يشب عليه من عادات وأخلاق؛ لا، ليس الأمر كذلك، فللبيئة أثر غير قليل في هذا كله.
هذا ابن خلدون يحدثنا عن تأثير الأقاليم في السكان آثارا مختلفة، ويقول عن سكان الأقاليم المعتدلة: «إنهم أعدل أجساما وألوانا وأخلاقا»،
31
ولهذا كانت هذه الأقاليم كما يقول: «مهد الرسالة ومبعث الأنبياء، ذلك أن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكمل النوع الإنساني في خلقتهم وأخلاقهم»،
32
أما غير هؤلاء من سكان الأقاليم البعيدة عن الاعتدال فنراه يقول عنهم: «إنهم أبعد عن الاعتدال في جميع أحوالهم»،
33
كما نراه يتبع هذا الحكم العام بقوله: «وأخلاقهم مع ذلك قريبة من أخلاق الحيوانات العجم.»
34
ولنا في الفروق الملاحظة بين أهل مصر والحجاز والشام وفرنسا والعراق والمغرب ومن إليهم، وبين السودانيين والأحباش والأمم المغولية ومن والاهم؛ دليل واضح على ما يقول ابن خلدون من تأثير البيئة الطبيعية في الأجسام والعقول والعادات والأخلاق. ولننظر إلى أهل البلاد الحارة، نجد الكسل والتواكل والخفة والطيش وعدم الاكتراث، ونرى اليقظة والتفكير في المستقبل البعيد من الصفات الغالبة على سكان الأقاليم الباردة، والسبب في هذا أن الحرارة تبعث على الخمول وأن البرد يتطلب حركة مستمرة في كل آن.
البيئة الاجتماعية وآثارها (أ)
أول بيئة اجتماعية للطفل بطن أمه، حيث تتدرج بذرته الأولى من نطفة إلى علقة ثم إلى مضغة حتى تصير خلقا سويا، في هذه المرحلة لا يكون الجنين بنجوة من التأثيرات التي تتناول أمه. يقرر توماس هوب، أحد علماء الإنجليز في القرن السابع عشر، أن ما نشأ عليه من الجبن مأتاه ما تملك أمه وهي حامل به من الخوف حينما كان الأسطول الإسباني يهدد بلادهم.
35 (ب)
يجيء بعد ذلك دور المنزل في تكوين الإنسان، وفيه يفهم الطفل العلاقات الاجتماعية الأولى، فيعرف معنى الطاعة للكبير، والعطف على الصغير، واحترام رأي الغير، ومعاونة الضعيف، كما يأخذ الطفل فيه عن الأسرة تقاليدها وعاداتها.
لسنا غالين فيما نذكره عن أثر المنزل في الطفل، وما ينشأ عليه من عادات وخلال يكون لها الأثر في مستقبله، فالأم هي المنبع الأول الذي يشرب منه الوليد نهلا وعللا، وهي كما قال «بستالوتزي»:
36 «مصدر كل تربية صحيحة يتشكل بها الطفل، فهي أول معلم له يحبه ويطيعه»،
37
وكما يقول «فروبل»
38
تلميذه: «إن أزمة الممالك معقودة بنواصي الأمهات، ومستقبل البلاد رهن بأيدي النساء»،
39
وكما يقول شاعر النيل:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبا طيب الأعراق (ج)
وبعد هذا تكون المدرسة، وهي الحلقة التي تربط المنزل بالعالم، فهي مجتمع صغير يصح أن يكون أنموذجا لما بعده من المجتمع العام. تقوم المدرسة بدور هام لا يقوم به المنزل في تربية الناشئ أدبيا، ذلك أن العلاقة بين الطفل ووالديه في المنزل تقوم على المحبة والرحمة، وهذا ما يجر كثيرا إلى الإغضاء عما يقترفه الطفل من مخالفات خلقية، أما في المدرسة فالمعاملات فيها تكون حسب ما رسمه الله في قوله:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ، فيها تبصير الطفل بما يأتيه ومحاسبته على كل ما يصدر منه، وبذلك يفهم معنى المسئولية، ويخلص من كثير من الصفات السيئة التي قد تكون علقت به في حياته المنزلية التي للتسامح في مجال كبير.
كذلك المدرسة محل اجتماع كثير من الأولاد، والاجتماع مظهر السجايا، ومحك الأخلاق، وبذلك يقف المربي على أخلاق كل طفل، فيعمل على تهذيب الشاذ وإنماء الصالح منها. يضاف إلى هذا ما في الاجتماع من تنشئة الطفل على كثير من العادات والأخلاق الفاضلة، فالأناة والحلم، ومحبة الغير واحترام حقوقه، والتعاون وإنكار الذات وحسن العشرة ... كل هذه الفضائل وما إليها لا سبيل إلى غرسها إلا بالمعاشرة والاندماج في المجتمعات الرشيدة، ومنها معاهد التعليم. (د)
وللرفاق الذين يصطفيهم المرء لعشرته أثر بالغ فيما يشب عليه من ميول وعادات، وما يتخلق به من شيم وخلال، ومن هنا قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه: «ما من شيء أدل على شيء، ولا الدخان على النار، من الصاحب على الصاحب»،
40
كما قال بعض الحكماء: «اعرف أخاك بأخيه قبلك».
41
المرء في حاجة ماسة للصديق في حاليه من اليسر أو العسر، فيجب أن يعنى باختيار الصديق الفاضل والرفيق الصالح، فإن من طرق المرون على الفضيلة أن يعيش المرء مع أناس أخيار،
42
كما يقول أرسطو المعلم الأول، ويعترف به من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. أما الرفاق الذين لم يرزقوا حظا من الأخلاق الفاضلة والسجايا الكريمة فهم «مع عدم ثباتهم في محباتهم لا يتبادلون إلا سيئ الإحساسات»،
43
ولذلك «يفسد بعضهم بعضا بمقدار ما يقلد بعضهم بعضا»، وهذا رأي أرسطو أيضا في صداقة الأشرار، وهو رأي حق تؤيده المشاهدات، فإننا لن نجني العنب من الشوك، ولا الشهد من الصاب.
هذا، ويكفي لبيان أثر الرفاق الذين يصاحبهم المرء ويتخذهم خلانا ما قصه الله علينا في كتابه الكريم؛ إذ يقول:
ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا . ونتبع هذا ببيان أثر صديق الخير وصديق السوء في صديقه كما ذكره الرسول الحكيم
صلى الله عليه وسلم ، إذ يقول: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد؛ لا يعدمك من صاحب المسك إما أن تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك أو ثوبك أو تجد منه ريحا خبيثا.» (ه)
وللصحف والمجلات، ودور الخيالة والتمثيل، والتقاليد التي يحيا المرء في ظلها، والحكومة التي تسوس أموره، والقوانين التي يحكم بها، والنظم التي يخضع لها، وما يقوم به من سياحات وأسفار، وسائر النواحي الأخرى للبيئة الاجتماعية؛ لكل من ذلك أثره وخطره في تكوين عادات الإنسان وأخلاقه، وذلك ما لا يحتاج لبيان.
على أننا نود أن نبين أن الناس بالنسبة للتقاليد والعادات والنظم العامة التي تواضعت عليها الأمة، وتعدها جزءا من كيانها الاجتماعي، وتفديها لهذا بكل مرتخص وغال؛ الناس بالنسبة لتلك العادات والتقاليد ثلاث طوائف: (1)
طائفة ترى الفساد في بعض هذه التقاليد، فتخرج عليها وتثور ضدها، موطنة النفس على تحمل الأذى في هذا السبيل حتى تصل لما تريد من إصلاح. هؤلاء هم العباقرة الذين تفخر بهم الأمم، وأصدق مثال لهم الرسل والأنبياء، فقد كان من الصعاب التي اعترضت الرسول الأعظم
صلى الله عليه وسلم
تقاليد قومه الضالة، وترديدهم دائما قولهم:
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون . (2)
طائفة تنحط عن مستوى تلك التقاليد والنظم والعادات، فلا ترعى لها حرمة، ولا تعترف لها بوجود، فهم في نضال معها يصيبون منها وتصيب منهم، حتى يهووا إلى الحضيض. وهؤلاء هم في الحالات المتطرفة المجرمون. (3)
هاتان الطائفتان هما الأقل عددا، وبجانبهم الطائفة الأخرى، وهم الذين يخضعون للأمة وتقاليدها، فلا يعدلون منها إلا بمقدار. وهؤلاء هم العاديون الذين يتكون منهم معظم الأمم والشعوب. (ج) الموازنة بين البيئة والوراثة
غلا بعض العلماء وزعموا أن الوراثة هي يد القدر، وأن ليس للبيئة أمامها من أثر يذكر. كما غلا آخرون وقالوا: إن ما يشاهد من تكمل في الأخلاق ليس له أسباب وراثية مطلقا، وإن كل ذلك أثر البيئة.
من الأولين «شوبنهور» الفيلسوف الألماني الذي يقول: «كل امرئ يسير بطبيعته الذاتية الثابتة التي لا تتحور، وإن ما به من طباع وغرائز كامن في نفسه كمونا راسخا لا يتحول»، وغيره الذي يرى أنه «بالوراثة يقدر على الإنسان نوع نفسه من يوم ولادته، وبها تصاغ أخلاقه، وبها تحدد بنيته، وبها يعين مقدار عقله، وأهم ما يساعد على رقي النوع الإنساني هو إصلاح الوراثة بإصلاح الانتخاب بين الزوجين، ومنع التوالد بين من لا يصلحون للإنتاج طبيعيا أو خلقيا.»
هكذا ذهب هؤلاء، وربما وجدوا في الأبحاث الخاصة بالإجرام والمجرمين ما يعضد ما ذهبوا إليه، فقد عني الدكتور «هكسون»، مدير معهد الأبحاث النفسية بشيكاغو، بفحص أحوال وظروف نحو أربعين ألفا من المجرمين، وكانت النتيجة أنه وصل إلى أن عوامل الوراثة أشد أثرا من عوامل البيئة، فالإجرام في رأيه شيء محتم لمن ولد من أبوين مجرمين، لا لمن يعيش في بيئة مجرمة، فكثيرا ما ينجو هذا من ذلك الداء الوبيل. ومن الحالات التي بحثها حالة طفل تبناه أحد أغنياء شيكاغو وعلمه التعليم العالي وحاطه بكل صنوف الرعاية، ولكنه نشأ لصا كبيرا رغم البيئة الفاضلة التي نشأ فيها، وظهر أن الوراثة هي صاحبة اليد في هذا المصير، فقد كان أبوه سكيرا وأمه عاهرا.
أما الآخرون أنصار البيئة فيرون أن ما يشاهد من تكمل في الأخلاق ليست له أسباب وراثية مطلقا، وأن كل ذلك من أثر البيئة، وفي ذلك يقول أحدهم: «إن الطبيعة لا تكون من عندها أخلاقا وغرائز، بل ما قد يكون منها فهو طارئ عليها من الولادة»، إلى أن يقول: «وعليه يتعذر اعتبارها فطرية متوارثة.» وقد يشهد لهذا الفريق نجاح كثير من المربين في اجتناب الأخلاق القبيحة وغرس الأخلاق الفاضلة في حالات كثيرة نشاهدها في كل حين.
والرأي الحق أن نقول بإجمال: إن لهذين العاملين الأثر كله في تكوين عادات الإنسان وأخلاقه، فالوراثة تمده بالغرائز والميول والاستعدادات المختلفة، والبيئة تميل به لناحية الخير أو الشر بما تتيحه له من فرص ومناسبات، أما أن نوازن بينهما، فنعرف بالدقة أثر كل منهما في تكوين الإنسان أدبيا وعقليا، فهذا مستحيل أو على الأقل لم يصل إليه العلم للآن.
والآن، وقد فرغنا من الكلام على عوامل تكوين الخلق في الإنسان، وبينا موقف المربي حيالها، ننتقل إلى ما يعتبر نتيجة طبيعية لما سبقه، وهو طرق وأساليب تكوين الأخلاق. (4) أساليب تكوين الأخلاق
يقول ابن خلدون في مقدمته:
إن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من الحضر، وأصله أن الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه، فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقا وملكة وعادة، تنزل منزلة الطبيعة والجبلة.
44
ويقول الفيلسوف الإسلامي المعروف أبو علي ابن سينا البخاري (370-428ه):
ويمكن للإنسان متى لم يكن له خلق حاصل أن يحصله لنفسه، ومتى صدفت نفسه عن خلق حاصل جاز أن ينتقل بإرادته عن ذلك إلى ضد ذلك الخلق. والذي يحصل به الإنسان لنفسه الخلق ويكتسبه متى لم يكن له خلق، أو ينقل نفسه عن خلق صدفت نفسه عنه؛ هو العادة، وأعني بالعادة تكرير فعل الشيء الواحد مرارا كثيرة زمانا طويلا في أوقات متقاربة، فإن الخلق الجميل إنما يحصل عن العادة، وكذلك الخلق القبيح.
ويقول مسكويه في كتابه «تهذيب الأخلاق» كما قدمنا، عند كلامه على الحال النفسية التي تنقلب خلقا:
ومنها ما يكون مستفادا بالعادة والتدرب، وربما كان مبدؤه بالروية والفكر، ثم يستمر عليه أولا فأولا حتى يصير ملكة وخلقا، ويقول علماء التربية: «العادة طبع ثان.»
من ذلك كله نعلم ما للعادة من أثر في تكوين الأخلاق، الحسن منها والقبيح، فإن تعود العمل الطيب وأخذ النفس به يجعله في النهاية خلقا حسنا، كذلك تعود العمل القبيح، ومزاولته كثيرا يصيره خلقا سيئا.
وليس الآن موضع الكلام عن العادات وتكونها وخطرها، فموضع ذلك عند الكلام على السلوك، وإنما الكلام هنا عن الأساليب التي يسلكها المربون في تكوين الأخلاق، ومبلغ صلاحية كل منها ، بعد أن عرفنا قيمة العادة في هذا التكوين. (4-1) الوعظ والإرشاد
يرى بعض المربين أن تربية الأخلاق الفاضلة تكون بالوعظ والإرشاد، وتفهيم المربي حقيقة الفضيلة حتى يغرى بها، وحقيقة الرذيلة وسوء مغبتها حتى ينأى بنفسه عنها.
وهذه الوسيلة وإن صلحت وقومت من نفس من يأتي الرذيلة غير عالم، لا يمكن أن تكون الوسيلة الناجعة؛ لأن في كثرة الكلام عن الرذيلة أمام الأطفال تنبيها لهم إلى ما كانوا عنه غافلين في كثير من الأحوال، ودفعا لهم لتجربة هذا الذي ينهون عنه دائما، «وأحب شيء إلى الإنسان ما منعا»، كما أن كثرة الحث على الفضيلة حرية بأن تجعل من كثير من الأطفال مرائين يتظاهرون بالتأثر بالنصح والعمل بمقتضاه، هذا إلى ما في تكرار الإرشاد من تضييع أثره لأن كل مكرر مملول. (4-2) القدوة والتقليد
المربي هو المثل الأعلى للطفل، قصاراه أن يترسم عاداته ويتخلق بأخلاقه؛ ولذلك تنطبع أخلاق الطفل غالبا على غرار أخلاق والده ومربيه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر؛ لأن الأخلاق تسرق من الأخلاق كما يقولون.
من هذا يكون من طرق تكوين الأخلاق الطيبة العناية بأن يكون الوالد والمربي قدوة حسنة طيبة، في نفسه وعاداته وأخلاقه وسائر أعماله، للطفل الذي يقوم على تربيته، وخاصة أدواره الأولى؛ لأن المؤثرات المختلفة التي تساعد على تكوين أخلاق الطفل في فجر حياته تلازمه مدى الحياة، وذلك مصداق ما يقال: إنما يدل على الرجل الطفل، كما يدل على النهار الصبح.
وفي أثر القدوة الصالحة في تكوين الأخلاق الطيبة يقول أحد الكتاب الأوروبيين: «من رمى إلى النبوغ في التصوير لجأ إلى أبدع الصور فأخذ عنها، كذلك من رام حياة سعيدة فليختر خير من يقتدي بهم، وليكد حتى يكون قد ساواهم أو شآهم»،
45
كما يقول آخر من هؤلاء الكتاب محدثا عن أثر القدوة في تربيته أيضا: «أرى كثرة ما يقال في التربية وكأني بالباحثين فيها وقد أغفلوا القدوة وهي كل شيء، ألا إن أجل ما لقيت من التربية في الاقتداء بإخوتي، وقد كان الاعتماد على النفس والاستقلال الحق سائدين في كل فرد من أفراد أهل بيتي، فما زلت أحذو حذوهم حتى اكتسبت هذه الخصال.»
