وعلى ذلك فإن ما نحتاج إليه نحن أبناء الجيل الحاضر أكثر من أي شيء آخر هو الثقة في الإنسان، وإني أعتقد أن قصة نهوضه تعتبر قاعدة لا مثيل لها للثقة التامة به. ويعد الكشف عن الأخلاق أسمى عمل تم على يد الإنسان من بين كل الفتوح التي جعلت نهوضه في حيز الإمكان. وقد انبثق عصر فجر الضمير والأخلاق على العالم دون أن يزج به من العالم الخارجي عن طريق منهاج خفي يسمى الإلهام أو الوحي، بل كان منشؤه حياة الإنسان نفسه، ويرجع ذلك الانبثاق إلى مدة ألفي سنة قبل بداية عصر وحي رجال اللاهوت، فأضاء ظلمة الحيرة الاجتماعية، والكفاح الباطني في نفس الإنسان، فكان بذلك دليلا قاطعا على قيمة الإنسان. ومهما قيل إن نورا سماويا ساقته القدرة الإلهية على فلسطين خاصة فإن ذلك لم يحرم الإنسان من التحلي بتاج فخار حياته الذي ناله على الأرض؛ وأعني بذلك التاج كشفه للأخلاق، فإنه يعد على ما نعلم أعظم كشف حدث في مجال حياة التطور البشري.
وقد حددت الآن مكانة العبرانيين في هذا التطور من الوجهة التاريخية، وسيحاول المؤلف في هذا الكتاب أن يجعل تلك المكانة أكثر وضوحا وجلاء.
ولهذه المناسبة يهم المؤلف أن يسترعي الأنظار إلى أمر واقع؛ وهو اهتمامه طول حياته بالدراسات العبرية ؛ فقد درس اللغة العبرية سنين عدة لفصول جامعية، ويوجد الآن من بين تلاميذه كثيرون ممن أصبحوا ربانيين (حاخامات)، وله من يهود الجيل الحاضر أصدقاء كثيرون من ذوي المكانة العالمية في المجتمع. لقد اعتمدنا في تدوين الآراء الخاصة بمكانة الحضارة العبرانية في التاريخ على استنباطات سليمة استنبطت من الوثائق القديمة؛ ولذلك نرى من الحكمة أن نشير هنا، وبخاصة في عصر لا يزال يوجد فيه بكل أسف شيء من التعصب ضد الجنس السامي، إلى أن هذا الكتاب قد ألف بروح خالية من كل شعور مضاد للساميين، بل على العكس من ذلك، قد كان إعجاب المؤلف بالأدب اليهودي الذي أخذ في دراسته منذ صغره عاملا مؤثرا في نفسه لدرجة أن حكمه عليه كان دائما تحت تأثير عامل المحبة دون أي عامل آخر.
إن في تاريخ الحضارة العبرانية القديمة دليلا ساطعا على تقدم الحياة البشرية، وعلى رقي الإنسان نحو مرئيات جديدة من الأخلاق والمثل العليا الاجتماعية، وعلينا الآن أن نتعرف منهاج التطور البشري في مداه الواسع الذي يسمو على الفواصل الجنسية - ذلك المنهاج الذي احتل فيه اليهود مكانة وسطى - وأن ندرك الأهمية العظمى للحقيقة التاريخية الثابتة؛ وهي أن الإنسان قد سما إلى تصور خلقي عال قبل أن تظهر الأمة العبرانية في عالم الوجود بألفي سنة.
جيمس هنري برستد
جبل يورو همستد نيومكسيكو
27 يونيو سنة 1933
مقدمة
أعتقد أن «ديدرو» هو الذي حاول أن يوضح لابنته الأصول الفلسفية للأخلاق الفاضلة حينما كانت تنتقل في مجال حياتها من مرحلة الطفولة إلى سن الشباب، فلما أخفق في كشف مثل هذه الأسس وجد نفسه في ورطة محيرة، ومع ذلك فإن «ديدرو» في ممارسته لشئون الحياة الواقعية لم يتنح عن اعتقاده الجريء في قيمة السلوك الفاضل.
ففي عصر كالذي نعيش فيه - وهو العصر الذي نجد فيه خلقا كثيرا لا ينكرون عقيدة «ديدرو» كل الإنكار، وإنما يتمسكون بمقاييسهم الشخصية للفضيلة - يشعر الإنسان بحاجته إلى وسيلة تمكنه من النظر إلى الوراء في الأجيال الغابرة من حياة البشر، ليتدبر بعين بصيرته بعض الأسس التاريخية التي بنيت عليها آراؤنا في السلوك الفاضل.
Página desconocida