شرح العقيدة الطحاوية - يوسف الغفيص
شرح العقيدة الطحاوية - يوسف الغفيص
Géneros
شرح العقيدة الطحاوية [١]
تعتبر العقيدة الطحاوية التي ألفها الإمام أبو جعفر الطحاوي ﵀، على منهج أهل السنة والجماعة، وإن كان فيها أحرف يسيرة مخالفة، ولذلك كان لها شيوع كبير بين علماء المسلمين وطلابهم، حتى أصبحت تدرس في كثير من الجامعات والمساجد ودور العلم.
1 / 1
مقدمة شرح العقيدة الطحاوية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فهذه هي العقيدة الطحاوية، للإمام أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الأزدي المصري الشافعي ثم الحنفي، المولود سنة (٢٣٩هـ)، والمتوفى رحمه الله تعالى سنة (٣٢١هـ).
وقد صنفها الإمام الطحاوي بيانًا لمجمل عقيدة أهل السنة والجماعة، وبحسب مقدمة الإمام الطحاوي ﵀ في رسالته نقف مع ثلاث مقدمات لهذا الشرح:
1 / 2
المقدمة الأولى: عقيدة الإمام أبي حنيفة
الإمام أبو حنيفة هو أحد الأئمة الأربعة، وقد تكلم الناس في مذهبه في أصول الدين، وإذا نظرنا إلى بعض كتب الرجال أو السنة المسندة كالسنة لـ عبد الله بن أحمد، نجد بعض المسائل التي يُضاف القول فيها إلى أبي حنيفة وهي مخالفة لمعتقد السلف.
ونجد أن كثيرًا من الفقهاء والذين تكلموا في المقالات يترددون في شأن أبي حنيفة؛ وذلك بسبب أن أصحابه هم أكثر أصحاب الأئمة الأربعة اختلافًا وافتراقًا في أصول الدين، فـ أبو منصور الماتريدي الذي كان معاصرًا لـ أبي الحسن الأشعري هو حنفي المذهب، ويعد من أعيان علماء الكلام، ومن المعروف أن ما قرره الماتريدي في كتبه كـ (التوحيد) و(التفسير) وغيرها ليس هو معتقد السلف، بل إن طريقة أبي الحسن الأشعري بإجماع أهل السنة والجماعة خير من طريقة أبي منصور الماتريدي.
وكذلك الكرامية أتباع محمد بن كرام السجستاني، الذين مالوا إلى التشبيه، هم أيضًا أحناف في الجملة، وكذلك بعض الأشعرية أحناف، وكذا طائفة من المعتزلة -ولا سيما متأخريهم- كثر انتماؤهم لمذهب أبي حنيفة؛ بل إن المعتزلة المتمذهبين بأحد مذاهب الفقهاء عامتهم على مذهب الإمام أبي حنيفة في الفقه، وقد انتحلوا شيئًا من كلامه في أصول الدين وأضافوه إلى شيء مما قرروه، فضلًا عن طوائف من الصوفية التي انتحلت مذهب الإمام أبي حنيفة ﵀.
وكثير من هذا الانتحال لأصول أبي حنيفة كائن في الفقه ومسائله، ولكن كثيرًا منهم يطردون ذلك في مسائل أصول الدين، ومن المعلوم أن أبا حنيفة لم يثبت له مصنف واحد في مسائل أصول الدين، وأشهر ما يذكر له كتاب (الفقه الأكبر)، ومن المتحقق أنه ليس لـ أبي حنيفة، وإنما كتبه أحد علماء الحنفية فيما بعد، وأضافه إلى أبي حنيفة.
ومن المتحقق أيضًا أن الإمام أبا حنيفة ﵀ كان على طريقة أئمة السنة والجماعة، ولم يخالف شيئًا من أصول السلف إلا ما يتعلق بمسألة الإيمان، حيث ذهب إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، وأن العمل ليس داخلًا في مسمى الإيمان.
ومذهب أبي حنيفة في الإيمان على ما ذكرنا هو المحقق عند عامة أهل العلم والمقالات، وجمهور أصحاب أبي حنيفة، ولم يتردد في نسبة ذلك إليه إلا طائفة من المتأخرين الذين يحققوا ذلك تحقيقًا دقيقًا.