46
وحقيقة ، كما يقول صمويل سميلز في كتابه «الأخلاق»، إنه:
تقضي سنة الله في خلقه أن تكون العوامل في تكوين الخلق أشد تأثيرا في دور النمو، حتى إذا طال عليها الأمد وتوالت السنون انقلب الاقتداء بالناس عادة ترسخ شيئا فشيئا حتى تصير طبيعة تتمكن من المرء وتستولي عليه بقوتها، فينزل على حكمها ويخضع لسلطانها غير شاعر.
47
لكن القدوة لا تكون من الوسائل الناجحة في تكوين فاضل الأخلاق إذا ظل الطفل يعمل في رجولته كما كان يعمل في طفولته - عن محاكاة محضة وتقليد صرف - مثل هذه الأعمال ليست لها قيمة من الوجهة الخلقية، بل إن المراد من إشادتنا بفضل القوة الصالحة وأثرها الكبير هو أن هذه الأعمال التي يأتيها المرء في أدوار حياته الأولى بباعث إيحاء القدوة والتأثر تصبح عادة له، فيأتيها متى كبر وهو مدرك لها مميز خيرها وشرها.
وخلاصة القول: إنه بالقدوة والوعظ والإرشاد الحكيم، وقص سير كثير من أبطال التاريخ، كعمر بن الخطاب وما عرف به من شجاعة نادرة أبت عليه أن يتسلل لواذا مهاجرا للمدينة، وعدل شامل لا يستثني فيه أحدا، ومثل حاتم طيئ في بذله وكرمه الذي سار مع الريح، ونابليون بونابرت الذي لم يعرف العجز ولا المستحيل في حياته - بهذه الوسائل مجتمعة يستطيع المربي أن يغرس في الطفل ما يشاء من عادات طيبة، وأن يكون أخلاقه تكوينا فاضلا كما يريد.
المبحث الخامس
السلوك، المقصد، الباعث
(1) السلوك
تعريفه، علاقته بالخلق (1-1) تعريفه
يقال في اللغة: سلك أي دخل، ومنه قوله تعالى:
ما سلككم في سقر ، وسلكت الطريق سلوكا من باب قعد ذهبت فيه، وبنوع من التجوز - وهو اعتبار الأخلاقية طريقا يسار فيها - يكون هذا المعنى الثاني قريبا للمعنى الأخلاقي ل «كلمة السلوك»، فقد عرفه «سبنسر» في كتابه «مبادئ الأخلاق» بأنه «مجموعة الأعمال الحيوانية المتجهة نحو غاية»، وعلى هذا يشمل جميع أعمال الحيوان والإنسان؛ الإرادية التي لها غاية يقصدها الفاعل، وغير الإرادية التي وإن صح أن يقال عنها إن لها غاية إلا أنها غير مقصودة من الفاعل مطلقا.
وهذا التعريف العام كان موضع نقد العلامة «ماكنزي» في كتابه «الأخلاق»؛ لأنه يرى بحق أن الحيوان مسوق دائما بغرائزه وشهواته، لا يقصد غاية من أفعاله بل لا يفكر في غاية منها، وليس المراد من هذا نفي الغاية عن أفعال الحيوان الغريزية، بل المراد أنه وإن كان لهذه الأفعال غاية تعود على الحيوان كنفع يناله أو ضرر يدفع عنه، إلا أن تلك الغايات لا يشعر بها الحيوان ولا يفكر في شيء منها.
وكذلك أعمال المرء غير الإرادية لا تعتبر سلوكا له لخروجها عن نطاق تفكيره وإرادته. لم يبق بعد هذا إلا أعمال الإنسان الإرادية، فهي التي يصح أن تسمى في علم الأخلاق سلوكا يوصف مرة بالحسن وأخرى بالقبح، وإذن، فلنا أن نعرف السلوك ب «أنه أعمال المرء الإرادية المتجهة نحو غاية معينة مقصودة» كقول الصدق والكذب، وأعمال الشجاعة والجبن، والكرم والبخل، ونحوها.
والسلوك مظهر الخلق، ودليله ورمزه وعنوانه؛ لأن الخلق إذا كان حالة للنفس داعية لها إلى أفعالها، أي حالة نفسية باطنية، فإن السلوك هو الأفعال التي تصدر عن هذه الحالة الراسخة الكامنة في النفس. (1-2) علاقته بالخلق
من ذلك يتضح أن علاقة السلوك بالخلق هي علاقة الدال بالمدلول، فإذا كان السلوك حسنا دل ذلك على خلق حسن، وإن كان سيئا دل على خلق قبيح، ومن هذا التلازم بينهما نستطيع أن نتنبأ غالبا بأعمال المرء متى علمنا خلقه، كما نستطيع أن نعرف أخلاقه من أعماله، فإذا تكونت جماعة من محبي الخير لجمع التبرعات لمنكوبي الملاريا بأعلى الصعيد، يكون من السهل أن نتعجل القول بأن فلانا سيسارع للتبرع بقدر طاقته، وأن فلانا سيقبض يده فلا ينزل عن فلس واحد مما حباه الله به من غنى واسع عريض، نستطيع أن نتعجل القول بهذا لما نعلمه من تخلق الأول بخلق الكرم الذي يدعو للبذل عند دواعيه، وتخلق الآخر بخلق البخل الذي يجعله يشح بالقليل مع توفر دواعي الكرم والجود.
ولسنا نريد من تقريرنا أن بين الخلق والسلوك علاقة الدال بالمدلول، أن نقول: إن سلوك الإنسان يتوقف على خلقه فحسب، فالواقع أن السلوك يتوقف أيضا على الظروف والملابسات التي تحيط بالإنسان، من صحة أو مرض، وجاه أو ضعة، وصيت أو خمول، وغنى أو فقر، ونحو ذلك من الأحوال المختلفة، ألا ترى أن اللص يجد من ظلام الليل وهدوئه عونا له على أعمال التلصص والسرقة، بينما هذه الحالة نفسها تدفع الفيلسوف أو المخترع مثلا للتفكير فيما يعود بالخير على الإنسانية جمعاء!
كم منا من يتألم لمنظر الإنسانية المعذبة إذا زار ملجأ لليتامى أو مستشفى قصر العيني، وشاهد بنفسه ما يلقاه اليتيم من ذل وهوان، وما يحسه المريض الذي استعصى داؤه من وصب وعذاب، فيعزم عزما لا رجعة فيه أن يتبرع بجزء من دخله كل شهر رغبة في تخفيف بؤس هؤلاء المنكوبين، حتى إذا رجع لمنزله ومضى شهر فآخر، وغاب عن عينيه منظر أولئك البائسين، نسي بؤسهم وأمراضهم ولم يجد بعد ما يدفعه للنزول عن شيء من ثروته لهم! (1-3) نشأته وتطوره
لقد تدرج السلوك الإنساني في مدارج مختلفة، كان المرء في عهده الأول الهمجي ينساق بغرائزه في أعماله وسلوكه كما ينساق بها الطفل دائما، ثم تدرج به الزمن فصار سلوكه يتشكل حسب عرف القبيلة التي يعيش فيها؛ يفعل ما وافقه ويذر ما خالفه، وجرى على ذلك حتى صارت تلك الأفعال التي يقوم بها عن تقليد ومحاكاة، متأثرا بعرف القبيلة وتقاليدها، عادة له يأتيها دون نظر لنفسه كفرد مستقل له شخصيته الخاصة، بل كجزء لا يتجزأ من قبيلته، يعمل ما يتفق ومصلحتها وخيرها ولو ضحى في ذلك بنفسه.
وعرف القبيلة الخاص لا يبقى على حالة واحدة، بل يتغير ويزيد وينقص بسبب اتصال القبائل ببعضها في أيام السلم والحرب، للتجارة وتبادل المنافع وغير ذلك من أسباب التعارف والاتصال، فتأخذ كل قبيلة من تقاليد الأخرى ما يروقها ويتفق مع ظروفها وحاجتها، ومن أجل هذا يعم العرف شيئا فشيئا بتطبيقه على غير قبيلة واحدة، إلى أن يأخذ بعض ذوي العقول المفكرة في هذه القبائل في بحث الفروق بين تقاليدها وعاداتها المختلفة، واختيار أفضلها بعد تهذيبها إذا دعت الحال والحاجة؛ ليكون عرفا عاما لهذه القبائل كلها، وبذلك يأخذ هذا النوع من العرف العام صيغة القانون.
يجيء بعد ذلك دور القانون الذي يرتكن على كثير من العرف والتقاليد، فيخضع له الإنسان في سلوكه وأعماله كما كان يخضع للعرف. ونشأة القانون عن العرف ترجع إلى العمل لحماية المجتمع من الفوضى بسن عقوبات رادعة للمجرمين، وكانت هذه العقوبات عرفية أول الأمر، ثم أخذت شكل القانون وصيغته حين أصبحت عامة تطبق في جميع الأحوال، وعلى القبائل المجتمعة التي تعيش كأمة واحدة.
وأخيرا، وصل الإنسان بالرقي الفكري إلى الدور الأخير الذي أصبح يسير فيه على حسب ما يوحي به إليه البحث والنظر السليم، غير مقيد في أعماله بالعرف ولا بالقانون، بل يسترشد فيه بالقاعدة والمبدأ النظري المثالي «المثل الأعلى»، الذي يرى الخير المطلق في تحققه. على أنه ليس معنى هذا أن الغرائز زال تأثيرها في السلوك في الأدوار الأخيرة، بل الغرض أن نقول: إن الإنسان في الدور الأول كان يسير تقريبا طبق ميوله الغريزية وحدها، فأصبح بعده يعيش بغرائزه وعقله وتفكيره، ذلك بأن الغرائز لا يزال لها أثرها في سلوك المرء دائما، ولعل من أبرزها أثرا غريزة المحاكاة والتقليد.
من ذلك نرى أن سلوك الإنسان يتأثر بعوامل مختلفة، منها الغرائز التي يولد مزودا بها وتهيمن عليه في أيامه الأولى، والعادات التي ينشأ عليها متأثرا بالعرف حينا وبالقانون حينا آخر.
والغريزة والعادة أهم مصادر السلوك النفسية التي ينبع منها والتي يسمى مجموعها «أسس السلوك»، ولا بد للمربي الأخلاقي من دراسة هذه الأسس حتى يتسنى له استئصال ما يريد من أخلاق قبيحة، وتثبيت ما يجب من أخلاق طيبة، فإنك مهما ألححت على امرئ بترك الحقد والحسد مثلا، وأمرته بذلك مرارا من غير التفات منك لحالته النفسية التي تصدر عنها هاتان الرذيلتان، ما كان لقولك وإلحاحك من أثر، إنما سبيل الفائدة هو أن تتعرف أولا السبب الداخلي النفسي الذي من أجله يحقد ويحسد، ثم معالجته بما يجب ثانيا.
ولما كانت الغريزة والعادة - كما قدمنا - أهم أسس السلوك وينابيع الأخلاق، ناسب أن نذكر كلمة قصيرة عن كل منهما: (1)
الغرائز قوى فطرية أودعها الله جسم الإنسان، فتدفعه إلى المحافظة على بقائه وبقاء سلالته، من غير سابق تفكير في هذه الغايات أو تدريب على ما يوصل إليها من أعمال.
وهي أساس كثير من الأعمال التي نأتيها كل يوم، فأعمال السعي للقوت، والأكل والشرب، والفرار من الأخطار، والأثرة وحب النفس وما إليها، مردها عند التحليل إلى غريزة المحافظة على البقاء أو غريزة حب الذات. كما أن غريزة حفظ النوع، أو بقاء السلالة، منبع لسلوك المرء أيضا وخاصة أيام الشباب؛ من جد في الدرس، وعمل على نيل الدرجات العلمية والمراكز السامية، وبحث عن شريكة لحياته، وميل إلى الادخار والإثراء ليضمن هناءة أولاده، إلى غير ذلك من الأعمال التي تجيء تلبية لداعي هذه الغريزة.
وإذا كانت الغرائز بهذه المثابة في تكوين الأخلاق، فمن الواجب العناية بها وعدم إهمالها وتركها على طبيعتها، بل يجب أن تربى وتهذب وذلك بتشجيعها إذا بعثت على عمل طيب، والحد منها بل وكبتها في الحالات الأخرى. (2)
وإذا تكرر عمل من الأعمال حتى أصبح من السهل على المرء إتيانه، سمي عادة، فالفرق بينها وبين الغريزة أن هذه قوة طبيعية تخلق مع المرء، ثم تنمو أو تضعف حسب الظروف والأحوال. أما العادة فتكتسب اكتسابا، ومن أجل ذلك نرى أن الغرائز شائعة بيننا جميعا، بينما لكل منا عاداته الخاصة التي كسبها لنفسه.
ومنشأ العادة الميل إلى عمل معين، ثم إجابة هذا الميل بإصدار العمل المرغوب، مع تكرار ذلك كله تكرارا كافيا لجعله يصدر بسهولة، وذلك أن كل عمل يؤثر في الأعصاب ويأخذ فيها مجرى خاصا، وبتكرار العمل الواحد يعمق الأثر الذي اختطه في الأعصاب وتميل النفس للإتيان به، وترتاح الأعصاب له لاتفاقه مع الشكل الذي تشكلت به، وهكذا حتى يصير العمل مألوفا للنفس معتادا لها، تهش لعمله ويصدر عنها بسهولة ويسر لا أثر فيه للتكلف، فيصبح عادة فخلقا.
ومن هذا يتضح أن من أهم خصائص العادة تسهيل العمل المعتاد، ومن أوضح المثل لذلك المشي والكلام، فكل منهما في أول الأمر شاق على الطفل غاية المشقة، ولا يزال الطفل يتمرن عليه حتى يصير أمرا معتادا سهلا لا كلفة فيه.
وإذا عرفنا كيف تتكون عادة من العادات الطيبة، أمكن أن نعرف كيف نتخلص من عادة رديئة، وذلك يكون بعدم الترحيب بالميل غير المرغوب فيه، وعدم إجابة هذا الميل - حتى ولو كان شديدا قويا - بإصدار العمل، وبذلك تموت هذه العادة بإهمالها.
هذا من وجهة التربية والأخلاق، وإلا فقد يكون من الخير للمرء الذي يعرف من نفسه مضاء العزيمة، إذا أراد أن يترك عادة مذمومة، أن يتخلى عنها مرة واحدة، ثم يتحمل مشقة ذلك مدة من الزمن محدودة تنتهي بالتحرر منها، وفي الحديث: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى». أما من يخاف الخور في العزيمة، فمن البصر وسداد الرأي أن يأخذ نفسه بالتدريج، حتى لا يؤدي ضعف عزيمته عن إنفاذ ما ليس في مقدوره إلى توهينها وإضعافها عن إتيان السهل من الأمور.
وهذا هو السر في أن الله - جلت قدرته وحكمته - حرم الخمر على ثلاث مراتب، ولم يحرمها مرة واحدة. (2) المقصد (2-1) تعريفه
المقصد في اللغة: المطلوب، قصدت الشيء وله وإليه قصدا من باب ضرب: طلبته بعينه، وإليه قصدي ومقصدي. وفي «القاموس»: القصد: استقامة الطريق والأم، فالقصد «مجرد اتجاه النفس نحو أمر من الأمور»، أما المقصد فهو «كل ما تتجه إرادة الإنسان لتحصيله»، وهو ما نعنى بالكلام عنه الآن؛ لأنه متعلق الحكم الخلقي، فيوصف آنا بالحسن وآنا بالقبح.
بهذا التعريف يشمل المقصد نتائج أعمالنا وإن كان بعضها غير مرغوب فيه، أو غير متيقن الوقوع، فقائد الغواصة مثلا إذا أمر بإطلاق قذائفها على باخرة للأعداء فدمرتها وأغرقت ربانها وبحارتها، يكون مسئولا أخلاقيا عن هذا العمل، وليس له أن يتعلل بأنه لم يكن يرغب هلاك البحارة بل كان باعثه إضعاف العدو، فحسبه أن ذلك كان له مقصدا اتجهت إليه إرادته .
