شرح كشف الشبهات لخالد المصلح
شرح كشف الشبهات لخالد المصلح
Géneros
الرد على متأخري المشركين في إيرادهم شبهة تكفير المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال ﵀: [فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم: تُكفِّرون المسلمين، أناسًا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويصلون ويصومون ثم تأمل جوابها، فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق] .
أطال ﵀ الكلام على هذه الشبهة لأهميتها وكثرة إيرادهم لها، وأيضًا لانخداع كثير من الناس بها، يقول: [ومن الدليل على ذلك أيضًا -أي: أنه من أتى بالتوحيد ومن أقر بالرسالة ثم أتى بمكفر من جهة أخرى غير الإقرار بالتوحيد وغير الإقرار بالرسالة فإنه يحكم عليه بالكفر- ما حكى الله تعالى عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم أنهم قالوا لموسى: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف:١٣٨]] وقد تقدم تعليقنا على قوله ﵀: (وعلمهم) وذكرنا أن ظاهر الآية يدل على جهلهم، كما قال الله ﷾ حاكيًا عن موسى: ﴿قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [الأعراف:١٣٨] .
قال ﵀: [وقول ناس من الصحابة: (اجعل لنا ذات أنواط) فحلف ﷺ أن هذا نظير قول بني إسرائيل: (اجعل لنا إلهًا)] .
سيأتي الكلام على هذا الحديث، وهو حديث رواه الترمذي بسند جيد عن أبي واقد الليثي، وفيه أن بعض الصحابة ﵃ طلبوا من النبي ﷺ أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان للكفار ذات أنواط، وهي سدرة كانوا ينوطون بها أسلحتهم، ويعكفون عندها يطلبون منها البركة، فطلب الصحابة ﵃ من النبي ﷺ شيئًا مماثلًا فاستعظم الأمر ﷺ وقال: (الله أكبر! إنها السنن، قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ» وسيأتي الكلام على هذا.
فالنبي ﷺ جعل طلبهم من جنس طلب بني إسرائيل لموسى ﵇، وطلب بني إسرائيل كفر ولا شك إذ أنهم طلبوا إلهًا يعبدونه، ويتوجهون إليه بالقصد مع الله ﷾، وبعض الصحابة الذين كانوا حدثاء عهد بكفر طلبوا شجرة يتبركون بها كما يتبرك المشركون بالسدرة التي كانوا ينوطون بها أسلحتهم، فأنكر النبي ﷺ عليهم هذا الإنكار العظيم، وجعل طلبهم من جنس طلب بني إسرائيل.
وفي هذا دليل على أنه من أقر بالألوهية وأقر برسالة النبي ﷺ ثم أتى ما يعكر هذا الإقرار أو ما يناقضه فإنه لا يشفع له ذلك الإقرار، بل لابد من الإيمان بالكتاب كله، والإيمان بكل ما جاء به النبي ﷺ.
ثم قال ﵀: [ولكن للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القصة، وهي أنهم يقولون: فإن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك، وكذلك الذين قالوا: (اجعل لنا ذات أنواط) لم يكفروا.
فالجواب أن تقول: إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك، وكذلك الذين سألوا النبي ﷺ لم يفعلوا، ولا خلاف في أن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك، ولو فعلوا ذلك لكفروا، وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي ﷺ لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا، وهذا هو المطلوب.
ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها، فتفيد التعلم والتحرز، ومعرفة أن قول الجاهل: التوحيد فهمناه، أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان.
وتفيد أيضًا: أن المسلم إذا تكلم بكلام كُفر وهو لا يدري فنبه على ذلك فتاب من ساعته، أنه لا يكفر، كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي ﷺ.
وتفيد أيضًا: أنه لو لم يكفَّر، فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظًا شديدًا كما فعل رسول الله ﷺ] .
