أضف إلى ذلك، أن بعض المسلمين - وخاصة من سكان البادية - كانوا ينزعون في معيشتهم الاجتماعية النزعة الجاهلية من مهاجاة وحمية وشراب ونحو ذلك، روي أن عمر بن الخطاب حبس الحطيئة؛ لأنه كان يقول الهجر ويمدح الناس، ويذمهم بما ليس فيهم، ثم أطلقه، فلما ولى ناداه فرجع، فقال عمر: كأني بك يا حطيئة عند فتى من قريش، قد بسط لك نمرقة
16
وكسر لك أخرى، ثم قال: غننا يا حطيئة فطفقت تغنيه بأعراض الناس! قال زيد بن أسلم: ثم رأيت الحطيئة يوما بعد ذلك عند عبيد الله بن عمر، قد بسط نمرقة وكسر له أخرى، ثم قال: تغنينا يا حطيئة وهو يغنيه، فقلت: يا حطيئة، أما تذكر قول عمر؟! ففزع وقال: رحم الله ذلك المرء، أما لو كان حيا ما فعلنا هذا!
بل كثير من شبان بني أمية، وبعض شبان بني هاشم كانوا يعيشون عيشة هي إلى الجاهلية أقرب منها إلى الإسلام، شراب وصيد وغزل، كيزيد بن معاوية وصحبه، فقد حكى المسعودي «أنه كان صاحب طرب وجوارح وكلاب (للصيد) ومنادمة على الشراب، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب، وغلب على أصحاب يزيد وعماله ما كان يفعله».
إن شئت فاقرأ سيرة الوليد بن عقبة الأموي، وهو أخو عثمان بن عفان لأمه، وكان من فتيان قريش وشعرائهم وشجعانهم وأجوادهم، وولي الكوفة لعثمان، ترى حياة لم يؤثر فيها الإسلام كثيرا، يتهتك في الشراب، ويتخذ بيته ملجأ للمراق من أهل العراق، إلى غير ذلك من كرم جاهلي، وعصبية جاهلية
17 ، وروى الأغاني «أن الحارث بن خالد المخرومي ولاه عبد الله بن مروان مكة، وكان الحارث يهوى عائشة بنت طلحة، فأرسلت إليه: أخر الصلاة حتى أفرغ من طوافي؛ فأمر المؤذنين فأخروا الصلاة حتى فرغت من طوافها، وأنكر أهل الموسم ذلك من فعله وأعظموه، فعزله»
18 .
بجانب هذا ترى قوما صبغهم الإسلام صبغة جديدة، حتى انقطعت الصلة بينهم جاهليين وبينهم مسلمين، كالذي ترى في سيرة أبي بكر وعمر وكثير من الصحابة: ورع وزهد وتواضع والتزام شديد لأوامر الدين، وحياة تستطيع أن ترى فيها مأخذا جاهليا ينافي الإسلام، وتجد في خطبهم وكتبهم وأقوالهم أثر الإسلام بينا، حتى كأنهم خلقوا في الإسلام خلقا جديدا.
الحق أن النزاع بين النفسية الإسلامية والنزعات الإسلامية، والنفسية الجاهلية والنزعات الجاهلية كان شديدا، وكان عهده طويلا، وأن الإسلام لم يصبغ العرب صبغة واحدة على السواء، بل إن خير من تأثر به هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، أولئك وصل الدين إلى أعماق نفوسهم، وأخلصوا له وأنفذوا أوامره؛ فأما من أسلموا يوم الفتح أو بعده وظلوا على كفرهم وعنادهم حتى رأوا النبي
صلى الله عليه وسلم
Página desconocida