وذلك على خلاف النفس التي تختلف بأذواقها ومشتهياتها بين فرد وفرد، وبين حال وحال.
فالعقل إذن هو الخالد الباقي الذي لا يفنى بفناء أجساد الأحياء، أما النفس فشأنها شأن الجسد في التميز والتحيز وقبول الفناء. •••
ومن الماديين من يأتي وسطا بين المجردين والمجسدين؛ فعندهم أن وجود الروح لاحق لوجود الجسد، وأن الجسد إذا ترقى في التركيب نشأت من تركيبه وحدة معنوية أو شخصية مستقلة صالحة للبقاء بمعزل عنه، وكانت وجودا جديدا لا ينعدم؛ لأن الموجود لا يقبل العدم، ولا فرق في ذلك بين وجود الكيفية ووجود الكم أو المقدار.
وأقرب ما يمثلون به لذلك وجود القصيدة في قريحة الشاعر، أو وجود اللحن الموسيقي في قريحة الموسيقار، أو وجود الفكرة في قريحة الفيلسوف.
فهذه الوحدات المعنوية من عمل الشاعر والموسيقار والفيلسوف، ولكنها استقلت بوجود قابل للبقاء بعد زوال من خلقوها وانفردوا بخلقها بين أصحاب القرائح التي لا تحصى.
وتمثيلهم هذا تمثيل تقريب وليس بتمثيل تحقيق؛ لأنهم يقصدون أن «الشخصية الروحية» التي يتمخض عنها تركيب الجسد أو تركيب الدماغ خاصة هي كيان قائم بذاته وليس بالكيان الذي يتوقف على غيره كقصيدة الشاعر ولحن الموسيقار وفكرة الفيلسوف، وكل منها لا يقوم إلا بسامع أو معين. •••
وإذا أردنا أن نشمل بالكلام في الروح أحاديث القائلين بتحضير الأرواح؛ فالأسئلة هنا تتوارد من أصحاب الدين كما تتوارد من أصحاب العلم وأصحاب الفلسفة.
فلك أن تسأل: هل السيطرة على الأرواح مسألة قدسية إلهية؟ أو هي مسألة آلية صناعية؟
إن كانت قدسية إلهية فما هذه الآلات والأشعة والمصورات والمحركات؟ وما هذا الارتباط بين تحضير الأرواح الحديث والمخترعات الحديثة؟ وما هذه السيطرة على الأرواح بسلطان تلك الآلات والمخترعات في أيدي قوم لم تعرف عنهم قداسة ضمير أو رياضة نسك وصلاح؟
وإن كانت صناعية فأي تغليب للمادة على الروح أقوى من هذا التغليب الذي ينوط كشف الأرواح بتقدم الصناعات والمخترعات؟ ويجعل عالم الروح كعالم المادة تابعا لآلة تدار أو مخترع جديد لم يكن معروفا قبل القرن العشرين؟ وكيف نفسر أن عالم الروح كله لم يستطع بجهوده وبواعثه أن ينفذ إلى عالم المادة، وأن عالم المادة استطاع ببعض الأجهزة أن ينفذ إلى عالم الروح؟ وهل سعت الأرواح إلينا فعجزت في مسعاها؟ أو هي لم تسع قط ونحن الذين أرغمناها على الظهور لنا والتحدث إلينا؟ وما معنى قدرتنا وعجزها في هذه الجهود التي لا قوة لنا فيها لغير أدوات التحضير؟ •••
Página desconocida