لكن هذا التعريف لا يتناول الظواهر الكونية التي تقع وفق القوانين الطبيعية، ولا دخل لإرادة الإنسان ولا لقصده فيها، فاتصال النار بدار فلان وإحراقها ليس من متعلق الأحكام الخلقية، فهو وإن صح وصفه بالضر بالنسبة لنتيجته، لا يصح وصفه بالقبح لأن إرادة المرء لم تتجه إليه. أما لو تعمد شخص وضع النار في هذه الدار، فإنه يكون مسئولا أخلاقيا، ويوصف عمله بالشرية؛ لأن إرادته تداخلت فكان الإحراق مقصودا. (2-2) أقسامه
من الأمثلة التي سنذكرها نعلم أن المقصد ينقسم إلى أقسام متعددة، تبعا لاعتبارات مختلفة:
أولا: «يكون خارجيا وداخليا»، فإن العمل الذي يأتيه المرء قد تكون له نتيجة خارجية لا يلقي لها بالا، وأخرى وجدانية داخلية هي التي فعل الفعل لأجلها، وذلك كالذي أنقذ الحجاج مرة من الغرق، فلما ليم في إنجائه وعدم تركه للموت فيستريح الناس من شره، قال: أردت أن أحول بينه وبين الموت شهيدا! فإنجاؤه مقصد خارجي ظاهري، والحيلولة بينه وبين ميتة الشهداء، وهو ما يرضي نفس المنقذ ووجدانه، مقصد داخلي وجداني. ومثل ذلك أيضا الرجل يتصدق على فقير يعذبه الجوع بما يدفع عنه غائلته، يقصد من ذلك أن يبعد عن نفسه الألم برؤيته بائسا مسكينا يعضه الجوع بنابه، فهذا مقصد داخلي وجداني، وبجانبه آخر خارجي، هو شبع الفقير ورد عادية الجوع عنه.
ثانيا: «يكون قريبا وبعيدا»، كما لو شوهد مجرم أثيم يطلق النار على رجل بريء من اثنين أحدهما قريب المجرم والآخر ولي المقتول، وحين استجوابهما من رجال القضاء أنكرا أن يكونا شاهدا القاتل أو عرفاه. فكل منهما قصد تخليصه من المحاكمة، وهذا مقصد قريب تحققا، إلا أن لولي المقتول مقصدا آخر بعيدا هو تمكنه من أخذ ثأره بنفسه منه، ففي ذلك وحده في رأيه إرواء عاطفة الانتقام. ونحو هذا لو رأينا قاتلا يساق لساحة الإعدام جزاء بما قدمت يداه، ويتبعه والد المقتول ينتظر الساعة التي يبرد فيها من لوعته برؤية القاتل بين يدي الجلاد، فيعترض المجرم خطر يهدد حياته فيسرع كثير لإنقاذه ومنهم الوالد الثاكل، كل من هؤلاء قصد إنقاذه، وهذا مقصد قريب تحققه، ولكن لهذا الوالد المحزون مقصد آخر بعيد، وهو سلامته من هذا الخطر المفاجئ ليموت مشنوقا، وفي ذلك سرور الوالد المسكين.
وقد يقال: إنه بمقارنة هذا النوع بسابقه يكون المقصد البعيد هو الداخلي دائما. وهذا غير صحيح؛ لأنه إن كان الأمر كذلك في هذه الأمثلة فقد لا يكون دائما، كرجل أخذ نفسه بضروب العبادة لتهذيب نفسه وليفوز برضوان الله وجنته، فتهذيب النفس مقصد داخلي وجداني، وهو هنا القريب تحققا ووجودا، والثواب الأخروي هو المقصد الخارجي وإن كان بعيدا في وجوده.
ثالثا: «يكون أصليا وتبعيا»، وذلك كما أراد رجل فوضوي قتل حاكم فاعتزم نسف ندي علم أنه سيحضر فيه، وهو يعلم أن القنبلة ستميت كثيرا من الأبرياء، ولكنه يقصد هذا كما يقصد قتل الحاكم أيضا، إلا أن قتل الحاكم مقصود أصالة وقتل أولئك مقصود تبعا. ونستطيع أن نمثل لذلك أيضا باجتهاد أحزاب المعارضة في التنقيب عن سقطات الوزارة التي تكون قائمة بالحكم، والكشف عن مساوئها، تقصد من ذلك تقويم المعوج منها، إلا أن هذا مقصد تبعي لها، والمقصد الأصلي هو الفوز بالحكم بعد تأليب الناس عليها وإسقاطها.
ومن هذا نعرف المقصد الأصلي بما اتجهت إليه الإرادة أولا، والتبعي بما جاء تبعا له، وقد يسمى المقصد الأصلي مقصدا مباشرا، والتبعي مقصدا غير مباشر.
رابعا: «يكون شعوريا وغير شعوري»، فالشعوري ما يقصده المرء وهو متنبه له أكمل التنبه شاعر به تمام الشعور، والآخر ما يندفع إلى تحقيقه على غير شعور به ولا تنبه له، كهؤلاء العلماء الذين يقفون حياتهم وجهودهم في الاكتشافات العلمية الطبية التي تنجي العالم من كثير من الأدواء وتزيد في سعادته، فلو أنك سألت أحدهم عن غايته من أعماله ومقصده منها، لما أجابك إلا بأنه يقصد خير الإنسانية، مع أن له بجانب هذا مقصدا آخر هو ذيوع شهرته وخلود اسمه، إلا أن المقصد الأول متنبه إليه شاعر به، والثاني منساق إليه بغير تنبه ولا شعور، بمعنى أن الشهرة وذيوع الاسم وخلوده وإن كانت أمورا مقصودة لكنه لا يشعر بأنها مقاصد ولا يتنبه لها؛ لأن مقرها العقل الباطن، فهو يسعى إليها ويحققها بدون شعور منه.
خامسا: «يكون ماديا ومعنويا»، ويقصد بالمادي غاية جزئية خاصة، وبالمعنوي مبدأ عام يراد تحقيقه، وذلك كما إذا تقدم رجل يرشح نفسه للنيابة، فقام في وجهه جماعة يسعون لسقوطه لرجعيته، وآخرون يبغون إسقاطه أيضا ولكن لعدم تدينه مثلا أو رغبة في نجاح مرشح آخر لهم، فالمقصد المادي لجميع المناوئين واحد وهو عدم نجاحه، إلا أن لهذا المقصد معنى عند هذا الفريق غيره لدى الفريق الآخر، وذلك المعنى عند الفريق الأول عدم نجاح رجل رجعي في آرائه ومبادئه، وعند الفريق الثاني عدم نجاح رجل غير متدين، أو مساعدة لمرشح آخر، وإن كانت الغاية المادية واحدة عند كلا الفريقين وهي سقوط ذلك المرشح في الانتخاب.
وبإعدام الحكومة للقاتل يتحقق المقصدان؛ المادي وهو قتل الجاني القاتل، والمعنوي وهو تحقيق مبدأ «القصاص حياة.»
ومن هذه الظواهر والأقسام للمقصد يتبين لنا أنها مع اختلافها وتعددها يجمع بينها أمر مشترك هو التوجه لتحقيقها، وبذلك يظهر معنى تعريفنا السابق له، وهو أنه «كل ما تتجه إليه الإرادة لتحصيله.» (3) الباعث (3-1) معناه
يرى الحكماء أن من العلة ما يسمى «علة فاعلية»، وهي الأمر المؤثر في وجود الشيء، وذلك كتأثير عمل الأعصاب، واليد في حركة الأخذ والعطاء، وكصانع الكرسي بالنسبة له. ومنها ما يسمى «علة غائية»، وهي الأمر الذي لأجله قام الفاعل بالفعل، أو بتعبير آخر قد يكون أقرب للاصطلاح: هي الأمر المؤثر في فاعلية الفاعل للشيء، كالتأديب في ضرب الوالد لابنه، والرغبة في تخليد ذكرى عظيم في إقامة تمثال له.
على هذا النحو نتكلم في «الباعث» فنقول: إن منه باعثا دافعا، وهو ما يساوي العلة الفاعلية، وباعثا غائيا، وهو ما يساوي العلة الغائية، فإذا حركتك الشفقة إلى مد يد المساعدة لطفل ينتفض من البرد فكسوته ثوبا، كانت الشفقة هي الباعث الدافع، ودفع البرد عنه هو الباعث الغائي، والأخلاقي إنما يعنى ببحث الثاني دون الأول.
لا يحتاج دارس الأخلاق إلى بحث الباعث الدافع؛ لأنه إما أن يتسيطر على المرء ويسلبه إرادته ويدفعه للعمل دفعا، وحينئذ لا يكون هذا العمل محلا للحكم الأخلاقي؛ لأن متعلقه الأعمال الصادرة عن وعي وتفكير وإرادة، فمن ملكه الغضب مثلا حتى أعماه عن القصد وأخرجه عن الوعي، ودفعه لما لا يليق من قول أو فعل، يكون مسئولا أخلاقيا لو كان في مكنته الحيطة قبل الغضب الذي سلبه تفكيره، كما قدمنا عند الكلام على موضوع علم الأخلاق، هذا إذا كان الباعث الدافع مسيطرا بهذه المثابة. أما إذا لم يقو على هذا النحو، وكان للمرء معه قدر من التفكير في إصدار الفعل أو عدم إصداره، فلا يكون هو وحده حينئذ الذي دفع العمل، وقصاراه أن يجعل المرء أكثر استعدادا للعمل من غيره، أو بعبارة أخرى: يكون جزءا من الباعث لا الباعث كاملا.
وإذا كان الباعث بين حالتين لا يعدوهما، إحداهما تخرج صاحبه عن المسئولية فلا يكون العمل محلا للحكم الأخلاقي، والأخرى لا يكون فيها قويا فيكفي وحده للحمل على العمل، فلا حاجة إذن بدارس الأخلاق لبحثه، وإنما حاجته ماسة لبحث النوع الثاني وهو الباعث الغائي حتى يصدر حكمه عن بينة، بعد تعرف غايات الفاعل وبواعثه، التي هي مناط الحكم الأخلاقي.
والآن، بعد أن وضح معنى الباعث بنوعيه، نتكلم عن العلاقة بينه وبين المقصد؛ لنتبين ما يصلح منه أن يكون باعثا. (3-2) العلاقة بين المقصد والباعث
ومن السهل أن نقرر بعد أن علمنا أن المقصد هو ما تتجه الإرادة لتحصيله، وأن الباعث الغائي هو الغاية التي تجذب المرء لعمل معين؛ أن كل باعث بهذا المعنى يكون مقصودا؛ لأن كل ما جذب الإنسان لعمل خاص يكون دائما شيئا يراد تحصيله، ولكن إذا صح أن نقول: إن كل باعث مقصد، هل لنا أن نقول أيضا: إن كل مقصد باعث؟
قبل أن نجيب على هذا السؤال، نتروى فنرى أننا نقصد كثيرا من نتائج أعمالنا الحتمية، ولكن لا نعتبرها غاياتنا التي جذبتنا إلى هذه الأعمال وقمنا بها لأجلها.
هذا سعد باشا زغلول وصحبه حين دعوا الأمة للثورة على الإنجليز عام 1919 كانوا يعرفون من نتائجها المحتومة ما كان من قتل ونفي وتشريد ، وكانوا يقصدون هذا طبعا، غير أنه لم يكن غايتهم من دعوتهم للثورة، بل كانت الغاية الحصول على استقلال مصر وتحريرها. ومثال آخر: نحن نطعم أولادنا ضد كثير من الأمراض، ونعرف بل ونقصد ما يكون وراء ذلك من ألم وورم في الأذرع، ولكن لا نجعل ذلك غايتنا، بل هي إكسابهم المناعة ضد الأمراض التي لقحناهم بالمصل المضاد لها.
وإذن، من الحق أن نقرر أن ليس كل مقصد باعثا دائما. على أن هناك من الأحوال ما يكون فيها المقصد هو الباعث، فإنا لو رجعنا إلى ما ذكرناه في الكلام عن تقسيم المقصد، لتبين لنا أن الباعث يشمل الجانب الكبير من المقصد البعيد دون القريب، وأنه يشمل المقصد الأصلي دون التبعي، وأنه في الغالب يشمل المعنوي لا المادي، كما أنه قد يكون داخليا كما يكون خارجيا، ومن أجل ذلك تكون النسبة بين الباعث والمقصد العموم والخصوص المطلق، يجتمعان في حالة، وينفرد الأعم. (3-3) ما يكون باعثا
وإذا كان الباعث الغائي هو محل عناية دارس علم الأخلاق، فقد اختلف علماء الأخلاق فيما يكون باعثا، أو بتعبير آخر: في الغاية التي تسيطر على جميع الغايات وتبعث الإنسان للعمل؛ أهي اللذة كما قال بذلك قوم، أو المشاعر الوجدانية لذة أو غيرها كما قال به آخرون، أو العقل وحده كما نادى به سقراط؟ وكان من هذا الخلاف مذاهب مختلفة:
الأول: «الباعث هو اللذة»، أي أننا لا نعمل عملا إلا لنيل لذة أو للتخلص من ألم، فالحصول على اللذة والفرار من الألم هو الغاية القصوى التي تقودنا إلى ما نأتي ونذر من أعمال.
ومن أشهر القائلين بذلك من المحدثين اثنان: أحدهما بنتام
Bentham
1
الفيلسوف الإنجليزي الذي يرى أنه قد وضعت الفطرة الإنسانية تحت حكم اللذة والألم، فنحن مدينون لهما بأفكارنا، وإليهما ترجع جميع أحكامنا وجميع مقاصدنا في الحياة، ومن يدعي أنه أخرج نفسه من حكمها لا يدري ما يقول، فإن غرضه الوحيد طلب اللذة والهرب من الألم في اللحظة التي يرفض فيها أعظم اللذائذ ويقبل أشد الآلام، وهذه المشاعر الأبدية التي لا تقاوم ينبغي أن تكون الموضوع المهم لدراسة الأخلاقي والمقنن، ومبدأ المنفعة يخضع كل شيء لهذين الباعثين.
والآخر هو ستيوارت مل
Stuart Mill
2
الذي يقرر بأن النوع الإنساني لا يميل لشيء لذاته إلا ما كان لذيذا عنده أو ما كان فقده مؤلما، وأن من المسائل الواقعة المجربة أن الميل إلى شيء ورؤيته لذيذا، والنفور من شيء واعتباره مؤلما، ظاهرتان متلازمتان، أو بالحري جزءان من ظاهرة واحدة.
وقد اعترض على هذا المذهب باعتراضات، منها أنه لو كان الباعث لنا على أعمالنا هو اللذة كما يقولون، لكان الاندفاع إليها والإلحاح في طلبها مما يزيدها قوة وتحققا، غير أن الأمر بالعكس، فإن ذلك مما يفوتها ويذهب بها. ولنتخذ مثلا لذة شهود رواية تمثيلية، فإن المرء لا ينعم بها إلا إذا استغرق في التمثيل، وشارك الممثلين في عواطفهم، وتلهى عن تذكر ما فيه من لذة، أما لو حصر فكره في اللذة وطلبها فإنها تضيع عليه، وكذلك لذات الفكر والدرس والمطالعة ونحوها من اللذات المعنوية.
الثاني: «الباعث هو المشاعر الوجدانية لذة أو غيرها»، فكل عمل له باعثه وهو الشعور الوجداني الذي يثير ميلا إليه، وهذا الشعور قد يكون لذة أو ألما أو حقدا أو حسدا أو غيرها. وأشهر القائلين بذلك هو دافيد هيوم
David Hume
3
فقد كان يرى أن ما يبعث إلى العمل هو المشاعر والعواطف الوجدانية المختلفة، وليس للعقل أثر في ذلك، وكل أثره هو توجيه هذه المشاعر إلى الوجهة التي تصل بهذا لما تريد، فالمرء يتجه للعمل ببواعث من وجدانه فقط، والعقل ينير له الطريق الذي يصل لما يشتهيه بالسير فيه، وبذلك يكون العقل خادما لهذه الميول الوجدانية لا عمل له إلا هذا، حتى لقد ذهب «هيوم» إلى أن العقل ليس إلا خادما للمشاعر، ولا ينبغي أن يكون إلا كذلك، ولا يمكن أن يدعى غير خادمها المطيع.
والذي دفع «هيوم» للقول بأن العقل لا يوجه أعمال الإنسان ولا يبعث عليها ، هو فلسفته التجريبية والشكية، هذه الفلسفة التي كانت تقوم على أنه لا سبيل للمعرفة إلا الحواس الظاهرة والباطنة؛ الأولى بما تمدنا به من معارف عن الأشياء التي تقع عليها، والأخرى بالإصغاء إلى بواطن نفوسنا والتأمل فيما يكون منها.
