شرح القواعد الأربع
شرح القواعد الأربع
Investigador
خالد الردادي
Editorial
مؤسسة الرسالة
Número de edición
الأولى
Año de publicación
١٤٢٤هـ -٢٠٠٣م
Géneros
المقدمة:
الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وبعد:
فهذا شرحٌ للقواعد الأربع التي ألفها شيخ الإسلام المجدد: محمد بن عبد الوهاب ﵀، لأنني لم أر من شرحها، فأحببت أن أشرحها حسب وُسعي وطاقتي.
والله يعفو عما قصّرت فيه.
1 / 5
مقدمة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
...
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
١- أسأل الله الكريم ربّ العرش العظيم أن يتولاّك في الدنيا والآخرة، وأن يجعلك مبارَكًا أينما كنت، وأن يجعلك ممّن إذا أُعطيَ شكر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا أذنب استغفر، فإنّ هؤلاء الثلاث عنوان السعادة.
_________
١- هذه "القواعد الأربع" التي ألّفها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهّاب ﵀.
هي رسالة مستقلّة، ولكنها تُطبع مع "ثلاثة الأصول" من أجل الحاجة إليها لتكون في متناول أيدي طلبة العلم.
والقواعد: جمع قاعدة، والقاعدة هي: الأصل الذي يتفرّع عنه مسائل كثيرة – أو فروعٌ كثيرة-.
ومضمون هذه القواعد الأربع التي ذكرها الشيخ ﵀: معرفة التوحيد ومعرفة الشرك.
وما هي القاعدة في التوحيد؟ وما هي القاعدة في الشرك؟، لأنّ كثيرًا من الناس يتخبطون في هذين الأمرين، يتخبّطون في معنى التوحيد ما هو؟ ويتخبّطون في معنى الشرك، كلٌّ يفسرهما على حسب هواه.
ولكن الواجب: أننا نرجع في تقعيدنا إلى الكتاب والسنّة،=
1 / 7
.................................................................................
_________
= ليكون هذا التقعيد تقعيدًا صحيحًا سليمًا مأخوذًا من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، لا سيّما في هذين الأمرين العظيمين – التوحيد والشرك-.
والشيخ ﵀ لم يذكر هذه القواعد من عنده أو من فكره كما يفعل كثيرٌ من المتخبّطين، وإنما أخذ هذه القواعد من كتاب الله ومن سنة رسول الله –ﷺ.
فإذا عرفت هذه القواعد وفهمتها سهُل عليك بعد ذلك معرفة التوحيد الذي بعث الله به رسُله وأنزل به كتبه، ومعرفة الشرك الذي حذّر الله منه وبيّن خطره وضرره في الدنيا والآخرة. وهذا أمرٌ مهمّ جدًا، وهو ألزم عليك من معرفة أحكام الصلاة والزكاة والعبادات وسائر الأمور الدينية، لأن هذا هو الأمر الأوّلي والأساس، لأن الصلاة والزكاة والحج وغيرها من العبادات لا تصحّ إذا لم تُبن على أصل العقيدة الصحيحة، وهي التوحيد الخالص لله ﷿.
وقد قدّم ﵀ لهذه القواعد الأربع بمقدمة عظيمة فيها الدعاء لطلبة العلم، والتنبيه على ما سيقوله، حيث قال: " أسأل الله العظيم ربّ العرش الكريم أن يتولاّك في الدنيا والآخرة، وأن يجعلك مبارَكًا أينما كنت، وأن يجعلك ممّن إذا أُعطيَ شكر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا أذنب استغفر، فإنّ هؤلاء الثلاث هي عنوان السعادة".
هذه مقدمة عظيمة، فيها دعاءٌ من الشيخ ﵀ لكل طالب علم يتعلم عقيدته يريد بذلك الحق، ويريد بذلك تجنّب الضلال والشرك، فإنه حريٌّ بأن يتولاه الله في الدنيا والآخرة.=
1 / 8
.................................................................................
_________
= وإذا تولّاه الله في الدنيا والآخرة فإنه لا سبيل إلى المكاره أن تصل إليه، لا في دينه ولا في دنياه، قال –تعالى-: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ﴾ [البقرة: ٢٥٧]، فإذا تولاك الله أخرجك من الظلمات –ظلمات الشرك والكفر والشكوك والإلحاد- إلى نور الإيمان والعلم النافع والعمل الصالح، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: ١١] .
