ويروي الأغاني «أن عبد الحكم بن عمرو بن عبد الله بن صفوان الجمحي (وكان في العصر الأموي) قد اتخذ بيتا فجعل فيه شطرنجات ونردات وقرقات ودفاتر فيها من كل علم، وجعل في الجدار أوتادا، فمن جاء علق ثيابه على وتد منها، ثم جر دفترا فقرأه، أو بعض ما يلعب به فلعب به»
40 .
وهذه كما ترى صورة لناد فيه أدوات اللعب وأدوات القراءة وفيه لعب وقراءة.
ويقول ابن خلكان أيضا إن ابن شهاب الزهري «كان إذا جلس في بيته وضع كتبه حوله، فيشتغل بها عن كل شيء من أمور الدنيا، فقالت له امرأته يوما: والله لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر»، وقد توفي سنة 124ه، «وأن أبا عمرو بن العلاء وقد ولد نحو سنة سبعين للهجرة كانت كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتا له إلى قريب من السقف، ثم إنه تقرأ - أي: تنسك - فأخرجها
41
كلها، فلما رجع إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه بقلبه، وكانت عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية»؛ وقد روينا من قبل أن خالد بن يزيد بن معاوية كتب ثلاث رسائل في الكيمياء وما إليها، ذكر ابن النديم أن زياد بن أبيه ألف كتابا في علم الأنساب في مثالب العرب، وطعن فيه في أنسابهم لما طعن الناس فيه.
هؤلاء وأمثالهم كانوا في العصر الأموي، وهذه الأخبار وإن كان بعضها محلا للشك، فهي في جملتها تدلنا على أن التدوين لم ينشأ في العصر العباسي كما يزعم بعضهم، ولكنه كان قبل ذلك، ويظهر مما عثرنا عليه أن التدوين بدأ بتقييد العلم من غير أن تظهر فيه للمؤلف شخصية ما، وليس له إلا الجمع، وكانت الكتب عبارة عن صحف يكتب عليها، وقد تكون صحفا مفرقة ومبعثرة، فلما دخل الفرس والروم في الإسلام - وكانوا ذوي حضارة قديمة وكتب مؤلفة من قبل - أدخلوا على اللغة العربية بعد أن تعلموها نظام تأليف الكتب بالمعنى الذي نفهمه الآن من جمع ما يتعلق بالموضوع الواحد في كتاب واحد.
ولكن ما كتب في عصر الأمويين لم يصل إلى أيدينا منه إلا القليل، وأغلب هذه الكتب أخذت عن العلماء من طريق الرواية، وأدمجت في كتب العباسيين التي كانت أتم نظاما، وأرقى في فن التأليف؛ وبعض هذه الكتب الأموية كانت موجودة في العصر العباسي وما بعده؛ فابن النديم يقول: إنه رأى صفحات أبي الأسود الدؤلي في النحو، وإنه رأى كتاب عبيد بن شرية في الأمثال؛ وابن خلكان يقول: إنه رأى كتاب وهب بن منبه في تاريخ اليمن، ولكن في عهدنا هذا لم يصلنا شيء يصح أن يوثق به إلا قليلا.
هذا مجمل الحركة العلمية في ذلك العصر، وسيأتي بعض تفصيل لها في الأبواب التالية.
الفصل الرابع عشر
Página desconocida