العقيدة الشمسية ومكافحة الموت
لقد كنا أثناء تعقبنا لظهور أقدم الآلهة المصرية نلاحظ عهودا من التقدم البشري قبل العصر التاريخي في وادي النيل، فرأينا أن دنيا الطبيعة قد تركت أثرها تدريجا في عقول أقدم سكان وادي النيل، فكان نور الشمس والخضرة النباتية مظهرين طبيعيين بارزين أثرا باستمرار على أفكار أقدم مصري وحياته. ورأينا أن ذلك المصري صور هاتين القوتين الطبيعيتين الخفيتين في صورة إلهين عظيمين، ونذكر أن هذين الإلهين كانا في بادئ أمرهما مجرد قوتين طبيعيتين، واستمرا يعملان عملهما في دنيا الطبيعة بهذه الصفة فقط على الوجه الأغلب. ورأينا كيف أن إله الشمس انتقل تدريجا إلى عالم الشئون الاجتماعية المنظمة، وسنلاحظ فيما بعد كيف أن إله الخضرة
1
أيضا سار على نفس المنهاج الذي سار عليه إله الشمس، فكان على كل من هذين الإلهين أن يدخل مع زميله في علاقات أخرى بعد أن اشتركا في ميدان عمل واحد.
وصارت الدنيا التي أصبحا مندمجين فيها معا دنيا جديدة عظيمة؛ فصياد عصر ما قبل التاريخ، الذي كان يكتفي في التعبير عن عمله بآلة حفر مصنوعة من الظران ينحت بها خطوطا منتظمة على مقبض عاج لسكين حجرية لتمثل حيوانات الصيد، قد انتقل بعد مرور خمسين جيلا من التقدم الاجتماعي، إلى مهندس ملكي يستخدم جماعات عظيمة من أصحاب الحرف المنظمين في محاجر ضفاف النيل، فاستخرجوا منها أعمدة فخمة منسقة ومعابد للآلهة العظيمة، وأسوارا للأهرام الضخمة التي تعتبر أعظم مقابر أقامتها يد الإنسان قاطبة. والآن نتساءل: ماذا كان من أمر إلهي الطبيعة القديمين في مثل تلك الدنيا التي وصفناها؟ إن تلك الدنيا لم يقتصر تغيرها العظيم على مظهرها الخارجي ومجرد أساليبها المادية التي تدل على تقدم أنظمتها الاجتماعية والحكومية، بل تعدى رقيها إلى نمو حياة الإنسان الباطنة، فإن هذه الحياة كانت تسير بلا ريب بخطى متساوية مع تلك الحقائق الظاهرة التي لم تدون. وظهور أقدم بناء عرف من الحجر وأول مبنى ذي عمد لا يعد فقط برهانا على تقدم كفاءة حياة الجماعة الإنسانية المنظمة، بل يعد كذلك دليلا على ظهور أفق جديد للشعور البشري يزداد اتساعه باطراد، فكان بناءو هذا العصر أول شعراء؛ إذ مدوا أيديهم بين خمائل النخيل ومستنقعات النيل وقطفوا منها أزهار البشنين والبردي وسعف النخيل، ونسقوا بها أروقة ذات عمد على طول مساحات المعابد، فهم بذلك يعدون أول الفنانين الذين حملوا إلى ردهات المعابد شيئا مقتبسا من جمال العالم الخارجي المنير اليانع، وبذلك صارت المعابد تجمع بين نور الشمس والخضرة لتجميل أشكالها من الخارج، كما أثرت هاتان القوتان في عقائد ذلك العصر الدينية من الداخل.
ولما بدأت عظمة الحكومة تظهر في أشكال العمارة ذات الأبهة والبهاء كان معظم تلك الأشكال دينية، وإن المظهر الفخم للديانة المنظمة يعتبر مقياسا للأثر البالغ الذي أحدثته الحكومة الجديدة في الديانة، وإن تنظيم الديانة رسميا بتلك الكيفية الطريفة جعل المؤثرات الاجتماعية بطيئة الأثر في الديانة، ولكن تلك المظاهر الدينية الحكومية كانت صالحة لتبادل التأثيرات بين رجال جماعة من الكهنة أو رجال طوائف المعابد وجماعة أخرى. وعلى ذلك نجد أن الاعتقادات المحلية أخذ بعضها يندمج في البعض، وقد تبينت لنا هذه الظاهرة في حالة إله الشمس ببلدة عين شمس، والإله الصانع «بتاح» ببلدة «منف»، غير أن حقيقة هذا الاندماج تظهر بشكل أوضح في حالة نور الشمس والخضرة؛ أي حالة إله الشمس و«أوزير».
وإن حقيقة الموت قد تركت تأثيرا عظيما في الديانة المصرية، كما أنها أثرت تأثيرا عميقا في كل من اللاهوت الشمسي، واللاهوت الأوزيري.
وإذا بحثنا الاعتقادات المصرية الجنازية القديمة بوجه خاص أمكننا أن ندرك ذلك الامتزاج الذي حدث بين المذهب الشمسي والمذهب الأوزيري، على أنه لن يكون في وسعنا فهم امتزاج هذين المذهبين إلا إذا وجهنا نظرنا قليلا إلى تصورات المصري للحياة بعد الموت، وإلى التقاليد المدهشة التي تولدت عن تلك التصورات.
والواقع أنه لا يوجد شعب قديم أو حديث بين شعوب العالم احتلت في نفسه فكرة الحياة بعد الموت المكانة العظيمة التي احتلتها في نفس الشعب المصري القديم. ومن الجائز أن ذلك الاعتقاد الملح في الحياة بعد الموت كان يعضده كثيرا ويغذيه تلك الحقيقة المعروفة عن تربة مصر ومناخها؛ وهي أنها تحفظ الجسم الإنساني بعد الموت من البلى إلى درجة لا تتوافر في أي بقعة أخرى من بقاع العالم. فعندما كنت أشتغل بنقل نقوش بلاد النوبة منذ سنين طويلة (مضت) كانت الأحوال كثيرا ما تضطرني إلى المرور بطرف جبانة فيها قدما إنسان ميت مدفون في حفرة قريبة الغور، وقد حسر عن هاتين القدمين وصارتا ممتدتين في عرض الطريق الذي كنت أمر به، والواقع أنهما كانتا تشبهان كل الشبه الأقدام الخشنة للعمال الذين كانوا يعملون معنا في حفائرنا في تلك الجهة، ولست أعرف عمر ذلك القبر، ولكن كل إنسان خبير بجبانات مصر قديمها وحديثها لا بد أنه عثر على جثث بشرية كاملة (أو على أجزاء منها) قديمة جدا، ولكنها باقية محفوظة أحيانا إلى درجة تجعلها تشبه تماما أجسام البشر الأحياء. ولا بد أن مثل تلك المشاهدات حصلت كثيرا للمصريين الأقدمين أيضا. ولعمري كان مثل المصري في ذلك كمثل «هملت»
2
Página desconocida