فإذا تولاّك الله برعايته وبتوفيقه وهدايته في الدنيا والآخرة؛ فإنّك تسعد سعادة لا شقاء بعدها أبدًا، في الدنيا يتولاّك بالهداية والتوفيق والسير على المنهج السليم، وفي الآخرة يتولاّك بأن يُدخلك جنته خالدًا مخلّدًا فيها لا خوف ولا مرض ولا شقاء ولا كرب ولا مكاره، وهذه ولاية الله لعبده المؤمن في الدنيا والآخرة. قال ابن القيم:
إذا تولاه امرؤٌ دون الورى
تولاه العظيم الشان
قال: "وأن يجعلك مباركًا أينما كنت" إذا جعلك الله مباركًا أينما كنت فهذا هو غاية المطالب، يجعل الله البركة في عمرك، ويجعل البركة في رزقك، ويجعل البركة في علمك، ويجعل البركة في عملك، ويجعل البركة في ذريتك، أينما كنت تصاحبك البركة، أينما توجّهت، وهذا خيرٌ عظيم، وفضلٌ من الله ﷿.
قال: "وأن يجعلك ممن إذا أُعطي شكر" خلاف الذي إذا أُعطي كفر النعمة وبطِرها، فإن كثيرًا من الناس إذا أُعطوا النعمة كفروها وأنكروها، وصرفوها في غير طاعة الله ﷿، فصارت سببًا لشقاوتهم، أما من يشكر فإن الله يزيده: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن =
1 / 9
.................................................................................
_________
= شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: ٧] والله –جل وعلا- يزيد الشاكرين من فضله وإحسانه. فإذا أردت المزيد من النعم فاشكر الله ﷿، وإذا أردت زوال النعم فاكفُرها.
قال: "وإذا ابتُلي صبر" الله جل وعلا يبتلي العباد، يبتليهم بالمصائب، وبيتليهم بالمكاره، يبتليهم بالأعداء من الكفّار والمنافقين؛ فيحتاجون إلى الصبر وعدم اليأس وعدم القنوط من رحمة الله، ويثبتون على دينهم، ولا يتزحزحون مع الفِتن، أو يستسلمون للفتن، بل يثبتون على دينهم، ويصبرون على ما يقاسون من الأتعاب في سبيلها بخلاف الذي إذا ابتُلي جزع وتسخّط وقنط من رحمة الله –﷿ فهذا يُزاد ابتلاء إلى ابتلاء ومصائب إلى مصائب، قال: ﷺ: "إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فعليه السخط" (١)، "وأعظم الناس بلاءً: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل" (٢)، ابتُلي الرسل، وابتُلي الصديقون، وابتُلي =
_________
(١) أخرجه الترمذي في الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء (٤/٦٠١)، وابن ماجة في الفتن، باب الصبر على البلاء (رقم ٤٠٣١) من حديث أنس بن مالك –﵁.
وقال الترمذي: "هذا حديث غريب".
وأخرجه أحمد (٥/٤٢٨) من حديث محمود بن لبيد –﵁.
(٢) قطعةٌ من حديث أخرجه الترمذي في الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء (٤/٦٠١-٦٠٢)، وابن ماجة في الفتن، باب ما جاء في الصبر على البلاء، (رقم: ٤٠٢٣)، وأحمد (١/١٧٢، ١٧٣-١٧٤، ١٨٠، ١٨٥)، والدارمي (٢/٣٢٠)، وابن حبان في صحيحه (٧/١٣١- الإحسان)، والحاكم (١/٤١)، والبيهقي (٣/٣٧٢)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
1 / 10
.................................................................................
_________
= الشهداء، وابتُلي عباد الله المؤمنون، لكنهم صبروا، أما المنافق فقد قال الله فيه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ يعني طرَف ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: ١١] .، فالدنيا ليست دائمًا نعيمًا وترفًا وملذات وسرورًا ونصرًا، ليست دائمًا هكذا، الله يداولها بين العباد، الصحابة أفضل الأمة ماذا جرى عليهم من الابتلاء والامتحان؟ قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ١٤٠]، فليوطِّن العبد نفسه أنه إذا ابتُلي فإن هذا ليس خاصًّا به، فهذا سبق لأولياء الله، يوطن نفسه ويصبر وينتظر الفرج من الله – تعالى-، والعاقبة للمتقين.