وبالرجوع إلى المقدمات النفسية، التي ذكرنا عند الكلام في تعريف الخلق، يتبين أن الميول التي يرى «هيوم» أنها الباعثة على الأعمال، لا بد أن يكون كل منها تابعا لعالم خاص يعيش فيه، وهذه العوالم منها ما هو عقلي كما منها ما هو وجداني، وإذن فمن الميول أيضا ميول عقلية، أي ليست كلها وجدانية وعاطفية فقط، وعلى هذا فنحن نسلم أن المشاعر الوجدانية تكون باعثة على العمل، لكن لا على سبيل الدوام؛ لأن العقل يكون باعثا في كثير من الأحيان.
الثالث: «الباعث على العمل هو العقل وحده»، وهذا المذهب مقابل لسابقه؛ لأنه ينكر أن تكون المشاعر الوجدانية من دواعي الأعمال وبواعثها، ويقرر أن العقل هو الباعث الوحيد.
ورأس الذاهبين هذا المذهب هو «سقراط» الذي دحض ما ذهب إليه جماعة السوفسطائيين في فلسفتهم
4
من أن الحواس هي السبيل الوحيد للمعلومات التي تصل للذهن، وبما أن هذا الإدراك الحسي أي الناشئ عن الحواس هو أساس المعلومات جميعا في رأيهم وهو يختلف باختلاف الأشخاص؛ كانت المعلومات التي تجيئنا عن حقائق الأشياء بوساطته مختلفة كذلك وغير ثابتة.
هذا هو ملخص ما يراه السوفسطائيون في حقائق الأشياء، وهو رأي مخالف لما كان عليه الفلاسفة قبلهم من التفرقة بين ما يدرك بالحواس الخادعة الغاشة في بعض الأحيان - وقد يظن المرء السراب ماء، والظل ساكنا، والشمس متحركة حول الأرض، وليس ذلك صحيحا، وقد يتراءى النبات الشديد الخضرة أسود، وليس به - وبين ما يدرك بالعقل الذي هو الوسيلة الصحيحة لإدراك الحقائق العامة الكلية.
ومن هنا كانوا يفرقون بين ما يدركه المرء من الشيء وبين حقيقة الشيء الخارجية، حتى جاء السوفسطائيون فأنكروا كل هذا زاعمين أن ليس للأشياء وجود خارجي مستقل عما يتمثل في الذهن بواسطة الحواس، وبعبارة أخرى: زاعمين أن ليس هناك فرق بين الوجود الذهني والوجود الخارجي؛ ولذلك كان من تعاليمهم أن ما أراه حقيقة فهو كذلك بالنسبة لي، وما يراه الآخر حقا فهو كذلك بالنسبة له، وهكذا دواليك.
وعذرهم في هذا الزعم الخاطئ أن المعلومات لا طريق لها إلينا إلا الحواس، وهي تختلف في هذا عن ذاك فيكون إدراكها لذلك مختلفا، وإذن فلا يصح أن نعتمد عليها لإثبات أن هناك في الواقع حقائق خارجية غير ما تمثله لنا هذه الحواس، ناسين أو متناسين عمل العقل في المدركات الجزئية الشبيهة بالمواد الخام التي تصله عن الحواس.
وقد بنى أشياعهم الذين أتوا بعدهم على هذه النظرية الضالة - نظرية عدم ثبوت حقائق خارجية للأشياء بل ما يدركه المرء هو حق بالنسبة له - مذهبا هداما في الأخلاق هو مذهب اللذة الشخصية الذي يقرر أن الخير الأخلاقي ما يجده كل امرئ خيرا بالنسبة له، أي ما ينتج لذة شخصية له، وعلى الآخرين العفاء.
استمر الحال كذلك فيما يختص بحقائق الأشياء الداخلية والخارجية حتى جاء سقراط، فكان من الرسالة التي اضطلع بها دحض هذه الفلسفة الخاطئة، وبيان أن سبيل المعرفة هو العقل وحده؛ لأن الحواس لا توصل إلينا إلا مدركات جزئية لكل منها صفاتها الخاصة، كإنسان وفرس مثلا، وهنا يجيء دور العقل بالجمع بين الصفات المشتركة في جميع أفراد النوع الإنساني وإبعاد الصفات العارضة المنفردة غير المطردة، فيكون من ذلك المدركات الكلية التي هي مهايا الأشياء، وهي التي تسمى معرفة.
وبما أن العقل مشترك وعام لدى جميع الناس، كانت حقائق الأشياء ثابتة غير مختلفة؛ لأننا نعلمها جميعا عن طريق واحد وهو الذي لا يختلف إدراكه في شخص عن آخر. وكان سقراط يقول بعد هذا: إنه لا فضيلة إلا المعرفة ولا رذيلة إلا الجهل، وإن الإنسان لا يستطيع عمل الخير ما لم يعلم الخير، ومعرفة أن هذا الشيء خير عقلا هي الباعث لنا على إتيانه فعلا، وأن المرء لا يأتي الشر وهو عالم به؛ لأن كل إنسان يحب الخير لنفسه كما يكره الشر لها، فمن المستحيل إذن أن يأتي ما يضرها وهو عالم بضرره، وليس عثار إرادة المرء أو خطؤها بالوقوع في الإثم الأخلاقي إلا ضلال العقل نفسه.
5
غير أن سقراط وإن أصاب في أن أساس المعرفة الفضيلة فلا يكون المرء فاضلا حتى يقصد الخير ويأتيه وهو عالم به، قد أخطأ في زعمه أن معرفة الخير تبعث على عمله، ومعرفة الشر تباعد بين المرء وبينه لا محالة.
ويكفي لرد هذا الرأي أن نسوق بعض ما ذكره العلامة «سانتهلير» في هذا المعنى حين يقول في مقدمة لترجمة كتاب الأخلاق لأرسطو:
ليس ما يقع الإنسان فيه من الإثم ناشئا عن خطأ في الموازنة بين اللذة الحاضرة والآلام المستقبلة التي هي أكبر منها كما يعتقد سقراط، ولا ناشئا عن جهل بطبائع الأشياء، إنما منشؤه فساد في الخلق يحمل الإنسان على تفضيل الشر على الخير وهو عالم بهما وبكليهما جميعا، فإن الشرير لا يجهل البتة ما يفعل من سوء، بل هو على الضد من ذلك يعجب من نفسه فيما هو سادر فيه من الرذيلة ... لأنه إذا كان يجهل ما يفعل فليس بمجرم ولا مسئول أمام الناس ولا أمام الله، وحينئذ بهذه المثابة لا تكون الفضيلة والعلم متماثلين، فقد يعلم الإنسان ولا يعمل، وقد يعمل ضد ما يعلم ... إذا كانت الفضيلة في الواقع هي العلم، وجب على الإنسان أن يقتصر على أن يعلم ليكون فاضلا، وبذلك تتضاءل الحياة الأخلاقية إلى مجرد النظر والتأمل.
6
والخلاصة، بعد ما تقدم من بسط كل مذهب ونقده، أننا لا نعدو الصواب إذا قلنا: إن الباعث هو «الغاية التي تتفق مع العالم الذي تظهر فيه.» هذه الغاية قد تكون لذة أو عاطفة وجدانية أخرى، كالكره والحقد اللذين يبعثان على كثير من الأعمال، كما قد تكون أمرا عقليا يتناسب مع العالم الذي نعيش فيه، كالوصول لقوانين عقلية في المنطق والرياضيات مثلا. (4) الضمير
تعريفه، الدور الذي يقوم به، مظاهره، ماهيته، إمكان تربيته، درجاته (4-1) تمهيد
عن وابصة بن معبد - رضي الله عنه - أنه قال: أتيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال: «جئت تسأل عن البر؟ قلت: نعم، قال: البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك.»
وجاء في كلام الغزالي، في كتاب الإحياء في باب المحاسبة والمراقبة:
للمراقب في عمله نظران: نظر قبل العمل، ونظر في العمل، أما قبل العمل فلينظر أن همته وحركته: أهي لله خالصة، أم لهوى النفس ومتابعة السلطان؟ فيتوقف فيه ويتثبت حتى ينكشف له ذلك بنور الحق؛ فإن كان لله تعالى أمضاه، وإن كان لغير الله استحيا من الله وانكشف عنه. وأما النظر الثاني للمراقب عند الشروع في العمل، فذلك بتفقد كيفية العمل ليقضي حق الله فيه، ويحسن النية في إتمامه، ويتعاطاه على أكمل ما يمكنه.
ثم تكلم بعد ذلك في بيان محاسبة النفس بعد العمل، فقال:
ينبغي أن يكون للمرء آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة أو شهر أو يوم؛ حرصا منهم على الدنيا.
وأخيرا أشار في هذا الباب في مواضع كثيرة إلى قوة جعلها مرة «نورا إلهيا»، وأخرى «معرفة»، مقررا أنها تهدي المرء وتقوده في أعماله.
كما رأينا مسكويه، حين تكلم عن النفس وقواها الثلاث، في كتابه «تهذيب الأخلاق»، ذكر أن منها القوة الباطنة أو العاقلة، ووصفها بأنها قبس من النور قذف به الخالق إلى النفس البشرية ليكون لها هاديا ومرشدا، وصرح بأن أصل هذه القوة هو الميل للخير والنفور من الشر.
ونحن إذا رجع الواحد منا لنفسه عند إتيان عمل من الأعمال وجد أن في قرارتها قوة تأمره بالخير وتشجعه عليه، وتحذره من الشر وتثبطه عنه، وأنه إذا عمل بوحيها أحس ارتياحا وطمأنينة وغبطة؛ لأنه عرف لنفسه كرامتها، وإن عصاها أحس بألم وتأنيب ينال منه أشد منال، وبندم يدعوه للتوبة والإنابة.
مثلا: ها أنا ذا الآن متردد بين قضاء هذه الأمسية في الترويح عن نفسي والتسرية عنها ببعض الملهيات البريئة بعد ما بذلته من المجهود الشاق في الصباح، وبين إتمام المقال الذي تنتظره مجلة الأزهر، وبين الذهاب لأداء خدمة لآخر هو جد محتاج إليها؛ العاطفة تشير بالاستجمام وقضاء هذه الأمسية في هذا الملهى أو ذاك، ولا علي إن انتظرت المجلة عبثا ولهذا البائس المحتاج لمساعدتي رب قد يرسل له من يقوم بخدمته على الوجه الذي يريد.
لكني، وقد هممت بتلبية نداء العاطفة، أسمع في أعماق النفس صوتا قويا يثبطني عن إضاعة الوقت باللهو الفارغ، ويذكرني بواجب إسعاف هذا الجار المسكين الذي أنا أقدر على خدمته من غيري، حتى إذا أطعته أحسست بطمأنينة في القلب، وبارتياح في النفس، وبغبطة داخلية تعوض على ما فاتني من الاستمتاع بالرواية التي كنت أشتهي مشاهدتها في إحدى دور السينما أو التمثيل. (4-2) تعريف الضمير
هذه القوة التي أمر الرسول السائل عن البر باستفتائها وسماها القلب، والتي تميز الخير من الشر، وتأمر بالأول وتثيب عليه بالارتياح والطمأنينة، وتنهى عن الثاني وتعاقب بالتأنيب والندم، والتي دعاها الغزالي مرة نورا إلهيا وتارة معرفة، ووصفها مسكويه بأنها قبس من النور الإلهي؛ هذه القوة هي ما يسمى في عرف الأخلاقيين المحدثين ب «الضمير».
ويرى بعض من كتب في الأخلاق أن الضمير مرادف للوجدان، وأنهما ترجمة كلمة
La conscience
الفرنسية. ويرى آخرون أن الوجدان هو تعرف النفس حالاتها، وشعورها باللذة والألم اللذين يعقبان الأفعال، أما الضمير فهو القوة التي عرفنا الكثير من خصائصها ومنها الحكم بأن هذا العمل الذي أتاه المرء خير فيلتذ لذلك ويسر، أو شر فيتألم ويندم، وإذن فالفرق بينهما هو أن التلذذ والتألم من ذاتية الوجدان، بينما هما من لوازم الضمير وآثاره.
على أن الحق في رأيي هو أن بين الوجدان والضمير فرقا كبيرا؛ الأول هو - كما قلنا - مشاهدة النفس لما يجري فيها وتعرفها حالاتها وإحساسها بما يكون من لذة وألم، أما الضمير فهو، بعد ذلك كله، يقدر الفعل ويحكم عليه بقياسه بما يرى من مثل أعلى، على ما سيجيء بيانه.
هذا، وقد جاء لفظ «القلب» في معنى قريب من الوجدان إن لم يكنه، كما جاء بمعنى العقل أو الضمير؛ من الأول قوله تعالى:
وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وقوله:
قلوب يومئذ واجفة ، وقوله:
سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب . ومن الاستعمال بالمعنى الثاني قوله تعالى:
لهم قلوب لا يفقهون بها ، وقوله:
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور . ومثل هذا وذاك كثير. (4-3) الدور الذي يقوم به
مما تقدم يتبين أن الضمير يلعب دورا هاما في حياتنا، فهو ناصح حكيم، وقاض عادل، ومنفذ أمين، ينصح أول الأمر بالخير ويحث عليه، وبالبعد عن الشر ويثبط عنه، وبعد الفعل يحكم لنا بالخيرية والفضيلة، أو علينا بالشرية والرذيلة، وينفذ أخيرا المثوبة ممثلة في ارتياح النفس وطمأنينتها، أو العقوبة بالتأنيب المر الذي يحز في القلب حزا، ويسلم للندم والتوبة.
وهذا الدور الهام هو ما أنطق جان جاك روسو
7
بهذه المقطوعة من الشعر المنثور في وصفه، وكان يعتقد أنه قوة من نور الله تعالى:
أيها الضمير، أيتها القوة الفطرية الخالدة، أيها الصوت السماوي، أيها القائد الأمين للإنسان الجاهل المحدود، وإن كان ذكيا حرا في إرادته، أيها القاضي الذي لا يضل في تمييز الخير من الشر، والذي جعل الإنسان شبيها بالله! إنه أنت الذي يكون أشرف جزء في طبيعته، وإنك الفضيلة في أعماله، بدونك لا أشعر بما يرفعني عن الحيوان ما عدا الميزة التي تجعلني أضل في ميدان الأخطاء، وهي أداة الفهم التي لا قاعدة لها، والعقل بدون مبادئ يسير عليها.
8 (4-4) مظاهر الضمير
يحس المرء بعد العمل عواطف مختلفة غير مغرضة، وهي ما تسمى مظاهر الضمير: (1)
من هذه العواطف «عاطفة السرور الأخلاقي»، التي تسمى أيضا «عاطفة الرضاء بالواجب المؤدى»، مثلا، ها أنا ذا أحس حاجة ماسة للاستجمام بعد يوم قضيته في عمل متواصل، فأعزم على الذهاب للاستمتاع بجلسة ممتعة مع جماعة من الأصدقاء، أو بمشاهدة قصة تمثيلية، ولكن جاري يلتمس مساعدتي في أمر له وقد وعدته بها وهذا حينها، ومجلة الأزهر تقتضيني مقالها الشهري، فإذا أعرضت عن داعي العاطفة واستمعت إلى نداء الواجب ، أحس سرورا داخليا يعوض علي ما فاتني من الراحة المنشودة؛ لأن عمل الخير - كما يقول فيكتور هيجو
9 - يعطر الروح بأرج ذكي ينعم المرء بشذاه طول الحياة.
هذا السرور لا يتوقف على وجدان مصلحة شخصية في الواجب المؤدى، فالمرء لا يحس سرورا أخلاقيا عظيما إلا إذا ضحى بمتعة كبيرة مرغوبة، أو مصلحة خاصة هامة في سبيل واجب كبير، لعل أسعد ساعات علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - هي الساعة التي نام فيها في فراش النبي
صلى الله عليه وسلم ، مستعدا للتضحية بنفسه، ليلة أن اجتمعت قريش على قتل الرسول وإهدار دمه.
وتولستوي الكاتب الروسي المعروف (1828-1910)، يحدثنا في روايته «الحرب والسلام» أن أحد أبطالها حينما رأى أنه ضحى بجزء كبير من ثروته في سبيل ما عده واجبا وطنيا، أحس أنه دخل عالما جديدا، فنراه يقول إن مجرد التضحية التي قام بها جعله يحس سرورا عميقا لا يقادر قدره.
