على أن «بتاح حتب» يحض ابنه بقوله له: «اتبع لبك (أي روحك) ما دمت حيا، ولا تفعلن أكثر مما قيل لك، ولا تنقص من الوقت الذي تتبع فيه قلبك، ولا تشغلن نفسك يوميا بغير ما يتطلبه بيتك، وعندما يواتيك الثراء متع نفسك؛ لأن الثراء لا تتم (فائدته) إذا كان صاحبه معذبا.»
ولا غرابة في أن تكون الشفقة عند رجل بمثل هذه الروح من الأمور المألوفة؛ ولهذا نرى ذلك الوزير المسن يقول لابنه: «إذا كنت حاكما فكن شفيقا حينما تسمع كلام المتظلم، ولا تسئ إليه قبل أن يغسل بطنه ويفرغ من قول ما قد جاء من أجله ... وإنها لفضيلة يزدان بها القلب أن يستمع مشفقا.»
وليس هناك من شك في أن تكون هذه الشفقة ذات علاقة وطيدة بالمعاملة الحسنة المبنية على الحق، ولا غرابة إذن إذا وجدنا الحق والعدالة قد اتخذا لهما مكانة في «حكم بتاح حتب» تسامت على كل مكانة، حيث يقول: «إذا كنت حاكما تصدر الأوامر للشعب فابحث لنفسك عن كل سابقة حسنة حتى تستمر أوامرك ثابتة لا غبار عليها. إن الحق جميل وقيمته خالدة، ولم يتزحزح من مكانه منذ خلق؛ لأن العقاب يحل بمن يعبث بقوانينه، وقد تذهب المصائب بالثروة، ولكن الحق لا يذهب بل يمكث ويبقى، والرجل المستقيم يقول عنه: «إنه متاع والدي قد ورثته عنه».»
ومن ثم كان نصح ذلك الشاب بأنه عندما يقوم بأية مهمة يجب أن: «يتعلق بأهداب الصدق (أو الحق) ولا يتخطاه حتى ولو كان التقرير الذي يقدمه لا يسر القلب.» ولذلك كان لزاما على ذلك الشاب أيضا أن يبلغ رئيسه الحقائق حتى ولو كانت مرة.
ولا شك في أن هذه السبيل كانت تتطلب قوة خلق عظيمة، وهذا ما كان يرجوه ذلك الحكيم لابنه؛ إذ يقول له: «حصل الأخلاق ... واعمل على نشر العدالة وبذلك تحيا ذريتك.»
وكذلك يذكر ابنه: «بأن الفضيلة التي يتحلى بها الابن لها قيمتها عند الأب، والخلق الحسن يبقى شيئا مذكورا.» ويقول له أيضا: «فإذا استمعت ووعيت ما ألقيته عليك فإن كل صنيع لك سيكون على غرار عمل الأجداد، أما انطباق هذه الأشياء على العدالة فالفضل فيه يرجع لهم (أي للأجداد)، وذكراها لن تمحى من أفواه الناس؛ لأن نصائحهم جديرة بالتقدير، وكل كلمة ستنقل ولن تمحى من هذه الأرض أبدا، وسيكون للكلام قيمته حسبما تنطق به الأمراء ... وعندما يصيب رئيسك شهرة جديرة بالتقدير فإنها ستبقى حسنة أبد الدهر وستخلد كل مزاياها. وإن الرجل الحكيم تنعم روحه باستمرار بقاء فضله على الأرض، والرجل العاقل يعرف بعمله، وقلبه ميزان لسانه، وشفتاه تصيبان القول عندما يتكلم، وعيناه تبصران عندما ينظر، وأذناه تسمعان ما يفيد ابنه الذي يقيم العدل ويبرأ من الكذب.» وربما كان ذلك الوزير المسن قد عبر عن روحه الخلقية أحسن تعبير حينما حذر من الطمع فيما سلف، وإننا نجده الآن في صورة المنتصر الظافر ؛ إذ يقول من غير كبير مناسبة بما تقدم: «إن الرجل الذي اتخذ العدالة معيارا له وصار وفقا لجادتها يكون ثابت المكانة.» ولا نزاع في أننا نجد في هذا الكلام نغمة الحكمة العبرانية كما وصلت إلينا في كتاب «العهد القديم» وإن كانت حكمتنا هنا (يريد حكمة بتاح حتب) أقدم من حكمة العبرانيين بألفي سنة.