قال: "وإذا أذنب استغفر" أما الذي إذا أذنب لا يستغفر ويزيد من الذنوب فهذا شقي –والعياذ بالله-، لكن العبد المؤمن كلما صدر منه ذنب بادر بالتوبة ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ﴾ [آل عمران: ١٣٥]، ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾ [النساء: ١٧]، والجهالة ليس معناها عدم العلم، لأن الجاهل لا يؤاخذ، لكن الجهالة هنا هي ضد الحلم. فكل من عصى الله فهو جاهل بمعنى ناقص الحلم وناقص العقلية وناقص الإنسانية، وقد يكون عالمًا لكنه جاهل من ناحية أنه ليس عنده حلم ولا ثبات في الأمور، ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾ يعني: كلما أذنبوا استغفروا، ما هناك أحد معصوم من الذنوب، ولكن الحمد لله أن الله فتح باب التوبة، فعلى العبد إذا أذنب أن يبادر بالتوبة، لكن إذا لم =
1 / 11
٢- اعلم - أرشدك الله لطاعته-: أن الحنيفيّة ملّة إبراهيم: أن تعبد الله مخلصًا له الدين، كما قال –تعالى-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦] .
_________
= يتب ولم يستغفر فهذه علامة الشقاء. وقد يقنط من رحمة الله ويأتيه الشيطان ويقول له: ليس لك توبة.
هذه الأمور الثلاث: إذا أُعطي شكر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا أذنب استغفر هي عنوان السعادة، من وُفِّق لها نال السعادة، ومن حُرم منها – أو من بعضها- فإنه شقي.
٢- "اعلم أرشدك الله" هذا دعاء من الشيخ –﵀، وهكذا ينبغي للمعلم أ، يدعو للمتعلم.
وطاعة الله معناها: امتثال أوامره واجتناب نواهيه.
"أن الحنيفية ملة إبراهيم" الله –جل وعلا- أمر نبينا باتباع ملة إبراهيم، قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: ١٢٣] .
والحنيفية: ملة الحنيف وهو ملة إبراهيم – ﵊، والحنيف هو: المقبل على الله المعرض عما سواه، هذا هو الحنيف: المقبل على الله بقلبه وأعماله ونياته ومقاصده كلها لله، المعرِض عما سواه، والله أمرنا باتباع ملة إبراهيم: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الحج: ٧٨] .
وملة إبراهيم: "أن تعبد الله مخلصًا له الدين" هذه الحنيفية، ما قال: "أن تعبد الله" فقط، بل قال: "مخلصًا له الدين" يعني: وتجتنب الشرك، لأن العبادة إذا خالطها الشرك بطلت، فلا تكون =
1 / 12
.................................................................................
_________
= عبادة إلا إذا كانت سالمةٌ من الشرك الأكبر والأصغر.
"كما قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء﴾ [البينة: ٥] " جمع حنيف، وهو: المخلص لله ﷿.
وهذه العبادة أمر الله بها جميع الخلق كما قال – تعالى- ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]، ومعنى يعبدون: يفردوني بالعبادة، فالحكمة من خلق الخلق: أنهم يعبدون الله ﷿ مخلصين له الدين، منهم من امتثل ومنهم من لم يمتثل، لكن الحكمة من خلقهم هي هذه، فالذي يعبد غير الله مخالف للحكمة من خلق الخلق، ومخالف للأمر والشرع.
وإبراهيم هو: أبو الأنبياء الذين جاءوا من بعده، فكلهم من ذريته، ولهذا قال – جل وعلا- ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ [العنكبوت: ٢٦١]، فكلهم من بني إسرائيل –حفيد إبراهيم ﵇، إلا محمدًا –ﷺ فإنه من ذرية إسماعيل، فكل الأنبياء من بعد إبراهيم من أبناء إبراهيم –﵊، تكريمًا له.
وجعله الله إمامًا للناس –يعني: قدوة-: ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة: ١٢٤] يعني: قدوة، ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: ١٢٠] يعني: إمامًا يقتدى به. وبذلك أمر الله جميع الخلق كما قال –تعالى-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]، فإبراهيم دعا الناس إلى عبادة الله ﷿ كغيره من النبيين، كل الأنبياء دعوا الناس إلى عبادة الله وترك عبادة ما سواه كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦] .=
1 / 13
٣- فإذا عرفت أنّ الله خلقك لعبادته فاعلم: أنّ العبادة لا تسمّى عبادة إلا مع التوحيد، كما أنّ الصلاة لا تسمّى صلاة إلا مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدتْ كالحدَث إذا دخل في الطهارة.