ويحضرني أثناء كتابة هذه السطور ما أجاب به زعيم الهند غاندي العظيم حقا بعض من ساورتهم الخشية على حياته، حين نذر صومه الأخير احتجاجا على الإنجليز، حين قال: «لقد وهبت حياتي في سبيل الدفاع عن حقوق بلادي، وإني لأشعر بغبطة عظيمة وسعادة روحية كاملة إذ أضحي بنفسي في سبيل سعادة الهند وسعادة العالم»، هكذا يقول ربيب النعمة وسليل المجد، لا كبعض من يعدون أنفسهم زعماء وهم لا يهمهم أجاع الشعب المسكين أم شبع، وسعد أو شقي، ما داموا ناعمين مترفين، وما دام الشعب بلغ من الجهالة حدا لا يفرق معه بين السعادة والشقاء.
السرور الأخلاقي يختلف عن السرور الذي يجده المرء لثناء يوجه إليه أو لمكافأة ينالها، هذا فرح وقتي يزول بزوال حينه، أما الأول فسرور داخلي يحسه في أعماق قلبه، ولا يرى الآخرون منه إلا الوميض الذي يضيء وجه رجل سعيد أدى واجبه بنبل وشجاعة.
بتحليل هذا النوع من السرور نجده خليطا من عواطف مختلفة؛ عاطفة التحرر من أثرة الشهوات واستعبادها، ورحابة الصدر بواسطة حب الغير؛ لأنه - كما يقول أرسطو - يجد المرء سرورا في أن يكون محبا كما في أن يكون محبوبا، وأخيرا نجد فيه الإحساس بالسمو فوق المستوى العادي، يقول الفيلسوف الهولندي هوفدنج
Hoffding ، الذي عاش في القرن التاسع عشر: «هذا السرور قد يبلغ من العظمة والقوة حدا تكون كل المتع والمسرات الأخرى لا شيء أمامه إذا قورنت به ... بين الرضاء للتضحية المبذولة عن طيب خاطر وأي سرور من نوع آخر يكون الفرق كبيرا جدا، حتى ليتضاءل هذا النوع الأخير من السرور أمام الضمير. الحياة بهذه التضحية في سبيل الواجب تبلغ من السمو منزلة تكون الحياة لولاها لا قيمة لها مطلقا.» (2)
العاطفة المقابلة للسرور الأخلاقي هي عاطفة التأنيب، أعني الحزن الذي أحسه عندما أتذكر أني اجترحت سيئة أخلاقية، والذي يحسه من يندفع بالأثرة فيسبب ألما لآخر كان من الواجب أن يجنبه إياه، فيتألم كلما يتذكر ذلك ألما بالغا.
ولعل شكسبير، شاعر الإنجليز المعروف (1564-1616)، أحسن من مثل التأنيب أصدق تمثيل في روايته الخالدة «مكبث»،
10
اللادي مكبث بعد أن لوثت يديها بالدم المسفوح لم تستطع أن تزيل عنهما ما علق بهما من أثر الجريمة، برغم ما بذلت من جهد وأنفقت من مال، فكانت تقول: «يوجد دائما أثر الدم، دائما رائحته الخبيثة، كل العطور العربية التي لها فعل السحر عجزت عن تنظيف هاتين اليدين الصغيرتين!» هكذا كانت تناجي المسكينة نفسها، وقد استطير قلبها وهلع فؤادها، فلم تنتفع بنفسها بعد جرمها الشنيع!
التأنيب عاطفة بعيدة عن الهوى والغرض وتتصل بالماضي الصرف، ومن أجل هذا يجب ألا تختلط بالأسف، العاطفة الأثرة التي تتصل بالحاضر المقارن بالماضي أكثر من اتصالها بالماضي الخالص، حقيقة حينما يأسف المرء لثروته الضائعة لا يتألم إلا لشقائه الحالي، وحينما يأسف لإفراطه في اللذات السافلة يتألم؛ لأن ذلك هد صحته فأصبح لا يستسيغ الماء القراح.
كذلك لا يجب أن يشتبه علينا التأنيب بالخوف من اللوم أو العقاب، فكثير من المجرمين يظلون في نضال مع رجال الشرطة والقضاء، ولا يستشعر الواحد منهم التأنيب إلا حين يجد نفسه في أمن من مطاردة رجال البوليس والأمن العام . (3)
يجيء بعد التأنيب عاطفة أخرى هي عاطفة الندم، وهي عاطفة مزيج من التأنيب والسرور الأخلاقي، التأنيب والألم لتذكره ما عمل من سوء، والسرور لعزمه على ترك الشر وعلى أن يكون رجلا خيرا. والندم من الناحية الأخلاقية أعلى جدا من التأنيب المحض؛ إذ ليس من الخير أن يعيش المرء رازحا تحت ألم التأنيب المقعد المقيم، متذكرا دائما الماضي وما كان فيه من سيئات، لا يجب أن يؤنب المرء نفسه إلا بقدر ما يقوي في نفسه الإرادة القوية والعزيمة الصادقة، على أن يكفر عما مضى، وعلى أن يسلك سواء السبيل.
تلك طائفة من العواطف الأخلاقية التي يحسها المرء بالنسبة لأفعاله شخصيا، فإذا نظر لأعمال غيره، وبعبارة أدق: إذا نظر للبواعث والمقاصد التي يعتقد أنه كشفها وراء هذه الأعمال، يشعر بعواطف أخرى غير مغرضة أيضا. نحن نشعر بالتقدير لمن هم على خلقية عادية وفضيلة متوسطة، وبالاحترام لمن هم على خلقية عالية وفضيلة سامية، وهذا الاحترام يجب ألا يشتبه علينا بالإعجاب الذي يتوجه لكل من بلغ الأوج في أية ناحية من النواحي التي هي محل التقدير، كالجمال والقوة والذكاء مثلا، أما الاحترام فهو الإعجاب بالعلو الخلقي فحسب.
التقدير والاحترام يعتبران حقا من العواطف غير المتحيزة، قد أحسهما لمن يعمل ضد فائدتي ومنفعتي الخاصة إذا أيقنت أنه يعمل طبقا للعدالة، فالقاضي العادل محل تقديري واحترامي وإن حكم ضدي، ما دام صدر في حكمه عن عدالة، وكان بنجوة من الغرض والهوى. يقول الأديب الفرنسي فونتينل
Fontenelle :
11 «أنا أنحني أمام رجل عظيم ولكن قلبي لا ينحني»، ثم أضاف: «أمام الرجل المتواضع الذي بلغ من الفضيلة حدا لم أبلغه ولا أجده في نفسي، ينحني قلبي سواء أردت ذلك أم لم أرده، ولو أني أرفع بغطرسة رأسي أمامه عاليا حتى يحس علو مركزي الاجتماعي ... الاحترام ضريبة لا يمكننا أن نأبى دفعها لمن يستحقها طوعا أو كرها، قد يكون في طوقنا أن نخفي آثارها الظاهرة فلا يعرف الفاضل أنه موضع الاحترام منا، ولكن ليس في وسعنا أن نعرف أن نمنع أنفسنا من الإحساس باحترامه داخل أفئدتنا.»
من الممكن أيضا أن أقدر بكل ابتعاد عن التحيز والهوى أعمال الآخرين السيئة فألومهم وأحكم عليهم، ها أنا ذا أحس الاحتقار لهذا الرجل الذي أعلم ما هو عليه من خلقية سافلة وانحطاط شاذ، هذه العاطفة ليست أبدا أثرة، فقد أحتقر أخلاقيا آخر يسرني من ناحية الأثرة أن أنتفع بخدماته؛ ولهذا يسر رجل الحرب أو السياسة بالخدمات التي يؤديها له جاسوس خائن، مع احتقاره له في الوقت نفسه احتقارا بالغا.
كل هذه الأعمال والعواطف، وأمثالها من العواطف الأخرى، تسمى كما قلنا مظاهر الضمير الأخلاقي، الذي لا يصح أن يشتبه بالضمير النفسي «الوجدان»، الضمير النفسي يتحقق ويتأكد، والضمير الأخلاقي يحكم، الأول يخبرني بأني غاضب، والثاني يعلمني أن من الخطأ أن أغضب وأن أدع علي للغضب سلطانا.
وأخيرا، وقد بان تعريف الضمير، والدور الذي يقوم به، ومظاهره المختلفة، يحسن أن نتعرف ماهيته حتى يكون بحثنا عن بينة. (4-5) ماهية الضمير
عرفنا الضمير بخواصه، وليس ذلك بمغن عن تعرف ماهيته متى كان ذلك مستطاعا. وقد تشعبت في بيان هذه الماهية آراء الفلاسفة إلى شعب كثيرة، وانتهوا من بحوثهم إلى آراء مختلفة، تبعا لاختلافهم في أسس فلسفاتهم المتعددة، وها نحن أولاء نسوق أشهر هذه الآراء ونقفي على كل منها بوجوه نقده، حتى يخلص لنا من ذلك كله الرأي الصحيح في تلك القوة الباطنة التي كان خفاؤها مثار الخلف فيها.
اختلف الفلاسفة بادئ الأمر في: هل الضمير قوة فطرية أو كسبية؟ فكان لكل نظرية شيعة وأنصار، وانطوى تحت كل من هاتين النظريتين مذاهب مختلفة، أشهرها مذاهب الحاسة الأخلاقية أو «المدرسة الأسكتلندية»، ومذهب «عمانويل كانت»، ومذهب الكسبيين أو «المدرسة الإنجليزية.»
12
الأول: «مذهب الحاسة الأخلاقية»: يقول زعماء هذا المذهب إن الضمير قوة فطرية غرزية، «موضوعها أو متعلقها الخير والشر، كما أن المحسات متعلق الحواس الخمس الأخرى»، وهي لا تستند إلى شيء من الكسب والتربية، ولا ترجع في أحكامها إلى الدربة والتجربة، وإنها لدى جميع الناس وإن اختلفت قوة وضعفا، فكما منح الإنسان حاسة البصر والسمع لتمييز أنواع المرئيات والمسموعات كذلك منحه الله حاسة أخلاقية فطرية تميز بين الخير والشر والمباح والحرام، وتلازمها قوة تدفع لعمل ما تراه حسنا وترك ما تراه قبيحا. وليس الغرض من هذه أنها حاسة عضوية كسائر الحواس، بل القصد أنها قوة نفسية بها يدرك المرء الخير والشر ويحكم على الأعمال، أما الحواس الأخرى فعملها التأثر بالأشياء المحسة، والحكم عليها من وظيفة العقل وعمله.
ومن أشهر الذاهبين هذا المذهب اثنان من الفلاسفة الإنجليز، وهما شافتسبري
Shaftesbury ،
13
وهتشسون
Hutchesons ،
14
وللأول منهما في إيضاح هذا المذهب كلام طويل؛ إذ يقول:
إذا سألني سائل وقال: لماذا يجب عليك أن تبتعد عن القذارة إذا كنت منفردا؟ فأول ما يتبادر إلي أن هذا السائل رجل قذر، وأنه من الصعب أن أدخل في ذهن مثل ذهنه الوسخ حقيقة النظافة، ومع ذلك إذا أغضيت عن هذه الصعوبة أمكنني أن أجيبه بأن السبب في ذلك أن لي أنفا يشم. فإذا تثاقل وقال: فإذا كنت مزكوما أو فاقدا حاسة الشم مثلا، فلماذا؟ أجبته بأني أبغض أن أرى نفسي قذرا كما أبغض أن يراني الناس كذلك. فإن ألح وقال: فإن كنت في حجرة مظلمة لا ترى شيئا، فلماذا؟ أجبته بأني حتى في هذه الحالة، وليس لي أنف يشم ولا عين تبصر، لا يزال إحساسي كما كان يألم من القذر، ونفسي الإنسانية تشمئز من الدنس، ولو لم أكن كذلك لانحططت عن درجة الإنسان ولأبغضت نفسي لأنها نفس حيوان، ولما أمكنني أن أحترم تلك النفس التي لا تعرف قيمتها ولا ما يليق بها. كذلك سمعت الناس يتساءلون: لماذا ينبغي أن يكون الإنسان شريف النفس، محبا للفضيلة في الخفاء؟ وهو سؤال لا أريد أن أصرح باعتقادي فيمن يسأله.
وإذن فمرد القول بالحاسة الأخلاقية إلى أن الإنسان مفطور بطبيعته على معرفة الخير ويحس بقوة تلزمه باتباعه.
ومن أجل ذلك كان هتشسون يعلم أنه لا حاجة في معرفة الخير والشر إلى فكر ونظر، فإنه بهذه الحاسة نعرفهما سريعا، هذه الحاسة التي لا يظفر باحترامها وتقديرها إلا الأعمال الخيرة ، وإذن فليكن مرجعنا في أعمالنا هذه العاطفة أو الحاسة الأخلاقية، وليكن هديها قاعدتنا، ومن رحمة الله أنها فطرية فينا، وأن كلا منا يشعر بها تهديه سواء السبيل، وتعطفه لعمل الخير له ولأمثاله، وتكسبه سرورا ولذة لا يقدر قدرها.
15
لكن هذا المذهب برغم ما له من ظاهر مقبول بادئ الأمر، لا يصبر على النقد الصحيح. حقيقة إن المرء يحس من نفسه بارتياح واطمئنان لبعض الأعمال، وبنفور واشمئزاز من بعضها الآخر، وإن هذا الإحساس فطري فيه لا يحتاج لتفكير وروية، لكن اعتبار الضمير حاسة كسائر الحواس الأخرى، تسير في عملها على ما عرفناه آنفا، مردود بأن جعل الضمير حاسة يجعل أحكامه غير صائبة دائما، مثله في ذلك مثل سائر الحواس التي تضل كثيرا، وإذن يكون الواجب التحقق فيما يأمر به الضمير وعدم الاندفاع وراء كل ما يريد.
وأيضا هذه القوة تختلف اختلافا كبيرا في الحكم على الأعمال عند الناس بشهادة الواقع، حتى إن الأمر الواحد يكون خيرا عند فريق من الناس وشرا عند آخرين، في الزمن الواحد بالنسبة لاختلاف البيئات أو في الأمة الواحدة باختلاف الأزمان، وهذا ينافي ما يزعمونه من أنه لا دخل للتجربة أو التربية فيها. وأخيرا كيف يفسرون لنا رضاء الضمير العربي في جاهليته عن وأد الأولاد وعده خيرا، ثم حسبانه بعد الإسلام من أقبح الجرائم وأشدها نكرا، أليس ذلك أثر التربية؟
الثاني:
مذهب «كانت»، وهو أن الضمير وإن كان قوة فطرية لا كسبية، إلا أن هذه القوة عقلية لا حاسية، فهو يراه قوة فطرية عقلية وجدت كاملة في الإنسان.
وتفصيل الأمر أن هذا الفيلسوف جعل العقل الإنساني قسمين: العقل النظري والعقل العملي، والأول خاص بإدراك العالم المحس، ويعتمد في معرفته على الحس والتجارب، وهو لذلك لا يصلح أن يكون أساسا للأخلاق لأن وسائل إدراكه وهي الحواس والتجارب كثيرا ما تضل وتكون خاطئة، وكذلك يعتمد في حكمه على مقدمات غير مأمونة الصحة دائما. أما العقل العملي، وهو ما نسميه الضمير، فلا يستند في معرفته لحقائق الأشياء إلى وسائل قد تخطئ كما قد تصيب، بل هو قوة باطنة فطر عليها المرء وإن كان من الممكن تعليل أوامرها نظريا، وقد وجدت كامنة منذ الأزل وإلى الأبد، بعيدة عن التجربة والكسب ولا تتصل بالمحسوسات المادية، إنما هي شعاع من نور هبط من القوة العليا المطلقة غير المحدودة إلى النفس الإنسانية، وهو هاديها سواء السبيل، ومبين لها طريقي الخير والشر، كما أنه القاضي المعصوم، والحكم الذي لا يعتور أحكامه الضلال.
16
ولهذا الذي يراه «كانت»، وهو أن الضمير شعاع من القوة العليا، كان التسليم بوجود الله وخلود الروح عنده من مسلمات علم الأخلاق، كما كان صوته أمرا مطلقا غير متعلق بشرط أو متوقفا على فرض من الفروض.
