أحيانا يصدق ولا يصدق أحيانا. في فترة الجفاف تنبثق له وردة مشتعلة الأوراق. ويتوقع مفاجأة لا تريد أن تقع، ويتمادى في لهفة وراء النشوات. حتى شعر ذات صباح أنه في أشد الحاجة إلى لقاء طبيبه، لم يستطع أن يغادر فراشه وكان ذا خبرة سابقة، وجاء الطبيب وراح يفحصه بعناية وهو يقول: انقطعت عني مدة غير قصيرة.
لاذ بالصمت أو أجبر عليه، وفرغ الطبيب من فحصه فقال: أزمة بسيطة ولكن الأفضل أن تنتقل إلى المستشفى، ما رأيك؟
أجاب بصوت ضعيف: كما تشاء. - هناك ستجد كل ما يلزم وسوف أرتب كل شيء، وإن شاء الله تسترد صحتك في أقرب وقت. - أشك في هذا. - ليس الأمر بالخطورة التي تظن. - بل هو خطير حقا. - سوف أذكرك.
وتردد الطبيب قليلا ثم قال باسما: يبدو أنك لم تعمل بنصيحتي!
فقال وهو يسدل جفنيه: ولست نادما على ذلك.
يوم الوداع
الحياة ماضية بكل جلبتها كأن شيئا لم يكن، كل مخلوق ينطوي على سره وينفرد به. لا يمكن أن أكون الوحيد، لو تجسدت خواطر الباطن لنشرت جرائم وبطولات، بالنسبة لي انتهت التجربة من جراء حركة عمياء، لم تبق إلا جولة وداع عند مفترق الطرق تحتدم العواطف وتنبعث الذكريات. ما أشد اضطرابي! تلزمني قدرة خارقة للسيطرة على نفسي، وإلا تلاشت لحظات الوداع، انظر وتمل كل شيء، وانتقل من مكان إلى مكان، ففي كل ركن سعادة منسية يجب أن تذكر، يا لها من ضربة مفعمة بالحنق والغيظ والكراهية! اندفعت بقوة طائشة ونسيان تام للعواقب، تطايرت حياة لا بأس بها. انظر وتذكر واسعد ثم احزن. لأسباب لا وقت لإحصائها انقلب الملاك شيطانا، شد ما يلحق الفساد بكل شيء طيب، واقتلع الحب من قلبي فتحجر. لنتناس ذلك في الوقت القصير الباقي، يا لها من ضربة قاضية! ما الأهمية؟ هذا شارع بورسعيد يتحرك تحت مظلة من سحب الخريف البيضاء. الأبخرة المتصاعدة من صدري تغبش جمال الأشياء، وغمزات الحنين من الماضي البعيد تطرق أبواب قلبي، قدماي تجرانني إلى زيارة أختي. وجهها الهادي الشاحب يطالعني من وراء شراعة الباب، يشيع فيه السرور وتقول: خطوة عزيزة على غير توقع، في هذا الوقت الباكر.
ذهبت لتعد القهوة وجلست في حجرة المعيشة أنتظر، نظر إلي الوالدان والإخوة الراحلون من صورهم القائمة فوق المناضد. لم يبق لي إلا هذه الأخت الأرمل المحرومة من الذرية التي وهبت موفور حبها لي ولسميرة وجمال. هل جئت لأوصيها بابنتي وابني؟ رجعت بالقهوة ومن داخل روبها الأبيض تساءلت: لم لم تذهب إلى الشركة؟ - إجازة لوعكة. - واضح ذلك من وجهك، نزلة برد؟ - نعم. - لا تهمل نفسك.
بدأ وجهي يفضحني. ترى ماذا يجري في شقتي التعيسة الآن؟ - زارني أمس سميرة وجمال. - إنهما يحبانك كما تحبينهما. - وكيف حال سهام؟
يا له من سؤال بريء! - بخير. - ألم يتحسن الجو بينكما؟ - لا أظن. - دائما أنصحها وأشعر بأنها تضيق بي.
Página desconocida