_________
= وأما الشرائع التي هي الأوامر والنواهي والحلال والحرام فهذه تختلف باختلاف الأمم حسب الحاجات، يشرع الله شريعة ثم ينسخها بشريعة أخرى إلى أن جاءت شريعة الإسلام فنسخت جميع الشرائع وبقيت هي إلى أن تقوم الساعة، أما أصل دين الأنبياء – وهو التوحيد- فهو لم ينسخ ولن يُنسخ، دينهم واحد وهو دين الإسلام بمعنى: الإخلاص لله بالتوحيد. أما الشرائع فقد تختلف، وتُنسخ، لكن التوحيد والعقيدة من آدم إلى آخر الأنبياء، كلهم يدعون إلى التوحيد وإلى عبادة الله، وعبادة الله: طاعته في كل وقت بما أمر به من الشرائع، فإذا نسخت صار العمل بالناسخ هو العبادة، والعمل بالمنسوخ ليس عبادة الله.
٣- "فإذا عرفت أن الله خلقك لعبادته" يعني: إذا عرفت من هذه الآية ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] وأنت من الإنس، داخلٌ في هذه الآية، وعرفت أن الله ما خلقك عبثًا، أو خلقك لتأكل وتشرب فقط، تعيش في هذه الدنيا وتسْرح وتمرح، لم يخلقك لهذا، خلقك الله لعبادته، وإنما سخر لك هذه الموجودات من أجل أن تستعين بها على عبادته لأنك لا تستطيع أن تعيش إلا بهذه الأشياء، ولا تتوصل إلى عبادة الله إلا بهذه الأشياء، سخرها الله لك لأجل أن تعبده، ليس من أجل أن تفرح بها وتسرح وتمرح وتفسُق وتفجر تأكل وتشرب ما اشتهيت، هذا شأن البهائم، أما الآدميون فالله جل وعلا خالقهم لغاية عظيمة وحكمة عظيمة وهي =
1 / 14
.................................................................................
_________
= العبادة، قال –تعالى-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ﴾ [الذاريات: ٥٦-٥٧]، الله ما خلقك لتكتسب له، أن تحترف وتجمع له مالًا، كما يفعل بنو آدم بعضهم لبعض يجعلون عُمّالًا يجمعون لهم المكاسب، لا، الله غنيّ عن هذا، والله غني عن العالمين، ولهذا قال: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ﴾ [الذاريات: ٥٧] الله –جل وعلا- يُطعِم ولا يُطعَم، غني عن الطعام، وغني –جل وعلا- بذاته، وليس هو في حاجة إلى عبادته، لو كفرت ما نقصت ملك الله، ولكن أنت الذي بحاجة إليه، أنت الذي بحاجة إلى العبادة، فمن رحمته: أنه أمرك بعبادته من أجل مصلحتك، لأنك إذا عبدته فإنه ﷾ يكرمك بالجزاء والثواب، فالعبادة سببٌ لإكرام الله لك في الدنيا والآخرة، فمن الذي يستفيد من العبادة؟ المستفيد من العبادة هو العابد نفسه، أما الله –جل وعلا- فإنه غنيّ عن خلقه.
قال: "فاعلم: أن العبادة لا تُسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمّى صلاة إلا مع الطهارة".
إذا عرفت أن الله خلقك لعبادته فإن العبادة لا تكون صحيحة يرضاها الله ﷾ إلا إذا توفّر فيها شرطان، إذا اختل شرطٌ من الشرطين بطلت:
الشرط الأول: أن تكون خالصة لوجه الله، ليس فيها شرك. فإن خالطها شركٌ بطلت، مثل الطهارة إذا خالطها حدث بطلت، كذلك إذا عبدت الله ثم أشركت به بطلت عبادتك. هذا الشرط الأول.
الشرط الثاني: المتابعة للرسول –ﷺ، فأي عبادة لم يأت بها الرسول فإنها باطلة ومرفوضة، لأنها بدعة وخرافة، ولهذا يقول –ﷺ: =
1 / 15
..................................................................................