هذه الشبهة التي أوردوها هي شبهة فرعية أوردوها على قول الشيخ ﵀، والدليل على ذلك أيضًا ما حكى الله عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وهي قولهم: إن هؤلاء الذين استدللتم بإنكار موسى عليهم وإنكار النبي ﷺ عليهم لم يكفروا، فدل ذلك على أنه إذا أقر بالتوحيد وأقر بالرسالة وأقر بالبعث فإنه لا يضره أن يتوجه إلى غير الله ﷾ بطلب الشفاعة أو ما إلى ذلك، فالجواب على هذه الشبهة -وهي استدلالهم بعدم التكفير- ما قاله الشيخ ﵀ في حكاية الشبهة: (ولكن للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القصة وهي أنهم يقولون: إن بني إسرائيل لم يكفروا، وكذلك الذين قالوا: اجعل لنا ذات أنواط لم يكفروا) هذه الشبهة، والجواب عليها ما ذكره الشيخ: (إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك -أي: أن بني إسرائيل لم يتخذوا آلهة كما اتخذ الكفار آلهة، بل لما نهاهم موسى ﵇ امتنعوا عن هذا الطلب -وكذلك الذين سألوا النبي ﷺ لم يفعلوا -أي: أنهم لم يتخذوا شجرة ينوطون بها أسلحتهم، ويطلبون منها البركة- ولا خلاف في أن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك، ولو فعلوا ذلك لكفروا، وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي ﷺ لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا وهذا هو المطلوب) .
إذًا: لا حجة فيما ذكرتم إذ أن الصحابة ﵃ لم يتخذوا هذه الشجرة ينوطون بها أسلحتهم، ويطلبون منها البركة، وكذلك بنو إسرائيل لم يتخذوا إلهًا كما للمشركين آلهة، بل انتهوا عندما نهاهم نبيهم ﵇.
أما بالنسبة لقصة بني إسرائيل فهي واضحة، وما ذكره الشيخ جواب سديد إذا حمل أن الصحابة طلبوا شجرة يتبركون بها استقلالًا، يعني: يتبركون بها كما يتبرك بها المشركون.
وقال بعض شُراح هذا الحديث: إن الصحابة ﵃ لم يطلبوا جنس ما كان يفعله المشركون، إنما طلبوا أن يسأل النبي ﷺ ربه أن يجعل لهم شجرة مباركة، فتكون مباركة شرعًا، وما كان مباركًا شرعًا جاز التبرك به، وهذا ذكره الشيخ ﵀ في بعض أجوبته في الدرر السنية، إلا أن ظاهر الحديث يدل على أنهم طلبوا شيئًا من جنس ما كان يفعله المشركون؛ ولذلك اعتذر أبو واقد ﵁ عن هذا الطلب في مقدمة هذا الخبر بقوله: (خرجنا مع النبي ﷺ في غزوة حنين ونحن حدثاء عهد بكفر)، فكأنه اعتذر لما صدر عنهم من سؤال مشابهة الكفار فيما وقعوا فيه، فالظاهر أن هذا المعنى هو المراد، وهو ظاهر فعل الشيخ هنا، وأما إذا كان على المعنى الذي ذكره الشيخ ﵀ في بعض أجوبته في الدرر السنية فإنه لا يكون في الحديث دليل للمشركين على فعلهم، إذ أنهم لم يطلبوا شركًا، إنما طلبوا من النبي ﷺ أن يسأل الله أن يجعل شجرة مباركة، وهذا لا إشكال فيه، فما كان مباركًا شرعًا جاز التبرك به مثل ماء زمزم وغيره مما جعله النبي ﷺ مباركًا بمباركة الله تعالى له، ومع هذا فنحن نعتقد أن ما جعله الشارع مباركًا في الشرع، فإن بركته إنما هي من الله تعالى، وليست بركة استقلالية منه كما تقدم هذا في كتاب التوحيد، ودليل ذلك قول النبي ﷺ: (إنما البركة من الله) فالبركة من الله تعالى وليست من أي شي آخر، وإنما جعل هذا سبب لتحصيل البركة، وليس هو المستقل في إيجادها وإعطائها.
9 / 2