ولكن السبق لا يستلزم الإيجاد، ويضربون لذلك مثل النور والصوت في قذيفة المدفع؛ فإن العين ترى النور قبل أن تسمع الأذن صوت القذيفة، ولا يقول أحد: إن النور هو سبب الصوت! أو إنه هو سبب القذيفة! وإن تكررت رؤيته وسماع الصوت بعده مئات المرات أو ألوف المرات، وكذلك صياح الديكة قبل طلوع النهار، ووصول قطار الصبح قبل قطار الضحى، ودخول المرءوسين في الصباح قبل دخول الرئيس إلى الديوان، وغير ذلك من المتلاحقات التي تقترن على ترتيب واحد، ولا يستلزم تلاحقها أن يكون السابق منها موجدا لما لحقه؛ بأي معنى من معاني الإيجاد.
كذلك يعترض العقل على السببية على المعنى المتقدم بأن التلازم بين الأسباب والنتائج في وقائع الطبيعة ليس تلازما عقليا كتلازم المقدمة والنتيجة في القضايا العقلية، وإنما هو تلازم المشاهدة والإحصاء، وغاية ما نملكه فيه أن نسجل هذه المشاهدة أو هذا الإحصاء.
فحدوث الصوت من القذيفة يقع على التواتر كما نسمعه، ولكن لا يلزم عقلا من تسلسل الحوادث التي تقع مع القذيفة أن نسمع ذلك الصوت، وإنما تستلزم حدوثه؛ لأنه قد حدث قبل ذلك مرات، ولا زيادة على ذلك في دواعي الاستلزام.
فكل ما هنالك - مما يسمى بالأسباب الطبيعية - إنما هو مقارنات في الحدوث، ولا تفسير فيها أمام العقل لتعليل الإيجاد.
قال الإمام الغزالي يرد على الفلاسفة:
إن الخصم يدعي أن فاعل الاحتراق هو النار فقط، وهو فاعل بالطبع لا بالاختيار، فلا يمكنه الكف عما هو طبعه، ولكن هذا غير صحيح؛ إذ إن فاعل الاحتراق هو الله تعالى بواسطة الملائكة أو بغير واسطة، وأما النار فهي جماد لا فعل لها، وليس للفلاسفة من دليل على قولهم إلا مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار، والمشاهدة تدل على الحصول عنده، ولا تدل على الحصول به.
ويقرب من رأى الغزالي هذا قول نيوتن صاحب مذهب الجاذبية في ملحق التعريفات.
فإنه يضرب المثل بجسم يتحرك من ألف إلى باء، ومن باء إلى جيم، ومن جيم إلى دال، فلا يمكن أن يقال في هذه الحالة: إن حركة الجسم من ألف إلى باء هي سبب حركته التالية من باء إلى جيم أو من جيم إلى دال! ويشبه هذا المثل مثل أصحاب ديكارت عن ساعة تدق، وساعة أخرى تدق بعدها على الدوام، فلا يمكن أن يقال: إن دقات الساعة الأولى هي سبب منشئ لدقات الساعة الثانية! وهكذا كل تلاحق في الحوادث والمشاهدات.
وقد ظهر الفيلسوف الإنجليزي دافيد هيوم بعد هؤلاء فبسط القول في مسألة السببية بسطا وافيا يفسر هذه الآراء المجملة، ولا يخرج عن فحوى ما قدمناه.
وإذا نظرنا إلى أصول الأسباب الكبرى تعذر على العقل أن ينسب الظواهر الطبيعية إلى هذه الأسباب التي تلازمها ثم يقف عندها، فمن العسير على العقل أن يسلم أن الظواهر المادية هي أسباب الحوادث بطبيعة مستمدة منها ملازمة لها، مستقرة فيها؛ لأن التسليم بهذا تسليم بوجود مئات أو ألوف من المادات كلها خالد، وكلها موجود بذاته، وكلها مع ذلك مؤثر في غيره، وهو مستحيل.
Página desconocida