_________
= "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" (١)، وفي رواية: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (٢)، فلا بد أن تكون العبادة موافقة لما جاء به الرسول –ﷺ، لا باستحسانات الناس ونيّاتهم ومقاصدهم ما دام أنها لم يدل عليها دليل من الشرع فهي بدعة ولا تنفع صاحبها بل تضره لأنها معصية، وإن زعم أنه تقرب بها إلى الله –﷿.
فلا بد في العبادة من هذين الشرطين: الإخلاص، والمتابعة للرسول –ﷺ حتى تكون عبادة صحيحة نافعة لصاحبها، فإن دخلها شرك بطلت، وإذا صارت مبتدَعة ليس عليها دليل فهي باطلة أيضًا، بدون هذين الشرطين لا فائدة من العبادة، لأنها على غير ما شرع الله ﷾، والله لا يقبل إلا ما شرع في كتابه أو على لسان رسوله –ﷺ.
فلا هناك أحد من الخلق يجب اتباعه إلا الرسول –ﷺ، أما ما عدا الرسول فإنه يتبع ويطاع إذا اتبع الرسول، أما إذا خالف الرسول فلا طاعة، يقول الله –تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: ٥٩]، وأولوا الأمر هم: الأمراء والعلماء، فإذا أطاعوا الله وجبت طاعتهم واتباعهم، أما إذا خالفوا أمر الله فإنها لا تجوز طاعتهم ولا اتباعهم فيما خالفوا فيه، لأنه ليس هناك أحدٌ يطاع استقلالًا من الخلق إلا رسول الله –ﷺ، وما عداه فإنه يطاع ويُتّبع إذا أطاع الرسول –ﷺ واتبع الرسول، هذه هي العبادة الصحيحة.
_________
(١) أخرجه مسلم (رقم: ١٧١٨) في الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، من حديث عائشة –﵂.
(٢) أخرجه البخاري (رقم: ٢٦٩٧) في الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، ومسلم (رقم: ١٧١٨)، من حديث عائشة –﵂.
1 / 16
الشرك: أهم مايجب على العبد معرفته
مدخل
...
فإذا عرفتَ أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل وصار صاحبه من الخالدين في النار عرفتَ أنّ أهمّ ما عليك: معرفة ذلك، لعلّ الله أن يخلّصك من هذه الشَّبَكة، وهي الشرك بالله الذي قال الله –تعالى- فيه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:١١٦]، وذلك بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله –تعالى- في كتابه:
_________
٤- " فإذا عرفتَ أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل، وصار صاحبه من الخالدين في النار ... " أي: ما دام أنك عرفت التوحيد وهو: إفراد الله بالعبادة، يجب أن تعرف ما هو الشرك، لأن الذي لا يعرف الشيء يقع فيه، فلا بد أنك تعرف أنواع الشرك من أجل أن تتجنبها، لأن الله حذّر من الشرك قال: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ [النساء: ٤٨]، فهذا الشرك الذي هذا خطره، وهو أنه يحرم من الجنة: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ﴾ [المائدة: ٧٢]، ويحرم من المغفرة: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: ٤٨] .
إذًا: هذا خطرٌ عظيم، يجب عليك أن تعرفه قبل أي خطر، لأن الشرك ضلّت فيه أفهام وعقول. فالواجب أن نعرف ما هو الشرك من الكتاب والسنة، الله ما حذر من شيء إلا ويبينه، وما أمر بشيء، إلا ويبينه للناس، فهو لم يحرم الشرك ويتركه مجملًا، بل بينه في القرآن العظيم وبينه الرسول –ﷺ في السنة، بيانًا شافيًا، فإذا أردنا أن نعرف ما هو الشرك نرجع إلى الكتاب والسنة حتى نعرف الشرك، ولا نرجع إلى قول فلان وفلان، وهذا سيأتي.
1 / 17
٥- القاعدة الأولى: أن تعلم أنّ الكفّار الذين قاتلهم رسول الله –ﷺ مقِرُّون بأنّ الله –تعال-ى هو الخالِق المدبِّر، وأنّ ذلك لم يُدْخِلْهم في الإسلام، والدليل: قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [يونس:٣١] .
_________
٥- "القاعدة الأولى": أن تعرف أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله –ﷺ كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، ومع ذلك إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، ولم يحرم دماءهم ولا أموالهم.