ذلك أن كل أمر يصدر للإرادة يكون مقيدا إن كان مرتبطا بشرط أو فرض، وبعبارة أخرى: إن لجأنا في الحث على تنفيذه إلى العاطفة أو المنفعة كما إذا قلنا: «إذا كنت تحب الاحتفاظ بسمعتك الطيبة بين الناس، إذا أردت أن تنجح في تجارتك، إذا كنت تحب أن تكون ظريفا محبوبا؛ لا تكذب مطلقا وعامل الناس بالحسنى»؛ إذ معنى هذا أننا وضعنا الصدق ومعاملة الغير بالحسنى في كفة، ونتائجها الطيبة في كفة أخرى، وأغرينا المرء بهاتين الفضيلتين بلفت نظره إلى ما يناله من خير ومنفعة إن عمل بهما.
أما الواجب، وهو صوت الضمير، فلا يعرف هذا اللف والدوران، ولا يلجأ لتلك الوسائل الملتوية لغرض خلق من الأخلاق الحميدة، بل يقول في وضوح لا لبس فيه، وصراحة لا غموض معها: «لا تكذب مطلقا، وعامل الناس بالحسنى، وإن لم تفد من ذلك لنفسك، بل وإن جاءك الضرر من هذا السبيل.» هذا الأمر هو ما يسمى أمرا مطلقا، وما يأمرنا في كثير من الحالات بالتضحية بعواطفنا ومنافعنا الخاصة، وهو لهذا أساس الخلقية الكاملة عنده.
17
ولكن مع دقة «كانت» فيما ذهب إليه، من أن للعقل نظرا عمليا يدرك الحقائق الأدبية للأشياء، ويبين الخير من الشر والصواب من الخطأ من الأعمال، يقابل نظره الفكري أو العلمي الذي يستند للحواس في تفهم المعقولات؛ نقول مع هذا نحن لا نسلم معه أن الضمير وجد تاما كاملا لدى الجميع على السواء، فلئن كان شعاعا من نور كما يقول فلم يكن بمثابة واحدة من القوة في كل الأزمان، كما أنه من المسلم به أن حكمنا الأخلاقي على بعض الأفعال يختلف اختلافا كبيرا عن حكم آبائنا الأولين، وما ذاك إلا ثمرة التجربة والتربية.
الثالث: «مذهب الكسبيين»: يرى هؤلاء أن الضمير ليس قوة فطرية حسية أو عقلية، بل هو قوة من الشعور الكسبي استفادها المرء بالتدريج، وهو لذلك يختلف تبعا للمؤثرات ويتفاوت باختلاف الأمم والبيئات.
يقول أصحاب هذا المذهب في إيضاحه، ومنهم ستيوارت مل
Stuart Mill : إن المرء نشأ عادة في جماعة لها عرفها وتقاليدها وأنظمتها، التي تبيح أعمالا وتثيب عليها وتحرم أخرى وتحدد لها عقابا، فكان الناس يألفون الخير ويفعلونه، ويكرهون الشر ويزدرونه رغبا ورهبا، ثم نما هذا الشعور بوازع الشرائع الوضعية والسماوية، وتطاول الزمن فنسي الناس أو تناسوا الأسباب الأولى الحقيقية لحب الخير والميل إليه وبغض الشر والبعد عنه، وزعموا أنهم يفعلون الأول بدافع نفسي باطني كما ينأون عن الثاني بدافع نفسي باطني أيضا، وهذا ما سمي بعد بالضمير.
ومن السهل رد هذا الرأي أيضا، بأن الضمير لو كان كسبيا ويتفاوت بهذا القدر لاختلف الناس في أصول الفضائل والرذائل باختلاف الأمم والبيئات والعصور كما تختلف التقاليد والقوانين، وهذا منكور قطعا لاتفاق الناس على المبادئ الخلقية في كل زمان ومكان وإن اختلفوا في بعض الجزئيات.
كما أن لنا أن نقول في الرد عليهم أيضا: إن المشرعين الذين بيدهم زمام الأمم والجماعات يعتمدون في كل ما يشرعون من قوانين على ما لدى الناس من المبادئ العامة للفضيلة والرذيلة، حتى تنال هذه القوانين من احترام الكافة ما يضمن تنفيذها، وإلا لكان هذا من العسير إن لم يكن من المستحيل، فالمرء في الغالب من الأمر لا يطيع القانون إلا لاعتقاده بعدالته، وهذا الاعتقاد لا بد أن يكون وليد قوة فطرية في أصلها لدى الإنسان. •••
وقصارى القول بعد ما تقدم من بيان المذاهب السابقة ونقدها، وهي جماع الآراء في تفسير ماهية الضمير، أننا نختار، ويؤيدنا الواقع والمشاهدة فيما نختار، أن الضمير قوة فطرية في كل إنسان باعتبار جرثومتها وأصلها، وأن للتربية العقلية والأدبية دخلا في نموها وكمالها. ولعلنا لا نبعد عن الصواب إذا قلنا: إننا نتفق في هذا مع الغزالي بعد ما نقلناه عنه من تسميته لهذه القوة الهادية للمرء في أعماله المحاسبة له عليها تارة نورا إلهيا وطورا معرفة؛ إذ وصفها بأنها نور إلهي يسيغ لنا القول بأنها في أصلها قوة فطرية، وتسميتها بعد هذا معرفة تجعلنا في حل من تقرير أنها تنمو وتكمل بالتربية. (4-6) تربية الضمير
يرى بعض الباحثين أن الضمير لا يحتاج لتربية ولا تهذيب؛ لأنه لا يتغير ولا يتبدل ولا يضل ولا يجهل، وأما ما يوجد من انحراف عن الجادة فمرجعه ضعف في العزيمة وفساد في الإرادة والخلق؛ لغلبة الشهوات وقوة أسرها في كثير من الأحيان. وإذن فالمطلوب قمع الشهوات الجامحة والخروج عن سلطانها، فيظهر الضمير بكامل سنائه وبهائه، ويسمعنا صوته وأوامره واضحة جلية.
ويرى الآخرون أن الضمير كسائر القوى يتأثر بالشهوات وغلبتها وبإهمال أوامره ونواهيه، فيخرج عن السبيل السوي في أحكامه؛ ولذلك يحتاج لتربية.
ولعل مما يشهد للأولين هذه الآيات وأمثالها:
وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ،
وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ،
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون . على أن الخلق من الناحية العملية لا قيمة له مطلقا، فبإضعاف الشهوات وعدم الانصياع لها، وبإنماء القوة العاقلة وتهذيبها، وبإطاعة الضمير فيما يأمر به؛ بذلك يسلك المرء طريق الخير سواء أقلنا مع الأولين: إن الضمير ظهر على فطرته الأولى، قويا مرهوب الجانب نافذ الكلمة، بعد أن زال ما ران عليه من حجب الشهوات، أو قلنا مع الآخرين: إنه رجع قويا كاملا كما كان حين باعد المرء بين نفسه وبين الشهوات فلم يلق لها بالا ولم يسمع لها صوتا. ولهذا نعالج هذا البحث على طريقة القائلين باحتياجه للتربية، فنقول:
قد يعتور الضمير حالات تجعله غير مأمون الحكم صائب القضاء، ولذلك كان من الضمائر: الضمير المستقيم، والضمير الجاهل ، والضمير الشاك المرتاب.
فالأول هو الذي لم تستطع القوى الأخرى الشهوانية والغضبية أن تلوي عنانه إلى ناحية الشر وتحيله عن جهة الخير.
أما الضمير الجاهل فهو الضمير الذي يوحي بالشر وهو جاهل أنه شر، كالأطفال الذين يعذبون الحيوانات ظانين أنهم يداعبونها، فهم لا يفعلون ذلك عن قسوة أو غلظة ممقوتة، بل يجهلون أو لا يفكرون في أنهم بهذا الصنيع يعذبونها، وكذلك ما نقل إلينا من أن بعض المتوحشين كانوا يقتلون آباءهم المسنين حين لا يستطيعون إطعامهم، معتقدين أن ذلك خير لأنه ينجيهم من عذاب الجوع. وعلاج أمثال هذه الضمائر يكون بتوسيع المدارك العقلية لأصحابها حتى يفهموا الأمور على وجوهها.
18
وأخيرا، يحدث للضمير الشك والارتياب والتردد والحيرة، لا في معرفة الخير من الشر، بل إذا عرض للمرء واجبات مختلفة يطلب منه الحكم فيها واختيار أحدها، وعلاج هذه الحالة الانتفاع بمشورة ذوي الآراء الحكيمة.
ومع هذه الحالات، التي يتعثر في بعضها الضمير في أحكامه، فإنه ليس للأخلاقي أن يطلب من أحد إلا إطاعة ضميره، فإن فعل ذلك أصاب وكان خيرا، وليس عليه إن كان الحكم الذي أصدره الضمير خاطئا؛ لذلك وجب أن يمكن للضمير من القيام بمهمته السامية على الوجه الأكمل، ولا يكون هذا إلا بتربيته وتهذيبه.
بتربية الضمير تغير نظر الإنسانية لكثير من الأعمال، فالضحايا الإنسانية والقرابين التي كانت تقدم للمؤلهين، والانتحار، وحق الحياة والموت الذي كان للآباء على الأبناء لدى بعض الأمم، والنهب وقطع الطريق وقد كان من علائم البطولة في الأزمان السابقة، واسترقاق الأسرى، ووأد الأولاد عند العرب في الجاهلية؛ كل أولئك كانت أمورا يبيحها بل يأمر بها الضمير في غير تحرج ولا تأثم، فأصبحت اليوم وهي جرائم بشعة لا يسمح الضمير بالتفكير فيها، بله إتيانها.
19
وتبدأ تربية الضمير أيام الطفولة بتقوية شعور الطفل الأدبي، وذلك بتعويده الإحساس بالخير والشر وأثر كل منهما، وإشعاره بالفرق بين المدح والذم حتى لا يبلد إحساسه فيستويا لديه، ولفته برفق إلى ما يأتيه من مخالفات أدبية وتبصيره بنتائجها فيمن حوله.
يجيء بعد هذا إذا شب الطفل دور القوة العاقلة، وإنماؤها وتكميلها بالقدر الممكن، وذلك لخطرها الكبير في تقدير الضمير للأعمال الأخلاقية؛ لأن العقل هو الذي يمحص الأعمال ويهيئها لحكم الضمير، فكلما ارتقى عقل الإنسان واتسعت مداركه كان حكم ضميره أقرب إلى الصواب. ونحن جميعا نشعر بالفرق في الحكم في أية مسألة لها أدنى صلة بالدين، بين رجل جاهل متعصب وآخر مثقف متعلم استنار فكره بالتعليم والتربية؛ إذ ما أسرع الأول لعدها بدعة سيئة تزلزل الدين من قواعده، بينما الآخر وهو يعلم من الزمن وتطوراته ما لم يعلم الأول قد يعدها أمرا طيبا من الخير تنفيذه؛ ولذلك كان قصر النظر وسعة المدارك العقلية سببا للخلاف دائما بين الجامدين والمصلحين.
وأخيرا، من أهم سبل هذا التربية المبادرة بطاعة الضمير فيما يأمر به، حتى تقوى فيه قوة الحكم الأدبي على الأعمال بالمرانة، شأنها في ذلك شأن سائر الملكات النفسية تضعف بالإهمال وتقوى وتكمل بالتمرن وإعانتها على أداء مهمتها؛ ولهذا كان لا بد للمرء من تربية إرادته وجعلها ماضية صالحة لا تعصي للضمير أمرا، فإن الإنسان إذا خالفت إرادته حكم الضمير لأول مرة يحس بألم شديد مصدره التأنيب، فإذا خالفته مرة أخرى أحس بألم دون الأول، وهكذا حتى لا يحس لعصيانه بألم ألبتة، فيخفت صوته ويضعف سلطانه. ومما يعين أيضا على هذا النوع من وسائل التربية القدى الصالحة، والبيئة الخيرة، والقوانين التي تحمي الأخلاق، والحكومة التي تسهر على تنفيذها، وأشباه ذلك مما يحفظ لقوة الحكم الأدبي نشاطها ويقوي سلطانها. (4-7) درجات الضمير
للضمير ثلاث درجات، نتكلم عن كل منها فيما يلي:
الأولى:
ضمير يعمل الواجب خوفا من الناس، فهو يرى خيرا ما يرونه خيرا وشرا ما يرونه شرا، لا يصدر صاحبه في أعماله عن رأي نفسه بل نراه دائما مدفوعا بغيره، هذا الجندي مثلا يصمد للحرب ويصبر على لأوائها، ولا يفر حتى لا يقال عنه إنه جبان رعديد، وذاك الرجل يصلي أو يصدق في حديثه لأنه لا يرضى أن يرى فيه الناس رجلا رقيق الدين كذابا، وأهل هذه الدرجة الدنيا لا يتورعون عن شر إذا خلوا بأنفسهم وأمنوا الرقيب، أو عاشوا في بيئة سيئة لا ترى الشر أمرا نكرا.
الثانية:
وهي أحسن حالا من سابقتها، ضمير يرى الخير فيما أمر به القانون والشر فيما حظره، فهو يطيع القانون أيا كان مصدره ولا يسمح لنفسه بمخالفته وإن أمن رجل الشرطة وسلطان النيابة. صاحب هذا الضمير يعتبر من الأخيار؛ لأنه لا يسرق ولا يقتل ولا يخون ولا يأتي منكرا حظره القانون الوضعي أو السماوي أو الأخلاقي وإن أمن العقوبة، ذلك بأن ضميره يأمره باتباع القانون وعدم مخالفته في السر أو العلانية.
الثالثة:
وهي الدرجة العليا، ضمير يحتم على صاحبه عمل ما يراه في نفسه خيرا، خالف ما تواضع عليه الناس وما أمر به القانون أو وافقه، يشعر بأن هذا العمل خير لأنه يراه خيرا، لا لأن القانون أمر به، ويرى أن ذاك شر لأنه يراه في نفسه شرا لا لأن العرف أو القانون نهى عنه، فهو ينفذ بصره وراء القواعد المتعارفة والقوانين المسنونة ليعرف أساس الحق والباطل والخير والشر، فإن هدى إلى الخير عمل به وإن خالف رأي الناس جميعا، مهما كلفه من مشاق وأرهقه من آلام.
وهذه الدرجة لا يصل إليها إلا الرسل والأنبياء وكبار المصلحين، الذين يصدعون بما عرفوا أنه الحق ولا يخافون لومة لائم. وتلك الدرجات الثلاث يسلم بعضها بالتربية إلى بعض، وفي مقدور من كان في درجة أن يصل إلى ما فوقها بتهذيب ضميره وتكميله. (5) المثل الأعلى (5-1) تعريفه
كثيرا ما يسائل المرء نفسه: ماذا أبغي من هذه الحياة؟ أو ماذا أريد أن أكون؟ فالصورة التي وضعناها ونود تحقيقها ونرى الخير كل الخير في الوصول إليها وتصلح أن تكون جوابا عن هذا التساؤل؛ هي ما يسمى في عرف الحديثين من الكتاب بالمثل الأعلى، فهو تلك الصورة البعيدة المنال التي رسمها كل منا لنفسه، ويعمل جاهدا على القرب منها إن أعجزه الوصول إليها، ويستهين في سبيل ذلك بكل جهد ينال من نفسه وماله.
من هذه الناحية كان الفرق بينه وبين الغاية، فهذه يسعى المرء لتحقيقها، بعد أن قدر لذلك الوسائل، وعرف أن في مقدوره الوصول إليها بسهولة ويسر أو مشقة وعسر، أما المثل الأعلى فهيهات أن يصل إليه مهما أنفق من مجهود، فهو يتغير ويرتفع كلما حاولنا الدنو منه؛ ولذلك كان أداة مباشرة صالحة للرقي والكمال. (5-2) اختلافه
كل منا له مثله الأعلى، هذا مثله رجل مغترف من لذائذ الحياة، ويجد سبل المعيشة الراضية أمامه موفورة، وذاك مثله الأعلى إنسان كمل عقله وأخذ بأوفر حظ من العلوم والفنون حتى صار نابغة، وآخر مثله الأعلى عمر بن الخطاب في شجاعته وعدله، وآخر أن يكون معبود الجماهير كالزعماء الشعبيين، وغير هؤلاء من يرى مثله الأعلى أن يكون حكيما زاهدا، لا تستهويه لذائذ الحياة ولا مفاتن العصر، بل يعلو بنفسه على هذه الصغائر ويعيش في عالم روحي كامل، إلى آخر أشباه هاتيك الصور العليا التي تكاد تكون بعدد أفراد الناس.
