فيقول أبي: تريد أن ترثني وأنا حي؟ عيب أن تشك في، ولن يضيع حق.
لكن اضطراب أخي لم يسكن، يلح على أبي كلما لاقاه، ويقذف بتهديداته من وراء ظهره.
وتقول أمي إنها تخاف على أخي أكثر مما تخاف على الثروة. وأتساءل: هل ينهزم أبي أمام بنت حلوة؟ ذلك المعلم القادر المحاسب المدقق رغم أميته؟! ولكنه يتغير بلا شك وينزلق كل يوم درجة. يختلف إلى الحمام الهندي مرتين في الشهر، يهذب لحيته ويحف شاربه كل أسبوع، يرفل في ثياب جديدة، وأخيرا يصبغ شعره. هداياه الثمينة تشي بحسنها حول عنق العروس وفوق صدرها وحول ساعديها. وها هي الشيفروليه والسواق تنتظر أمام بيتنا. ويجن أخي الأكبر ويزداد جنونا. يقول لي: من أين جاء بها؟ هل يعز عليها أن تهتدي إلى مفتاح الخزانة وطريقة فتحها؟ ألا تأخذ منه ما يؤمن حياتها؟ ألا تستطيع أن تسعده إذا شاءت أو أن تقلب حياته غما ونكدا؟! ويتطور الجدل بين أخي وأبي، فيخرق تقاليد الأدب. يغضب أبي فيبصق على وجهه . في ثورة متفجرة يتناول أباجورة ويقذف بها أباه فيهرق دمه. ويرى الدم فيفزع ولكنه يتمادى محاولا القضاء عليه. يحول بينهما الطاهي والسواق. يصر أبي على إبلاغ الشرطة، فيحمل أخي إلى المحكمة، ثم إلى السجن حيث يموت بعد انقضاء عام واحد، وأقول للمحامي: كيف وجدت الشجاعة على رفع دعواها؟
فيقول الرجل: للضرورة أحكام.
وفي حومة قلقنا وحدادنا نسمع صواتا مفزعا ينقض علينا من الدور الأعلى. نهرع أنا وأمي دون استئذان لنقف مبهوتين أمام جثة أبي. ونتساءل ونتساءل كالمألوف، ولكن أي تساؤل يجدي مع الموت؟! وتتسرب إلينا الأنباء بأنه سقط مشلولا قبل الوفاة بيوم كامل دون أن ندري. وننتظر حتى يوارى في مدفنه وتنتهي طقوس العزاء. وتجتمع الأسرة فينضم إلينا أخواتي وأزواجهن وينضم إليها أبواها، ويحضر أيضا المحامي. نسأل عن مفتاح الخزانة فتجيب ببساطة: إنها لا تدري عن ذلك شيئا. أحيانا وقاحة الكذب تفوق كل خيال، ولكن ما الحيلة؟ ونعثر على المفتاح، وتبوح الخزانة بسرها الأخير مبدية لنا في سخرية بالغة عن رزمة لا تتجاوز خمسة آلاف جنيه عدا! وتهتف الحناجر: إذن فأين ثروة الرجل؟
وتحدق بالجميلة الأعين فتثبت لوقعها بتحد، ونلجأ إلى الشرطة. ويكون تحقيق وتفتيش، وكما قالت أمي: نخرج من المولد بلا حمص. وتذهب الزوجة الجميلة إلى بيت والديها ويسدل الستار عليها وعلى التركة. وتموت أمي، وأعمل وأتزوج وأحقق نجاحا مرموقا، وأتناسى الماضي حتى ترجعني إليه القضية. وأقول للمحامي: قمة السخرية حقا أن تفرض علي نفقة لتلك المرأة.
فجاءني صوته من بين الأضابير فوق مكتبه قائلا: القصة القديمة تصلح في الظاهر منطلقا للعرض، ولكن ما جدوى نبشها ونحن لا نملك دليلا عليها؟
فقلت بحماس: القضية القديمة غير معروضة للبحث، ولكنها مدخل طيب له تأثيره الذي لا يستهان به. - بالعكس، سنهيئ لمحامي المرأة فرصة للهجوم واستدرار العطف. - العطف؟! - حلمك، فكر معي بشيء من الحياد، عجوز يكنز ثروته في خزانة بحجرة نومه، يشتري صبية جميلة في العشرين وهو ابن خمسة وخمسين، يحدث لأسرته كيت وكيت، ويحدث لزوجه الجميلة كيت وكيت، عظيم، من يكون الجاني؟!
صمت مقطبا مغتما فواصل: لنمض في سبيل آخر، فأنت رجل منتج وذو أسرة، وتكاليف الحياة أبهظ من أن يحتملها إنسان .. إلخ .. إلخ، وحسبنا أن تقرر نفقة معقولة.
ورحت أتمتم: يا للخسارة! .. سرقتنا وموت أخي وحسرة أمي! - آسف .. إنها ضحية مثلكم، حتى الثروة التي نهبتها دفعت بها إلى كارثة، وها هي تتسول.
Página desconocida