فدل على أن التوحيد ليس هو الإقرار بالربوبية فقط، وأن الشرك ليس هو الشرك في الربوبية فقط، بل ليس هناك أحدٌ أشرك في الربوبية إلا شواذ من الخلق، وإلا فكل الأمم تقر بتوحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية هو: الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر، أو بعبارة أخصر: توحيد الربوبية هو: إفراد الله –تعالى- بأفعاله –﷾.
فلا أحد من الخلق ادعى أن هناك أحدًا يخلق مع الله –تعالى-، أو يرزق مع الله، أو يحيي، أو يميت، بل المشركون مقرّون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان: ٢٥]، ﴿قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ [المؤمنون: ٨٦]، اقرءوا الآيات من آخر سورة المؤمنون تجدون أن المشركين كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، وكذلك في سورة يونس ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ =
1 / 18
٦- القاعدة الثانية: أنّهم يقولون: ما دعوناهم وتوجّهنا إليهم إلا لطلب القُرْبة والشفاعة، فدليل القُربة قوله –تعالى-: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ [الزمر:٣] .
_________
= مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ﴾ [يونس: ٣١]، فهم مقرون بهذا.
فليس التوحيد هو الإقرار بتوحيد الربوبية كما يقول ذلك علماء الكلام والنُّظّار في عقائدهم، فإنه يقررون بأن التوحيد هو الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، فيقولون: (واحد في ذاته لا قسيم له، واحد في صفاته لا شبيه له، واحد في أفعاله لا شريك له) وهذا هو توحيد الربوبية، ارجعوا إلى أي كتاب من كتب علماء الكلام تجدون لا يخرجون عن توحيد الربوبية، وهذا ليس هو التوحيد الذي بعث الله به الرسل، والإقرار بهذا وحده لا ينفع صاحبه، لأن هذا أقرّ به المشركون وصناديد الكفرة، ولم يخرجهم من الكفر، ولم يدخلهم في الإسلام، فهذا غلطٌ عظيم، فمن اعتقد هذا الاعتقاد ما زاد على اعتقاد أبي جهل وأبي لهب، فالذي عليه الآن بعض المثقّفين هو تقرير توحيد الربوبية فقط، ولا يتطرقون إلى توحيد الألوهية، وهذا غلط عظيم في مسمّى التوحيد.
وأما الشرك فيقولون: (هو أن تعتقد أن أحدًا يخلق مع الله أو يرزق مع الله)، نقول: هذا ما قاله أبو جهل وأبو لهب، ما قالوا: إن أحدًا يخلق مع الله، ويرزق مع الله، بل مقرّون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت.
٦- "القاعدة الثانية": أن المشركين الذين سماهم الله مشركين =
1 / 19
.................................................................................
_________
= وحكم عليهم بالخلود في النار، لم يشركوا في الربوبية وإنما أشركوا في الألوهية، فهم لا يقولون إن آلهتهم تخلق وترزق مع الله، وأنهم ينفعون أو يضرون أو يدبرون مع الله، وإنما اتخذوهم شفعاء، كما قال الله تعالى عنهم: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ﴾ [يونس: ١٨]، ﴿مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ﴾ هم معترفون بهذا إنهم لا ينفعون ولا يضرون، وإنما اتخذوهم شفعاء، يعني: وُسطاء عند الله في قضاء حوائجهم، يذبحون لهم، وينذرون لهم، لا لأنهم يخلقون أو يرزقون أو ينفعون أو يضرون في اعتقادهم، وإنما لأنهم يتوسطون لهم عند الله، ويشفعون عند الله، هذه عقيدة المشركين.
وأنت لمّا تناقش الآن قبوريًا من القبوريين يقول هذه المقالة سواءً بسواء، يقول: أنا أدري أن هذا الولي أو هذا الرجل الصالح لا يضر ولا ينفع، ولكن هو رجلٌ صالحٌ وأريد منه الشفاعة لي عند الله.
والشفاعة فيها حق وفيها باطل، الشفاعة، التي هي حق وصحيحة هي ما توفر فيها شرطان:
الشرط الأول: أن تكون بإذن الله.
الشرط الثاني: أن يكون المشفوع فيه من أهل التوحيد، أي: من عصاة الموحدين.
إن اختل شرط من الشرطين فالشفاعة باطلة، قال –تعالى-: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا =
1 / 20
ودليل الشفاعة قوله –تعالى-: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس:١٨]، والشفاعة شفاعتان: شفاعة منفيّة وشفاعة مثبَتة:
فالشفاعة المنفيّة ما كانت تٌطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلاّ الله، والدليل: قوله –تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة:٢٥٤] .
