شرح الأربعين النووية - العباد
شرح الأربعين النووية - العباد
Géneros
الإيمان بالقدر
الإيمان بالقدر أحد أصول الإيمان الستة المبينة في حديث جبريل المشهور، فقد سأل رسول الله ﷺ عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره).
أخرجه مسلم في (صحيحه)، وهو أول حديث في كتاب الإيمان الذي هو أول كتب صحيحه.
وجاء في إسناده أن عبد الله بن عمر ﵄ حدث به عن أبيه استدلالًا به على الإيمان بالقدر، وذلك عندما سأله يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري عن أناس وُجدوا في العراق ينكرون القدر، ويقولون: إن الأمر أنف.
فقال للسائل: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبًا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر) ثم حدث بالحديث عن أبيه.
وحديث جبريل الذي رواه عمر من أفراد مسلم، وقد اتفق الشيخان على إخراجه من حديث أبي هريرة ﵁.
وقد جاء في القرآن آيات كثيرة، وجاءت في السنة أحاديث عديدة تدل على إثبات القدر، فأما القرآن فقد قال الله ﷿: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:٤٩]، وقال: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ [التوبة:٥١]، وقال: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد:٢٢].
وأما السنة فقد عقد الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما كتابًا للقدر اشتمل على أحاديث عديدة في إثبات القدر، فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله أنه قال: قال رسول الله ﷺ: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا.
ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان)].
وهذا الحديث عظيم، ومعناه أن قوة القوي وضعف الضعيف مقدران، وأن كل ذلك بقضاء الله وقدره، وكلاهما فيه خير مع تفاوتهما.
وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي ﷺ قال: (كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس) أي: حتى نشاط النشيط وكسل الكسول.
فكل ذلك مقدر، فلا تقع حركة ولا سكون في الوجود إلا وهي بقضاء الله وقدره، وبمشيئة الله وإرادته، وخلقه وإيجاده.
ثم قال ﵊: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله)، فعلى الإنسان أن يأخذ بالأسباب، ولا يتكل على القدر ويقول: إذا كتب الله لي شيئًا فإنه سيأتيني، ولو لم أفعل الأسباب.
فلابد من فعل الأسباب، ولهذا قال ﷺ: (احرص على ما ينفعك) أي: أن نأخذ بالأسباب.
ولكن مع الأخذ بالأسباب لا يعول الإنسان عليها بحيث إنه يجعلها كل شيء، ولا يكون هناك شيء وراء الأسباب، بل هناك شيء وراء الأسباب، وهو توفيق مسبِّب الأسباب، وهو الله ﷾، ولهذا قال بعد ذلك: (واستعن بالله) أي: ليس الأمر أن يفعل الإنسان السبب فيحصل كل شيء، وهذا هو حال الناس الماديين الذين ليس لهم صلة بالله ﷿، فالحياة عندهم أسباب ومسببات ولا شأن لله ﷿.
والذي يعتقده المسلم أنه لابد من الاثنين؛ لا بد من أن يفعل الإنسان السبب، ولابد أن يستعين بالله ﷿ على حصول المسبب.
وقد بين النبي ﷺ أن فعل الأسباب لا يتنافى مع التوكل، فقال ﷺ: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا)، فالتوكل على الله ﷿ ليس بترك الأسباب، والرسول ﷺ -وهو سيد المتوكلين- كان يلبس اللأمة والمغفر في الحرب، وهما من أسباب الوقاية، وهو مع ذلك متوكل على الله ﷿.
فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، بل هو أمر مطلوب، فالإنسان عندما يريد الولد فإنه يتزوج، وليس هناك طريق للنسل إلا الزواج أو ملك اليمين، ولا يأتي الولد عفوًا، ولو أن إنسانًا قال: إذا قدِّر الله لي أن يأتني الولد تزوجت وإلّا فلا، أو يصير لي ملك يمين وإلّا فلا فإن هذا يعتبر سفهًا؛ لأن الولد لا يحصل إلا بهذا الطريق.
فلابد من الأخذ بالأسباب، ولكن مع كون الإنسان يتزوج ويأخذ بالأسباب عليه أن يعلم أن الزواج ليس هو كل شيء في تحقيق الولد، بل إن شاء الله ﷿ ووفق في حصول الولد حصل ذلك، وإن شاء أن لا يحصل لم يحصل وإن أخذ بالأسباب، فلابد من الأمرين جميعًا، ولهذا نجد أن النبي ﷺ أرشد إليهما في قوله: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله).
فالإنسان لا يعول على الأسباب ويقول: هي كل شيء.
وكذلك لا يتركها ويقول: سأجلس في بيتي ولن أبحث عن الرزق، وإذا قدر الله لي شيئًا فإنه سيأتي إليَّ وإن لم أفعل الأسباب.
وقد بيّن الرسول ﷺ أن الطير تغدو خماصًا ولا تجلس في أوكارها وتنتظر أن يأتيها الرزق بدون فعل السبب، فقال ﷺ: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا) أي أنها في الصباح تروح خاوية البطون (وتروح بطانًا) أي: وتأتي في الرواح مليئة البطون.
فقد فعلت الأسباب، وفعل الأسباب لا ينافي التوكل، ولهذا أرشد النبي ﷺ في هذا الحديث إلى الأمرين: فعل السبب، وبيان الشيء الذي لابد منه لتحصيل المقصود، وهو توفيق الله سبحانه، فالإنسان مع فعله السبب يلجأ إلى الله ﷿ ويسأله أن ينفع بالأسباب، وأن يوفقه لتحصيل ما يريد، وأن يسهل له ذلك، فقال: (واستعن بالله ولا تعجز)، ثم قال: (فإن أصابك شيء) أي: بعد فعل الأسباب (فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا)، فلو أن إنسانًا -مثلًا- دخل في مشروع من المشاريع وفعل الأسباب ولكنه فشل في هذا المشروع فليس له أن يقول: لو أنني لم أفعل هذا المشروع وفعلت مشروعًا آخر لحصل كذا وكذا.
فهذا كلام باطل، فالله ﷿ أعلم بما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، فلا يدري الإنسان لو فعل مشروعًا آخر أنه سيوفق فيه؛ لأن ذلك غيب، ولا يعلم الغيب إلا الله ﷿، قال ﷺ: (فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا.
ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان).
فالإنسان إذا قال: لو فعلت كذا لكان كذا فإن ذلك من عمل الشيطان ووسوسته للإنسان ليظله وليغويه، وليبعده عن التعويل على الله ﷿ في جميع شئونه.
7 / 2