وقد ختم ذلك الوزير المسن نصائحه لابنه بعبارة تحبب إلى نفسه العدالة؛ إذ يقول له في منتهاها: «تأمل! إن الولد النجيب الذي يهبه الإله يقوم بأداء أكثر مما يؤمر؛ فهو يقيم الحق وقلبه يسير على صراطه، وبقدر ما تصل إلى ما وصلت أنا إليه سيكون جسمك سليما، ويكون الملك مرتاحا إليك في كل ما يجري، وكذلك تصل إلى السن التي وصلت إليها، وأن السنين التي عشتها على الأرض ليست بالقليلة، فقد بلغت العاشرة بعد المائة، والملك قد حباني بمكافأة تفوق كل مكافآت الأجداد؛ لأني أقمت العدل للملك حتى الممات.» وقد لاحظنا فيما تقدم ذكره أن أحد ألقاب الملك «وسركاف» كان لقب «مقيم العدالة»، وهذا يدل على أن حكم «بتاح حتب» المذكورة كانت ذات مكانة راجحة لدى الجهات العليا حتى في أيام شبابه.
ويتناول أكثر من نصف حكم «بتاح حتب» أخلاق الإنسان وسلوكه، وما بقي منها يختص بشئون الإدارة وسلوك الإنسان الرسمي، ويلاحظ بوجه عام أن تلك الحكم تحث على توخي اللطف والاعتدال وتأكيد الذات الذي تصحبه الحكمة واللباقة، وكل ذلك في الواقع ينم عما كان عليه ذلك الوزير من منتهى حسن الذوق وسلامته في تقدير الأمور ووزنها بالميزان الصحيح، مما عنى بتوصية ذلك الشاب باتباعه والسير على نهجه؛ فالحياة فيها الكثير مما يجعلنا نحبها، ويجب أن يحظى فيها الإنسان بقسط وافر من الاستمتاع البريء، وأن يحافظ على ساعات الراحة والدعة حتى لا تطغى عليها أعباء الوظيفة أو غيرها، ذلك إلى أنه يجب على المرء أيضا أن يكون دائم البشاشة والطلاقة؛ لأنه لا فائدة من النحيب على ما فات. وبالجملة فإن النغمة التي تغلب على فلسفة نصائح ذلك الوزير المسن هي شدة اهتمامه بالأخلاق والوازع الخلقي، وأبرز واجب تنطق به سطورها هو: «ارع الحق وعامل الجميع بالعدالة.»
وخليق بهذا الحكيم القديم أن يؤكد لنا مرارا أن أعظم فضيلة دائمة يتحلى بها الإنسان في الحياة هي العدالة والخلق العظيم، فإنهما يبقيان بعد موته؛ ولذلك تبقى ذكراه خالدة.
على أنه ليس من باب الصدفة أن تذكر مثل هذه الحقائق المقنعة في ملف بردي قديم يكشف لنا في الوقت نفسه عن جو مشبع بالرحمة والمحبة يسود حياة الأسرة، ويوحي باحترام الوالدين وبرهما، والتحذير بوجه خاص من وخامة عاقبة الشره الذي تقضي على وئام الأسرة بالتفكك، فإن كل تلك العواطف وليدة عالم اجتماعي واحد ونمت وترعرعت في بيئة واحدة؛ فالأسرة هي العامل الأول في تلك العواطف، وما بقي فهو الثمرة الطبيعية لتلك الروابط الأسرية؛ لذلك نجد في حكم «بتاح حتب» تأكيدا قاطعا لما نستنبطه من نقوش المقابر، ومن الصور التي رسمت على جدرانها، من أن حياة الأسرة هي التي هيأت للإنسان في بادئ الأمر الشعور بالمسئوليات الخلقية.
Página desconocida