والشفاعة المثبَتة هي: التي تُطلب من الله، والشّافع مُكْرَمٌ بالشفاعة، والمشفوع له: من رضيَ اللهُ قوله وعمله بعد الإذن كما قال –تعالى-: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة:٢٥٥] .
_________
= لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء: ٢٨]، وهم عصاة الموحدين، أما الكفار والمشركون فما تنفعهم شفاعة الشافعين ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ [غافر: ١٨] فهؤلاء سمعوا بالشفاعة ولا عرفوا معناها، وراحوا يطلبونها من هؤلاء بدون إذن الله –﷿، بل طلبوها لمن هو مشركٌ بالله لا تنفعه شفاعة الشافعين، فهؤلاء يجهلون معنى الشفاعة الحقة والشفاعة الباطلة.
٧- الشفاعة لها شروط ولها قيود، ليس مطلقة.
فالشفاعة شفاعتان: شفاعة نفاها الله –جل وعلا-، وهي الشفاعة بغير إذنه –﷾، فلا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه، وأفضل الخلق وخاتم النبيين محمد –ﷺ إذا أراد أن يشفع لأهل الموقف يوم القيامة يخرّ ساجدًا بين يدي ربه ويدعوه ويحمده ويُثني عليه، ولا يزال ساجدًا حتى يُقال له: "ارفع رأسك، وقل تُسمع، واشفع =
1 / 21
٨- والقاعدة الثالثة: أنّ النبي –ﷺ ظهر على أُناسٍ متفرّقين في عباداتهم منهم مَن يعبُد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأحجار والأشجار، ومنهم مَن يعبد الشمس والقمر. وقاتلهم رسول الله –ﷺ ولم يفرِّق بينهم.
_________
= تشفّع" (١)، فلا يشفع إلا بعد الإذن.
والشفاعة المثبتة هي التي تكون لأهل التوحيد، فالمشرك لا تنفعه شفاعة، والذي يقدّم القرابين للقبور والنذور للقبور هذا مشرك لا تنفعه شفاعة.
وخلاصة القول: أن الشفاعة المنفية هي التي تطلب بغير إذن الله، أو تطلب لمشرك.
والشفاعة المثبتة هي التي تكون بعد إذن الله، ولأهل التوحيد.
٨- القاعدة الثالثة: أن النبي –ﷺ بُعث إلى أناس من المشركين، منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الشمس والقمر ومنهم من يعبد الأصنام والأحجار والأشجار، ومنهم من يعبد الأولياء والصالحين.
وهذا من قبح الشرك أن أصحابه لا يجتمعون على شيء واحد، بخلاف الموحّدين فإن معبودهم واحد –﷾: ﴿ءأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا﴾ [يوسف: ٣٩]، فمن سلبيّات الشرك وأباطيله: أن أهله متفرقون في عباداتهم لا =
_________
(١) قطعةٌ من حديث طويل أخرجه البخاري (رقم: ٧٥١٠)، في التوحيد، باب كلام الرب ﷿ يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، ومسلم (رقم: ١٩٣) في الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها؛ من حديث أنس بن مالك –﵁.
1 / 22
.................................................................................
_________
= يجمعهم ضابط لأنهم لا يسيرون على أصل، وإنما يسيرون على أهوائهم ودعايات المضللين، فتكثر تفرقاتهم: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٢٩]، فالذي يعبد الله وحده مثل المملوك الذي يملكه شخص واحد يرتاح معه، يعرف مقاصده ويعرف مطالبه ويرتاح معه، لكن المشرك مثل الذي له عدة مالكين، ما يدري من يُرضي منهم، كل واحد له هوى، وكل واحد له طلب، وكل واحد له رغبة، كل واحد يريده أن يأتي عنده، ولهذا قال سبحانه: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ﴾ يعني: يملكه أشخاص، لا يدري من يرضي منهم، ﴿وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ﴾ مالكه شخص واحد، هذا يرتاح معه، هذا مثل ضرب الله للمشرك وللموحد.
فالمشركون متفرقون في عباداتهم، والنبي – ﷺ قاتلهم ولم يفرّق بينهم، قاتل الوثنيين، وقاتل اليهود والنصارى، قاتل المجوس، قاتل جميع المشركين، وقاتل الذين يعبدون الملائكة، والذين يعبدون الأولياء الصالحين، لم يفرّق بينهم.