وليس في وسع الأخلاقي أن يرسم لكل امرئ مثلا يناسبه، فإن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والبيئة والتربية ونوع الحياة التي يحيونها، وغاية ما يطلبه الأخلاقي أن يكون المثل الأعلى الذي يتخذه كل لنفسه يمثل خير ما يمكن أن يكونه المرء في شأن من شئونه: في عمله الخاص، وسياسته لنفسه، ومعاملته للناس. (5-3) تكونه ونموه
يبدأ تكون المثل في زمن الطفولة، ولا يزال ينمو بتأثير العوامل المختلفة، دون أن يشعر المرء به حتى يتحدد تماما.
وأهم العوامل لتكوينه هي المنزل والمدرسة والدين، فتربية الناشئ في المنزل، وما يراه ويسمعه من أبويه وإخوته من قصص وحكايات، والنظام الذي يسود البيت، والمدرسة وما يراه فيها ويسمعه من مدرسيه، وما يقرأه في الكتب من قصص الأبطال والعظماء ورجالات التاريخ وما كان لهم من آثار خالدة لم تقو يد الزمان على محوها، والدين وما يوقفنا عليه من سير الرسل والأنبياء ونظام الحياة الأخرى التي أعدت خيراتها للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، كل ذلك وما إليه له أكبر الأثر في تكون المثل الأعلى ونموه شيئا فشيئا حتى يأخذ الصورة التي يراها المرء أكمل الصور وخيرها؛ ولذلك كثيرا ما يحس المرء من نفسه تغيرا في مثله الأعلى، فهذا الطالب مثلا كان يقنع أول أمره أن يكون كأستاذه، فإذا به بعد أن اتسعت أمامه آفاق الحياة لم يرض أن يكون مثله الأعلى إلا أحد الأبطال والزعماء.
وكما ينمو المثل الأعلى حتى يصل للكمال قد يضيق حتى ينعدم، ويشاهد هذا في أمثال العمال الذين يقضون حياتهم في أعمال يدوية محدودة، يذهب الواحد منهم صباحا لمحل عمله يفعل ما فعله بالأمس وما سيفعله في الغد، ثم يعود لداره قانعا بأنه قام بما يسد العوز ويدفع الحاجة، لا يفكر في عيشة غير عيشته الرتيبة، ولا في أمد أعلى يصل إليه في حياته، وفي ضيق المثل الأعلى أو انعدامه خطر عظيم على نشاط الإنسان وسعيه للوصول إلى الكمال؛ لأن المثل الأعلى هو مصدر ذلك كله. (6) القياس الخلقي والمقاييس الخلقية (6-1) معنى القياس
إذا أردنا معرفة مساحة دار أو وزن قطعة من الحديد مثلا عمدنا إلى وحدة المقياس وهي المتر وعرفنا به مساحة الأولى، ووحدة الميزان وهو الرطل وعرفنا به وزن الأخرى، وهكذا في جميع الأشياء المادية. أما الأمور المعنوية، كالأعمال الأدبية التي تصدر منا ومن غيرنا، فماذا نصنع لبيان خيرها من شرها؟ وبأي الوسائل نتعرف قيمتها؟ نتعرف ذلك بالميزان أو المقياس الخلقي، فهو المستوى الذي نتحاكم إليه لتقدير قيم الأعمال الأخلاقية. ومعرفة هذا المقياس، أو هذا المستوى، من أهم مباحث علم الأخلاق، الذي يبحث في أعمال الناس من حيث خيرها وشرها.
وقد اختلف الناس ولا يزالون مختلفين في هذه المقاييس، فكان منهم من يحتكم في أعماله وأعمال سواه إلى العرف والتقاليد للقبيلة أو الجماعة التي يعيش بينها، فيرى خيرا وحسنا ما أقره هذا العرف، وشرا وقبيحا ما خالفه. وكان منهم من يحتكم إلى القانون الوضعي أو السماوي في معرفة حسن الأفعال وقبيحها. وكان منهم من لا يحتكم إلى هذا المقياس أو ذاك، بل لا يحكم إلا رأيه الشخصي فهو عنده المستوى الخلقي، فما وافقه كان خيرا وما لم يوافقه كان شرا. ثم كان منهم من لم يرض لنفسه واحدا من هذه المقاييس، ففكر في مستوى نظري من قاعدة أو مبدأ عام يرى تحقيقه هو الخير الأسمى والمثل الأعلى الذي يجب الوصول إليه، وبذلك جعل هذا المستوى هو الميزان الخلقي الذي نزن به الأعمال جميعها. (6-2) تقسيمها إلى عملية ونظرية
إذا نظرنا للعرف والقانون والرأي الشخصي وجدناها تختلف اختلافا كبيرا حسب الزمان والمكان، فعرف الأمم القديمة في العصر الأولى غير عرفها في العصر الحديثة، بل عرف كل منها في هذه العصر الحديثة يختلف حسب أدوارها التاريخية المختلفة، كذلك القانون يختلف باختلاف الزمان والبلاد والأمم. أما الرأي الشخصي فهو جد مختلف، يرى الإنسان حسنا اليوم ما كان يراه قبيحا بالأمس، وذلك لاختلاف الظروف والملابسات، ولاتساع مداركه وتغير نواحي تفكيره وتقدمه في التربية والتهذيب، من أجل هذا كانت تلك المقاييس خاصة مقيدة محدودة، وهي في الوقت نفسه أمور موجودة يقاس على مثالها؛ لذلك سميت بالمقاييس العملية لأن كلا منها موجود فعلا وحقيقة.
والقياس بالعرف والقانون أشبه الأشياء بعملية القياس في الأحكام الفقهية، فكما يقول الفقيه مثلا تناول الحشيش حرام كالخمر لوجود علة التحريم فيه وهي الإسكار وضياع العقل، كذلك يقول من اتخذ العرف أو القانون مقياسا له؛ هذا الفعل حسن لأن العرف أو القانون استحسن مثله، وذاك قبيح لأن العرف أو القانون عد مثله قبيحا. أما من جعل مقياسه رأيه الخاص فهو شبيه بالمجتهد؛ لأنه لا يأخذ في حكمه إلا برأيه الذي كونه لنفسه، غير مقيد بعرف أو قانون أو مبدأ نظري عام.
بقي من المقاييس التي عددناها المقاييس المثالية، أي القواعد والمبادئ العامة التي لا تختص بزمان أو مكان أو أقوام معينين، بل هي عامة للجميع على السواء، وهي ما تسمى بالمقاييس النظرية؛ لأن منشأها التفكير والنظر اللذان يهديان إلى قاعدة أو قانون عام أو مثل أعلى ذهني غير موجود عمليا تقاس به الأعمال، هذا هو معنى كونها نظرية؛ إذ ليس المراد من وصفها بأنها نظرية أنها لا تطبق في الحياة العملية، بل إنها مستويات عقلية مثالية ولها مع هذا قيمتها العملية في تقدير قيم الأعمال بها.
وهذه المقاييس النظرية مختلفة متعددة أيضا، فمن فلاسفة علم الأخلاق من جعل هذا المستوى النظري الذي يقيس به الأعمال الأدبية هو الواجب، ومنهم من جعله المنفعة، ومنهم من جعله الكمال.
وليس من موضوع دراستنا الآن دراسة المقاييس النظرية، بل المراد بحثه هذا العام هو العرف والقانون من المقاييس العملية. (7) العرف (7-1) تعريفه
العرف في اللغة: التتابع، يقال: جاء القوم عرفا أي بعضهم خلف بعض، ومنه
والمرسلات عرفا ، ويستعمل في اصطلاح علم الأخلاق في مثل هذا المعنى، وهو متابعة الناس بعضهم لبعض في عادة أو عادات متابعة متكررة حتى تصير ثابتة راسخة.
وهذا المعنى وإن كان يوجد مثله عند بعض أنواع الحيوانات التي تعيش مجتمعة، لا يسمى عرفا عندنا، مثل النمل يخزن أقواته صيفا للتغذي منها شتاء ويفعل ذلك منذ خلق إلى أن ينقرض نوعه، والنحل ومتابعة جنيه للأزهار وإحالتها إلى عسل مصفى باستمرار، وهجرة بعض الطيور من إقليم إلى آخر في بعض فصول العام، وأكل دودة القز أوراق التوت وإفرازها حريرا ناعما تنسجه حول نفسها بشكل يودي بها.
كل هذه وأمثالها أعمال متكررة مستمرة من جيل إلى جيل، إلا أنها لا تسمى عرفا لصدورها من الحيوانات والطيور عن الغرائز وحدها دون إرادة أو اختيار؛ ولذلك نراها تترسم نهجا معينا لا تحيد عنه في تلك الأعمال، كما أنها وهي تقوم بها لا تشعر بالغايات النهائية لها. أما الأعمال المتعارفة لقبيلة أو أمة من الأمم فالمرء يعمل ما يعمل منها بإرادته واختياره؛ ولهذا قد يعدل منها في كثير من الأحايين، كما أنه يشعر شعورا تاما بالغايات التي تؤدي إليها. (7-2) أصل العرف
يرجع العرف، وهو كما قلنا: مجموعة العادات والتقاليد والسلوك لقبيلة من القبائل أو أمة من الأمم، إلى أصول مختلفة.
فبعض هذه العادات والتقاليد أعمال دعت إليها في الأصل غريزة من الغرائز، مثل أن يعمل شخص عملا مبعثه المحافظة على الذات فينقله عنه غيره وغيره حتى يصير متعارفا، وبعضها يرجع للحظ والمصادفة، كالتفاؤل من العمل في يوم معين والتشاؤم منه في يوم آخر، مرد ذلك إلى أن أسلافنا أصابوا حظا من القيام بعمل في يوم خاص، أو منوا بكارثة من القيام بمثله في يوم آخر، فاستنتجوا واهمين أن هذا العمل لو تكرر في مثل هذا اليوم نفسه كان له مثل نتيجته الأولى، ثم درج الأبناء على هذا الاعتقاد الفاسد جيلا بعد جيل حتى صار عرفا لهم.
وأخيرا، فبعض الأمور المتعارفة ترجع إلى تاريخ الأمة ودينها، فالأمم التي تسكن الثغور المهددة بالغارات تستحسن الشجاعة وعدم تهيب الأخطار، وبتوارث الخلف ذلك عن السلف صارت أعمال الشجاعة مألوفة متعارفة، ومن ذلك ما تعارف عليه المصريون القدماء من تحنيط موتاهم ودفن كثير من متاعهم معهم، مما كان أصله اعتقادهم بخلود الروح والبعث والرغبة في أن يبعث المتوفى سليم الجسم. ومن ابتناء العرف على الدين والتاريخ أيضا ما يقوم به المسلمون من التضحية في عيد الأضحى إحياء لذكرى فداء إسماعيل - عليه السلام - وما تعارفنا عليه في نهضتنا الحالية من تكريم الشهداء واتخاذ أيام خاصة وأعياد وطنية لذكرياتها المجيدة.
من أجل هذا كله يتبين أن العرف ليس مبناه دائما على العقل، بل قد يرجع في كثير من الأحوال إلى أمور لا دخل للعقل فيها، كالحظ والمصادفة والتفاؤل ونحوها.
ومهما يكن، فيجب أن نلاحظ الفرق بين العرف والعادة، هذه أسبق تاريخا، ويصير بعضها عرفا بالمحاكاة أو التقليد إذا كانت عادة لهذا أو ذاك ممن أوتوا الذوق الحسن والرأي الحكيم والنفوذ. وإذن، لا بد أن يستند العرف إلى أساس قوي من ضمير الجماعة واستحسانه له، وإلى أساس نفسي يتمثل في الاحتذاء والتقليد، حتى تتأكد العادة وتصير عرفا ثابتا يعتبر جزءا من تقاليد الأمة وعقائدها. (7-3) قوة العرف وسلطانه
للعرف على المرء سلطان كبير، فهو يتأثر بعادات قومه وتقاليدهم وإن كان لا يوافق على بعضها في قرارة نفسه، نرى المرء يسرف في أمور الزواج والمآتم استجابة لداعي العرف وهو ساخط، إلا أنه يخشى أن تصيبه المعرة إن خرج على ما تعارف عليه قومه، وما أكثر من يرى أن هذه العادة العرفية فيها مضرة لأمته وإساءة لسمعتها، فيحدث نفسه بالدعوة لنبذها، فيأخذ العرف على يديه حتى يقعد به عما أراد، ومن هذا إقامة الموالد المختلفة سنويا في نظر الكثيرين.
بل إن للعرف سلطانه الكبير كذلك على الأمم والحكومات، فلا تجرؤ على التعديل فيه إلا بقدر، حذر ما يكون من العامة وأشباه العامة، ومن المثل المخجلة لنا كأمة إسلامية ما تعارفناه من الاحتفال رسميا بالمحمل والتبرك بالجمل، حتى ليمروا مقوده بين أيدي الوزراء والكبراء، بين ابتسامات السخرية من كثير من المحتفلين والمدعوين، وبرغم زراية الأجانب عن الدين وعن الوطن الذين يذيعون هذا المنظر وأمثاله في بلادهم، رغبة في الحط منا والنيل من عاداتنا وديننا.
ولولا جماعة من المصلحين أنار الله بصائرهم، وعرفوا السيئ مما تواضعت عليه أمتهم، فندبوا أنفسهم لمحاربته، مستهينين بالآلام مستقبلين برحابة صدر ما ينالهم من عنت وإرهاق؛ لبقينا حتى اليوم في غمرة من الضلالة، مأتاها ما كان عليه الأسلاف من سيئ التقاليد.
ومع هذا فكم للعرف من حسنات! كم من مصل، ومخرج للزكاة، وممتنع عن شرب الخمر، لا لشيء إلا خضوعا لعرف أهله وبلده وخشية لوم الأهلين! ولقوة سلطان العرف وموافقته للصالح كثيرا اعتبره فقهاء الحنفية حجة، ورأوا أن المعروف عرفا كالمشروط شرطا، حتى قال قائلهم:
والعرف في الشرع له اعتبار
لذا عليه الحكم قد يدار
ولهم في ذلك تطبيقات مختلفة في مسائل الإيمان وغيرها. (7-4) عدم صلاحيته مقياسا
مع تسليمنا بأن العرف يحض على كثير من خصال الخير، ومع اعتبار بعض الفقهاء حجيته في حوادث ومسائل مختلفة، فإننا نقول: إنه لا يصلح أن يكون مقياسا أخلاقيا للأمور الآتية:
الأول:
يشترط في المقياس الأخلاقي أن يكون عاما لا يختلف باختلاف البيئة والعصور، والعرف ليس له هذه الصفة، فأخص صفاته الاختلاف؛ لأن لكل أمة عرفها ولكل قوم تقاليدهم، بل إن العرف ليختلف كثيرا في الأمة الواحدة إذا تقدم بها الزمن ، وكثير من الأعمال التي كان العرف يأمر بها في الزمن الأول ويراها خيرا أصبح يستهجنها ويعدها شرا، والأمثلة لذلك أكثر من أن يتناولها الحصر.
من هذه الأمثلة وأد البنات الذي كان عادة متعارفة لدى العرب الجاهليين، حتى جاء الإسلام فأبطلها وصار لا يفكر أحد في إتيانها. والرق كان متعارفا عليه عند الشعوب القديمة، وبمجيء الإسلام وانتشار المدنية تبين ما فيه من مناقضة للإنسانية وأنه عمل غير شريف، فقضي عليه لذلك أو كاد. وكان للأب عند الرومان حق الحياة والموت على أبنائه، وهذا ما لا يقره الرومان ولا غير الرومان اليوم. وما تعارف عليه حتى الآن أهل إسبانيا من اتخاذ محاربة الثيران وسيلة للتسلية والرياضة، ينكره أهالي مستعمرة جبل طارق الإنجليزية وهي الجزء الجنوبي من إسبانيا نفسها. وأهل «برنو» يرون أن المرء لا يستحق أن يتزوج بفتاة إلا إذا قتل إنسانا وألقى رأسه عند قدميها، فهذا القتل هو سمة للنبل والشجاعة عندهم لا يقره قانون سماوي أو وضعي، بل ولا عرف غيرهم من القبائل الأخرى،
20
إلى غير هذه الأمثلة التي هي على حبل الذراع لمن يبتغيها في أسفار الرحالة الذين جابوا البلاد ونقلوا إلينا كثيرا من عادات الأمم الغريبة المختلفة، وهي شاهدة على اختلاف العرف وعدم صلاحيته مقياسا أخلاقيا.
