وفوق هذا كان عرب الحيرة أكثر استقلالا، فهم لا يرتبطون بفارس إلا بما توجبه المعاهدات عليهم، وقد اعتاد ملك الفرس أن ينصب أميرا من قبيلة لخم (وهي قبيلة من أصل يمني كما يذكر النسابون) وإذا مات الأمير عين من يختاره من بيته.
كان عرب الحيرة إذ ذاك في رخاء يحسدهم عليه غيرهم من العرب لخصب أرضهم، وغنى إقليمهم، وكانوا هم الصلة بين الفرس وعرب الجزيرة، يحملون إليهم التجارة الفارسية، ويبيعونها في أسواقهم، ويبشرون بالفرس ومدنيتهم، وفي عهد يزدجرد الأول (399-420م) أرسل الملك أكبر أبنائه (بهرام) إلى عرب الحيرة لينشأ بينهم، ويتعلم الصيد، وينعم بجودة الهواء؛ وذلك في عهد النعمان الأول، وكان بهرام جور هذا يعرف العربية كما يعرف اليونانية، وقد نازعه على الملك أخوه بعد وفاة يزدجرد، فعاونه العرب وتعصبوا له؛ فلما اعتلى عرشه لم ينس ما كان لعرب الحيرة من يد عليه فقربهم وأعلى شأنهم.
ويظهر أن الحيرة بلغت شأوها أيام المنذر الثالث، وكان معاصرا لجوستنيان، حتى روى بعض المؤرخين أنه لما عقد الصلح بين الفرس والرومان سنة 522م كان من شروطه أن يدفع الرومان قدرا من المال لملك الفرس وللمنذر، وبعد ذلك بسنين أحس المنذر بضعف الفرس فتحالف مع الرومان، ثم مال بعد إلى الفرس فأسره الرومانيون ونفوه إلى صقلية.
وبعده ولي النعمان بن المنذر الخامس زوج هند، وهو الملقب بأبي قابوس وصاحب النابغة الذبياني، وقد غضب عليه كسرى ففر هاربا ثم لجأ إليه فحبسه حتى مات، وكان ذلك حوالي 602 م، وبموته ألغت الحكومة الفارسية نظام إمارة اللخميين، وولت من قبلها حاكما فارسيا يخضع له أمراء العرب، واستمر الحال على هذا حتى سنة 633م حين فتحها خالد بن الوليد.
كان عرب الحيرة أرقى عقلا ومدنية من عرب الجزيرة لتحضرهم ولمجاورتهم مدنية الفرس العظيمة، واتصالهم بهم اتصالا وثيقا، وكان منهم من يعرف اللغة الفارسية ويجيدها؛ ففي ابن خلدون «أن عدي بن زيد (الحيري) كان من تراجمة أبرويز (ملك الفرس) وأن أباه زيدا كان شاعرا خطيبا وقارئا كتاب العرب والفرس»
3
ولا شك أن معرفة بعض هؤلاء الحيريين للغة الفرس كانت واسطة لنقل شيء من حضارتهم وآدابهم إلى العرب.
بل إن عرب الحيرة هؤلاء تسرب إليهم شيء من علوم اليونان وآدابهم؛ ذلك أن الحكومة الفارسية في عهد هرمز الأول أنشأت مستعمرات كونتها من أسرى الحرب الرومانيين، وكان من بين هؤلاء الأسرى من ثقف بالثقافة اليونانية، ومنهم من كان يفوق الفرس في الفن والهندسة والطب فاستخدموه في مهام شئونهم، ومن هؤلاء الأسرى من نزلوا الحيرة؛ ويظن بعضهم أنهم هم منبع النصرانية فيها؛ وعلى كل حال فقد كان في الحيرة مبشرون بالنصرانية داعون إليها، ولبى الدعوة منهم هند زوج النعمان الخامس وقد أنشأت ديرا سمي بدير هند كان إلى عهد الطبري.
وقد كان لعرب الحيرة وأمرائهم وتاريخهم أثر كبير في الأدب العربي والحياة العقلية للعرب عامة، فأحاديث جذيمة الأبرش وأساطير الزباء (وهما من الحيرة قبل إنشاء الإمارة التي ذكرناها) والخورنق والسدير والتغني بهما وبعظمهما، والأقاصيص حول سنمار باني الخورنق والأمثال التي ضربت فيه، ويوما النعمان: يوم نعيمه ويوم بؤسه، كل هذه وأمثالها شغلت جزءا كبيرا من الأدب العربي، وكلها تتعلق بعرب الحيرة وحياتهم، أضف إلى ذلك ما ذكره «ابن رسته» في «الأعلاق النفيسة» من أن أهل الحيرة علموا قريشا الزندقة في الجاهلية، والكتابة في صدر الإسلام.
وكان أمراء الحيرة مقصدا لشعراء عرب الجزيرة ينفحونهم بالمال الكثير ليبشروا بهم بين البدو وفي أنحاء الجزيرة، وديوان النابغة الذبياني مملوء بالقصائد التي قيلت في مدح النعمان والاعتذار إليه ونحو ذلك.
Página desconocida