فهذا فيه ردّ على الذين يقولون: الذي يعبد الصنم ليس مثل الذي يعبد رجلًا صالحًا وملكًا من الملائكة، لأن هؤلاء يعبدون أحجارًا وأشجارًا، ويعبدون جمادات، أما الذي يعبد رجلًا صالحًا ووليًا من أولياء الله ليس مثل الذي يعبد الأصنام.
ويريدون بذلك أن الذي يعبد القبور الآن يختلف حكمه عن الذي يعبد الأصنام، فلا يكفر، ولا يُعتبر عمله هذا شركًا، ولا يجوز قتاله. =
1 / 23
٩- والدليل قوله -تعالى-: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة:١٩٣] .
١٠ ودليل الشمس والقمر قوله –تعالى-: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ﴾ [فصلت:٣٧] .
_________
= فنقول: الرسول لم يفرّق بينهم، بل اعتبرهم مشركين كلهم، واستحل دماءهم وأموالهم، ولم يفرق بينهم، والذين يعبدون المسيح، والمسيح رسول الله، ومع هذا قاتلهم. واليهود يعبدون عزيرًا، هو من أنبيائهم، أو من صالحيهم، قاتلهم رسول الله –ﷺ، لم يفرّق بينهم، فالشرك لا تفريق فيه بين من يعبد رجلًا صالحًا أو يعبد صنمًا أو حجرًا أو شجرًا، لأن الشرك هو: عبادة غير الله كائنًا من كان، ولهذا يقول: ﴿وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: ٣٦]، ﴿شَيْئًا﴾ نكرة في سياق النهي تعم كل شيء، تعم كل من أشرك مع الله – ﷿ من الملائكة والرسل والصالحين والأولياء، والأحجار والأشجار.
٩- قوله: "والدليل قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ " أي: الدليل على قتال المشركين من غير تفريق بينهم حسب معبوداتهم؛ قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ﴾، وهذا عامّ لكل المشركين، لم يستثن أحدًا، ثم قال: ﴿حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ والفتنة: الشرك، أي: لا يوجد شرك، وهذا عامّ؛ أي شرك، سواء الشرك في الأولياء والصالحين، أو بالأحجار، أو بالأشجار، أو بالشمس أو بالقمر.
﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾: تكون العبادة كلها لله، ليس فيها شِركة لأحد كائنًا من كان، فلا فرق بين الشرك بالأولياء والصالحين أو بالأحجار أو بالأشجار أو بالشياطين، أو غيرهم.
١٠- دل على أن هناك من يسجد للشمس والقمر، ولهذا نهى =
1 / 24
١١- ودليل الملائكة قوله –تعالى-: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ [آل عمران:٨٠] .
١٢- ودليل الأنبياء قوله –تعالى-: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [المائدة:١١٦] .
_________
= الرسول –ﷺ عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها (١) سدًا للذريعة، لأن هناك من يسجد للشمس عند طلوعها ويسجد لها عند غروبها، فنهينا أن نصلي في هذين الوقتين وإن كانت الصلاة لله، لكن لما كان في الصلاة في هذا الوقت مشابهة لفعل المشركين مُنع من ذلك سدًا للذريعة التي تُفضي إلى الشرك، والرسول –ﷺ جاء بالنهي عن الشرك وسد ذرائعه المفضية إليه (٢) .
١١- قوله: "ودليل الملائكة ... إلخ" دل على أن هناك من عبد الملائكة والنبيين، وأن ذلك شرك.
وعباد القبور اليوم يقولون: الذي يعبد الملائكة والنبيين والصالحين ليس بكافر.
١٢- وقوله: "ودليل الأنبياء ... إلخ" هذا فيه دليل على أن عبادة الأنبياء شرك مثل عبادة الأصنام. =
_________
(١) كما في حديث عبد الله بن عمر –﵁: أن رسول الله –ﷺ قال: "لا يتحرّى أحدكم، فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها".د
أخرجه البخاري (رقم: ٥٨٥) في المواقيت، باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس، ومسلم (رقم: ٨٢٨) فيس المساجد، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها.
(٢) انظر: "فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد": (٢/٨٣٥-٨٣٩) .
1 / 25