21
الثاني:
عدم ابتنائه في كثير من الأمور على أساس يرضاه الدين والأخلاق؛ إذ ما أكثر تلك العادات التي أصبحت عرفا، ومبناها كما ذكرنا الحظ والمصادفة أو قصر النظر، ولا يقرها العقل بحال.
الثالث:
إنه قاتل لحرية التفكير في المرء تقريبا لأنه يفرض أوامره في كثير من الحالات فرضا، ولو التزم الناس العرف ووقفوا عند حدوده، لما تقدم العالم ولأصيب بالجمود، وحيل بينه وبين الارتقاء. وليس أكثر حركات المصلحين إلا ثورات على العادات السيئة والتقاليد البالية؛ ولذلك نعى الله في أكثر من موضع في القرآن الكريم على المشركين تمسكهم بما كان عليه آباؤهم من غير نظر ولا تفكير، فقال:
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون !
واعتبار الشرع له في بعض الحالات لا ينافي عدم صلاحيته لميزان الأعمال الأخلاقية؛ لأن الفقهاء إنما راعوه في الأمور المادية من حيث صحتها وفسادها، فتترتب أو لا تترتب عليها آثارها العملية، أما الأخلاق فمناط نظرها الأعمال الأدبية من ناحية خيريتها وشريتها، وكم من عمل يكون صحيحا شرعا وهو شر من جهة الأخلاق، كالذي يقف جانبا من ماله على بناء ملجأ لليتامى مثلا وقفا مستوفيا لشرائط الصحة، لكن باعثه هو الرياء والسمعة والطمع في رتبة من رتب الشرف الرسمية، هذا العمل صحيح شرعا لاستيفائه شروط الصحة في مثله، فتلزمه آثاره العملية من حبس العين وعدم التصرف فيها بالبيع ونحوه وصرف غلتها لمنافع الملجأ ومصارفه، إلا أن الأخلاق لا يمكن أن تعده خيرا لفساد الباعث عليه.
لهذه الأسباب وغيرها يتضح صحة ما رآه الأخلاقيون من عدم صلاحية العرف للقياس الخلقي، فلننتقل عنه إلى البحث في القياس الثاني وهو القانون. (8) القانون
أنواع القوانين، الفروق بينها (8-1) أنواعها
يعيش الإنسان في هذه الحياة وهو محاط بقوانين مختلفة ملزم بالخضوع لها، وإذا ما تتبعنا هذه القوانين وجدناها تنحصر في الأنواع الآتية: (1)
القوانين الطبيعية. (2)
القوانين البشرية أو الوضعية. (3)
القوانين الإلهية. (4)
القوانين الأخلاقية.
وكلمة «قانون» في اللغة معناها، كما جاء في «القاموس»: «مقياس كل شيء»، وهذا المعنى واضح في القوانين الوضعية والسماوية والأخلاقية دون القوانين الطبيعية، فإن إطلاق لفظ «القانون» على الظواهر التي تربط العناصر المادية بعضها ببعض فيه تسامح كبير. ولكل نوع من هذه القوانين الأربعة مميزات وخواص يجب المبادرة ببيانها حتى نعرف الصالح لقياس الأعمال منها. (8-2) القوانين الطبيعية
هي السنن التي تجري عليها الكائنات، والنظم التي قدر الله لها أن نخضع لها:
وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ،
والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ،
ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى .
وذلك يشمل القوانين التي يتعرفها العقل بالمشاهدة الصادقة والتجربة المطردة، كقانون الجاذبية، والمد والجزر، وتمدد الأجسام بالحرارة، وتجمد الماء إذا انخفضت حرارته إلى ما تحت الصفر، وذوبان الثلج إذا ارتفعت الحرارة إلى درجة الصفر أو ما فوقها، كما يشمل أيضا القوانين التي وصل إليها العقل بالفكر والنظر دون حاجة لتجربة أو مشاهدة؛ ولذلك أجمع الناس على القول بصحتها، مثل قوانين الحساب التي يقول بعضها: «الكميتان المساويتان لكمية ثالثة تكونان متساويتين»، وقوانين المنطق التي منها قانون التناقض القائل باستحالة اتصاف الشيء الواحد بصفة ونقيضها.
ومما تتميز به القوانين الطبيعية أنها ثابتة لا تتغير، وأنها عامة لا تقبل الاستثناء، وأنها نافذة على من عرفها ومن جهلها، وأنها تكشف لنا عن الواقع لا غير، لا عما ينبغي أن يكون.
هي ثابتة لا تتغير وإن تغير علم الناس بها، فالأرض منذ خلقها الله - تعالى - تدور حول الشمس، وإن اعتقد الناس حقبة من الزمن أن الشمس هي التي تدور حولها. وهي لا تقبل استثناء مطلقا، فليس في مقدور إنسان أن يمنع الماء من الغليان إذا وصل لدرجة المئة فوق الصفر، كما أنه ليس من الممكن منع النار من إحراق ما تتصل به من الأشياء. وهي نافذة على الصغير والكبير والعالم والجاهل، فالكهرباء تصعق من يلمسها وإن لم يعرف لها هذه الخاصة.
وعلم الأخلاق لا حاجة له ببحث هذه القوانين، وإنما الواجب على الإنسان السعي لتعرفها والكشف عنها لتزيد في رفاهيتنا وسعادة الإنسانية، فبمعرفة قوة البخار والكهرباء مثلا أمكن استخدامها في جميع مرافقنا استخداما عاد علينا بالخير العميم. (8-3) القوانين الوضعية
هذه القوانين هي مجموعة الأوامر والنواهي التي وضعها البشر لأنفسهم، فكل أمة لها قوانينها الخاصة التي وضعها الحاكم مباشرة أو بوساطة الهيئة التشريعية، فيطيعها الناس ويتخذونها مقياسا لهم، يشكلون أعمالهم على غرارها رغبة أو رهبة؛ لذلك كان المعنى الأصلي لكلمة «قانون» واضحا فيها.
ومن خواص هذه الطائفة من القوانين أنها لا تبين الواقع فقط كالقوانين الطبيعية، بل تأمر وتنهى، وأنها غير ثابتة بل تتغير تبعا لرقي المجتمع الذي وضعت له ولاختلاف الظروف والأحوال؛ ولهذا نجد هذه اللجان المتعددة التي ألفتها وزارة «العدل» لتغيير القوانين وتنقيحها.
كذلك من مميزات هذه القوانين أنه لا يؤاخذ بها إلا من عرفها وفهمها ووقف عليها، ومن ثم أوجبت الحكومات نشرها حتى يعلمها الناس، كما لا تنفذ على حديثي السن الذين لا يفهمونها. وأيضا هذه القوانين الوضعية قابلة للمخالفة، يستطيع أي إنسان ألا يعتد بها إذا كان مستعدا لتبعة مخالفته؛ ولذلك احتاجت لقوة خارجة عنها لتنفيذها. وإذا كانت القوانين الوضعية البشرية بهذه المثابة من التغير باختلاف الأمم والبيئات والأزمان، فهي لا تصلح أن تكون مقياسا أخلاقيا عاما دائما. (8-4) القوانين الإلهية
هذه القوانين هي الأوامر والنواهي التي شرعها الله - سبحانه وتعالى - لعباده، ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها تنزيل من حكيم حميد، شرعها لنا لنتخذها قدوة في جميع أمورنا، ونسير على سننها في معاملاتنا وسائر أحوالنا، واتباعها كفيل بسعادة الدنيا والآخرة.
وهذه الشرائع السماوية التي توجت بالشريعة الإسلامية ثابتة لا تتغير، عامة خالدة، صالحة في كل زمان ولجميع الناس على السواء، فهي لذلك صالحة لأن تكون مقياسا أخلاقيا إذا فهمنا حكمها وأسرارها. أما حاجتنا للبحث الأخلاقي مع وجودها فموضع الكلام فيها بعد بيان النوع الأخير من القوانين، وهو القوانين الأخلاقية. (8-5) القوانين الأخلاقية
هي مجموع القواعد الأدبية التي تنظم سلوك الناس، بمعنى أن الإنسان العاقل المختار في إرادته يجب أن يشكل سلوكه على ضوئها في ظروف الحياة المتنوعة، وبهذا نصل جميعا للمثل الأعلى للحياة الأخلاقية الكاملة.
والقوانين الأخلاقية ثابتة لا تتغير وإن تفاوتت الضمائر البشرية قليلا أو كثيرا في فهم معانيها أو تطبيقها بتأثير الزمن أو الملابسات المختلفة، فما كان خيرا في الماضي هو خير في نفسه في الحاضر وفي المستقبل أيضا، كالصدق والشجاعة والأمانة والمحافظة على الحياة مثلا. وهي مطلقة لا تقبل استثناء، فلا تتعلق بشرط ولا مفر لأحد منها؛ إذ تفرض نفسها بوساطة الضمير على الناس جميعا، وهي واضحة يفهمها الجميع على السواء، العالم والجاهل والبدوي والحضري؛ لأن الضمير يقرها لهم جميعا، وإن اختلفت أنظارهم في بعض الجزئيات. وقد تقدم لهذا زيادة بسط وإيضاح.
ومن خواص القوانين الأخلاقية أيضا أنها إلزامية يلتزم المرء طاعتها بدون إجبار من قوة خارجة عنها، وأنها من الممكن أن تكون عملية في كل الأحوال؛ لأن الإنسان العاقل يستطيع دائما تمييز الخير من الشر، ويريد طبعا من نفسه أن يكون خيرا في أعماله لا شريرا، وإنما كانت هكذا لأن من شرط الإلزام الإمكان، وإن أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع. (8-6) الفروق بين هذه القوانين
بمراجعة أنواع القوانين التي ذكرناها، ومميزات وخصائص كل منها، يستطاع تبين الفروق بينها، إلا أنه يهمنا إيضاح الفروق التي بين القوانين الوضعية والأخلاقية؛ لأن القوانين الطبيعية ليست كما قدمنا محل بحث علم الأخلاق، وإنما هي موضع عناية دارس العلوم الطبيعية، ولأن الفرق بين القوانين الإلهية والقوانين الأخلاقية لا يكاد يذكر، فإن استمدادها في جملتها وتفصيلها من الدين وما جاء به من تشريع عادل حكيم. (أ) الفرق بين القوانين الأخلاقية والوضعية
بين هذه النوعين من القوانين فروق متعددة يمكن إجمالها فيما يأتي: (1)
القوانين الوضعية من وضع الإنسان الذي راعى الظروف والأحوال المختلفة حين وضعها، أما القوانين الأخلاقية فمن وضع الضمير. (2)
لهذا كانت الأولى عرضة للتغيير والتبديل برقي الأمة وتقدمها أو تأخرها وانحطاطها، بخلاف الأخرى التي لا تتغير بحال وإن تغيرت آراء الناس فيها وأحكامهم على نتائجها، فعندنا مثلا مبدأ المحافظة على الحياة يقدسه كل فرد وإن أباح البعض قديما قتل الأسرى لضرورة حربية، ووأد البنات لأسباب اجتماعية تبرره في رأيه، مع وجود من كان ينكر هذه العادة في تلك الأزمان أشد الإنكار؛ ولهذا روى لنا المؤرخون أنه كان هناك من أشراف تميم في الجاهلية من مقت الوأد وعابه، فكان يشتري الموءودات من ذويهم بما يذهب الفقر، وممن عرف ذلك عنه غالب بن صعصعة جد الفرزدق الشاعر المعروف. (3)
وقد يظهر بالتطبيق عدم صلاحية القانون الوضعي، إما لجهل واضعه بشئون الأمة التي يشرع لها، أو لمحض الزمن واختلاف الحال. أما القانون الأخلاقي فلا يكون إلا صالحا دائما متى ثبت أنه أخلاقي. (4)
القانون الوضعي لا يثيب المطيع وإنما يؤاخذ العاصي المتمرد عليه، كما لا يؤاخذ إلا على نتائج الأعمال دون نظر لبواعثها. أما الأخلاقي فينظر إلى الأعمال والباعث عليها، ويثيب الطائع بالرضاء النفسي والهدوء وطمأنينة القلب والاحترام، كما يعاقب العاصي بالتأنيب الداخلي والاحتقار. (5)
القانون الوضعي يحتاج لقوة خارجة لتنفيذه تأخذ الخارج عليه؛ من شرطة ونيابة وقضاة. أما الأخلاقي فقوته التنفيذية هي الضمير وحده، وهو كما علمنا تلك القوة الداخلية والباطنية. (6)
وأخيرا لا تكلف القوانين الوضعية الإنسان إلا بالضروريات لصالحه وصالح المجتمع الذي يعيش فيه. أما الأخلاقية فتكلف بذلك وبالكماليات التي تزيد في سعادة الإنسانية ورفاهيتها، وتصل بين المرء والمثل الأعلى للحياة الأخلاقية الكاملة، مثلا يطالبنا القانون الوضعي بالمحافظة على أموال الناس، أما أموالنا الخاصة فأباح لنا حرية التصرف فيها بما نريد، ولكن قانون الأخلاق يأمرنا فوق المحافظة على أموال الغير بالتصرف في أموالنا بما فيه خيرنا وخير الأمة جميعا؛ ولهذا تندب الناس للتبرع للمستشفيات وجمعيات الخير، وتعد من الإثم القعود عن العمل للخير العام مع القدرة عليه. (ب) الحاجة للبحث الأخلاقي مع وجود القانون الإلهي
قد يقال: إذا كان القانون الإلهي بريئا من عيوب القوانين الوضعية، وكان هو أصل الأخلاق ومنبعها، فما الحاجة إذن للبحث في الأخلاق؟ ولماذا العناء في هذه الدراسات الطويلة المضنية؟
وجوابنا عن ذلك أن الدين وإن بين لنا الفضائل والرذائل والخير والشر، ورسم لنا ما نعمل وما لا نعمل، إلا أنه كما قلنا سابقا لم يفصل لنا علة ما جعله خيرا أو شرا من الأعمال، ولم يقفنا على المستوى الذي نحكم بحسبه على بعض الأعمال بأنها خير، وبعضها بأنها شر، وترك ذلك لعلم الأخلاق الذي يكسب دارسه الدقة في التقدير ووزن الأعمال ويوجه إرادته نحو الصالح منها.
وثم سبب آخر، وهو أن القانون السماوي، إذا فهمنا علل أحكامه وسبب مشروعيتها، وهذا ما قام به الفقهاء؛ لم يصل للصميم من أفئدة الناس جميعا، فلو اكتفى الأخلاقيون به لضل كثير طريق الفضيلة التي يرشد إليها الناس. القانون الأخلاقي يهدي إلى الخير، وتسترشد به الأمم التي انقطعت عن الشرائع السماوية حينا، كما تصل به الأمم التي وصل إليها الوحي في بعض الأحيان إلى تفهم الحقائق التي جاءتها عن الرسل والأنبياء، عليهم أفضل الصلاة والسلام.
المراجع
(1) المراجع العربية (1)
إحياء علوم الدين للإمام الغزالى. (2)
كتاب الأخلاق لأرسطو، ترجمة لطفي السيد باشا. (3)
تهذيب الأخلاق لمسكويه. (4)
الوراثة والبيئة وأثرهما في التربية، للمؤلف. (5)
مبادئ الفلسفة القديمة للفارابي. (6)
مقدمة ابن خلدون. (7)
المدخل إلى الفلسفة، تعريب الأستاذ أبى العلا عفيفي. (8)
الأخلاق لصمويل سميلز، وتعريب الأستاذ محمد الصادق حسين. (9)
تاريخ الأخلاق (للمؤلف)، الطبعة الثانية. (10)
مذكرة الأخلاق للأستاذ أمين الخولي. (11)
في الفكر اليهودي، للدكتور الحاخام هرتس، وتعريب الدكتور ألفريد يلوز. (12)
الوراثة وتحسين النسل للأستاذ الأبياري. (13)
أدب الدنيا والدين للبصري. (14)
تاريخ التربية للأستاذ مصطفى أمين. (15)
أصول التربية للأستاذ أمين قنديل. (16)
فلسفة النشوء والارتقاء. (17)
أصل الأنواع، ترجمة الأستاذ إسماعيل مظهر. (2) المراجع الفرنسية (1)
Challaye: Philosophie scientifique et philosophie morale. (2)
Renan: L’avenir de la science. (3)
Janet et Séalles: histoire de la philosophie. (4)
Cuvillier: Manuel de philosophie. (5)
Janet: Elements de philosophie scientifique et de philosophie morale. (6)
L. Bruhl: La morale et la science des mœurs. (7)
Rauh: L’expérience morale.
Página desconocida