عملت الفيلسوفة سيمون فايل
S. Weil (1909-1943) أستاذة مبرزة في الفلسفة في التعليم الثانوي لمدة أربع سنوات، إلا أنها سرعان ما ستتخلى عن وظيفتها، بعد أن قررت أن تصبح عاملة في المصانع الفرنسية، بفضل أفكارها الماركسية (معادية للستالينية)، حيث تبدي دوما تعاطفا لا متناهيا مع الفقراء والبسطاء الذين تقتسم معهم كل ما تملك، بما فيها أجرتها الشهرية (قررت العيش بخمسة فرنكات فرنسية في اليوم، وتودع ما تبقى من أجرتها الشهرية في صندوق التضامن مع عمال المناجم). وكانت سيمون تلتقي مع العاطلين والعمال في المقاهي، وتمنحهم ثقافة عامة للالتزام السياسي، فيما يشبه تعليما شعبيا للجميع، تبسط فيه قضايا راهنة وإشكالات المجتمع الغربي. وأعطت دروسا في الجامعات الشعبية (انخرطت بصدق في تحليل القضايا التي شغلت عصرها في المنابر التقدمية).
تنتمي سيمون فايل إلى عائلة يهودية-برجوازية، وهي أخت عالم الرياضيات أندري فايل، والتلميذة النجيبة للفيلسوف الفرنسي اللامع: آلان
Alain (إميل شارتييه)، الذي أثر فيها تأثيرا بليغا، واستلهمت منه أسلوبه في الكتابة والتعبير، وظلت وفية له ولروحه. وقد شجعها كثيرا بمناسبة صدور دراستها «تأملات حول أسباب القمع والحرية»، معتبرا إياها قلما واعدا ونبراسا للأجيال المقبلة.
لم تعمر العذراء الحمراء (كما هو نعتها الآن)، سوى أربعة وثلاثين سنة، كتبت خلالها ما يعادل خمسة وعشرين كتابا، تشهد على أنها فيلسوفة متجذرة وشرسة بشكل غير مسبوق. صدرت أعمالها كاملة عن دار غاليمار، في سبعة عشر جزءا، موزعة على سبعة مجلدات. لم تكن فايل مجرد مدرسة عادية تؤدي وظيفة مؤسساتية، بل كانت نموذجا لفيلسوفة ملتزمة بقضايا المضطهدين الذين كافحت من أجلهم طوال حياتها، مناضلة نقابية وسياسية شاركت في حملات التضامن والإضرابات القطاعية (شاركت بقوة في الإضراب الشهير سنة 1936)، وجالست العاطلين والعمال وخبرت محنتهم، كما صادقت تلامذتها وأحبتهم بإخلاص؛ مما أتاح لها أن تضع أسسا جديدة لتربية تقوم على التمرد على الجاهز والمألوف. والتحقت بالمقاومة الإسبانية سنة 1936 إبان الحرب الأهلية لمواجهة انقلاب فرانكو الفاشي. وسمت فايل بكونها الفيلسوفة الروحانية أو الفيلسوفة الماركسية ذات النفحات الصوفية، غير أن ما آل إليه فكرها، في السنوات الأخيرة من حياتها، ما بين 1940 و1943، كان أقرب إلى الفلسفة الصوفية منه إلى الماركسية. ولنا شهادة في رسالة من تروتسكي إلى فيكتور سيرج يوم 30 يوليو (تموز) 1936، يدعوه إلى قطع العلاقة مع فايل لأنها لم تعد متحمسة للفكر الثوري، ولم تعد مناصرة لقضايا البروليتاريا هذا النبي الأعزل بتعبير إسحاق دويتشر، استقبلته فايل في منزل عائلتها في ديسمبر (كانون الأول) 1933. انظر: («سيمون فايل»: حوار مع تروتسكي، 2014).
لا نجزم ما إن كانت حنة آرنت قد استعارت عنوان «شرط الإنسان الحديث» من سيمون فايل، الذي تحدثت قبله عن الشرط العمالي؛ ففي كتابها هذا، ترصد عذراء الفلسفة المعاصرة، مجموع الشروط التي تعاني منها اليد العاملة الصناعية في فرنسا. وقد مثل اقتحامها للعمل في المصانع، أقصى درجات الالتزام السياسي بقضايا المستغلين، حيث صار الاستغلال والاضطهاد ومختلف أنواع القهر والاستعباد المعاصر، عيشا يوميا ملازما لها طوال تلك التجربة، أو ذلك «اللقاء مع الحياة الحقيقية والفعلية»، كما عبرت في رسالتها إلى تلميذة (الشرط العمالي، 20)؛ ولهذا يعود لها الفضل في اختبارها حقيقة أفكار ماركس ومن تبعه في المذهب من مختلف المدارس، وما شعارها البراق إلا خير دليل على ما خبرته: «الوحوش الثلاثة للحضارة البشرية الراهنة، هي المال والتقانة والجبر».
بدءا من سنة 1938، دخلت فايل في علاقات مع كثير من رجال الدين، ومنهم تحديدا جوزيف ماري بيرين (صاحبته ما بين 1940-1942)، وقد أثر فيها كثيرا، ولعب دورا في تجربتها الروحية التي طمستها طوال حياتها، ولم تظهر إلا من خلال رسائلها، بعد وفاتها (نتيجة نوبة قلبية قد يكون السبب وراء معاناتها الطويلة مع مرض السل). وقد سبق لفايل أن تحدثت عن الموت قبل وفاتها، «لقد فكرت في الموت في سن 14 بعد أن عشت شهورا في الظلمات» (الرسالة الرابعة: السيرة الروحية - في انتظار الله). لهذا «امتنعت دائما، عن التفكير في حياة مستقبلية. وصرخت دوما أن لحظة الموت هي معيار وهدف الحياة» (الرسالة الرابعة)؛ لأن المستقبل في نظرها «لن يجلب لنا أي شيء، ولن يمنحنا أي شيء؛ إننا نحن من يصنعه، من يمنحه كل شيء بما فيه حياتنا نفسها».
ليس لدينا دليل فيما إن كانت فايل قد التقت مع حنة آرنت، لكن من المؤكد أن بينهن علاقة فكرية غير مباشرة، وبالقدر الذي نعرف آرنت كمناهضة للتوتاليتاريا وللفكر الجامد والوثوقي، ينبغي أن نعترف أن سيمون فايل، قد خطت كلماتها القوية ضد الفاشية وضد الأنظمة الشمولية، في «تأملات في قضايا الحرية والقهر الاجتماعي»، وفي «كتاباتها السياسية والتاريخية» التي جمعت فيما بعد. وعلى هذا الأساس، فإن فكر حنة آرنت الفلسفي، يلتقي مع فكر سيمون فايل في كثير من القضايا من قبيل: العنف، الشر، الحرية، الألم، الحقيقة، التجذر، نقد التوتاليتاريا، المحبة ... أي في مجمل قضايا السياسة والأخلاق والدين.
يمنح صدق فايل لكلماتها معاني خاصة جدا، معاني نابعة من عمق مأساتها التي تعتبرها بمثابة بلاء، عليها أن تتحمله حبا في الله. وكما تقول في سيرتها الروحية: «تغيرت حياتي لأول مرة في سفري إلى إيطاليا، حينما ركعت على ركبتي أمام الكنيسة» (في انتظار الله). غير أن هذا الحدث لم يكن وحده كافيا لتفسير صلة فايل بالدين المسيحي؛ لأنها لم تمارس التدين يوما، واكتفت بالإيمان بالله ومحبته؛ لأن «الحب إلهي يحطم القلب الإنساني لما ينفذ إليه» (المعرفة الخارقة، 308). تلك المحبة التي «هي الله ذاته» (رسالة إلى الأب جو بوسكيه)، بالقدر الذي صارت فيه الطبيعة عند اسبينوزا متوحدة في الله؛ لهذا: «خلق الله عن محبة ومن أجل المحبة. لم يخلق الله غير المحبة ذاتها وغير طرق المحبة. خلق كل أشكال المحبة. خلق كائنات قادرة على المحبة من جميع المسافات الممكنة. أتى، هو نفسه؛ لأنه لا أحد غيره قادر على القيام بذلك، إلى المسافة القصوى، المسافة اللانهائية. هذه المسافة اللانهائية بين الله والله، كآبة
déchirement
Página desconocida