وهذا مذهب حماد بن أبي سليمان الفقيه الكوفي الذي كان من تلاميذ إبراهيم النخعي.
أما مسائل الصفات والقدر فهو وإن أضيف إليه في بعض الكتب شيء من الغلط في ذلك، فإنما هذه بلاغات تحكى عنه، ولم ينضبط عن أبي حنيفة ﵀ شيء من ذلك.
أما إمامته في الفقه فمجمع عليها بين سائر علماء المسلمين من المتقدمين والمتأخرين، وكذلك أصوله ﵀ هي أصول الأئمة، وإن كان بعض أئمة الحديث المتقدمين يأخذون على أبي حنيفة ومن هو على طريقته اعتبار الرأي وقلة الأخذ بالسنن والآثار، وهذه مسألة أخرى تتعلق بمسائل الاستدلال الفقهي.
وعليه: فإن الإمام أبا حنيفة يضاف إلى أئمة السنة والجماعة.
هذا محصل ما يتعلق بشأن الإمام أبي حنيفة، ولذا: فإن الأحناف في الجملة لا يمثلون مذهب الإمام أبي حنيفة؛ فإن منهم أهل تأويل كالماتريدية، وطوائف من الأشعرية، ومنهم مجسمة كالكرامية، ومنهم مفوضة
إلى غير ذلك، وإن كان في الأحناف من المتقدمين والمتأخرين من هو على معتقد السلف والأئمة.
1 / 3
المقدمة الثانية: عقيدة الإمام الطحاوي
يعتبر الإمام الطحاوي من أخص أصحاب الإمام أبي حنيفة، وإن كان نشأ شافعيًا؛ لأنه ولد في بيت شافعي، إلا أنه تحول إلى مذهب الإمام أبي حنيفة.
وإذا نظرنا إلى رسالته هذه وجدنا أنها تقرر مجمل عقيدة السلف أهل السنة والجماعة، لكن هناك بعض المسائل التي قد يُتردد في صحتها وانضباطها، وهذا معتبر بمسألة وهي:
أن أصحاب الأئمة الأربعة الذين أخذوا عنهم مباشرة قد انضبط شأنهم -في الجملة- في كونهم على طريقة أئمتهم في مسائل أصول الدين.
وأما من جاء بعدهم من أتباع الأئمة الأربعة، فهؤلاء في الجملة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام في مسائل أصول الدين:
القسم الأول: من حقق أصول إمامه تحقيقًا صحيحًا، فيكون موافقًا لمعتقد الأئمة انتحالًا وتحقيقًا.
انتحالًا: أي أنه ينتحل مذهبهم، وتحقيقًا: أي أنه أصابه وعرفه وضبطه، وهذا هو شأن المحققين من الأحناف، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
والانضباط في هذه الطوائف الأربع أكثره في الحنابلة، وأقله في الحنفية، ثم الشافعية، والمالكية أقرب إلى الحنابلة انضباطًا؛ وموجب ذلك ليس من جهة التعصب بتقديم الحنابلة، وإنما موجبه: أن كلام الإمام أحمد ﵀ في مسائل أصول الدين شائع، وقد كان ينتحل مذهبه من هو من أعيان الشافعية، أو الحنفية، أو المالكية، بخلاف كلام الإمام أبي حنيفة، فإنه ليس شائعًا في هذه المسائل.
وأما أصحاب مالك فيميلون إلى الحنابلة؛ لأنه لم ينتحل مذهب الإمام مالك إمام له شأن وأتباع من المخالفين لأصول السلف أو المائلين عنها، بخلاف الإمام الشافعي، فإنه وإن كان أصحابه أكثر انضباطًا من أصحاب أبي حنيفة، إلا أنه لما جاء أبو الحسن الأشعري -وهو شافعي المذهب- تقلد كثير من الشافعية مذهب أبي الحسن، ولا سيما أن أبا الحسن كان ينتحل مذهب الأئمة المتقدمين، ويصرح بأنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، مع أنه من حيث الفقه ليس على مذهبه، وإنما يعتبره مذهبًا له في أصول الدين؛ لما شاع من اختصاص الإمام أحمد بتقرير هذه المسائل.
وبسبب ظهور أبي الحسن الأشعري كثر في الشافعية الغلط والمخالفة لأصول السلف.
القسم الثاني: من انتحل مذهبًا انضبطت مخالفته لمذهب السلف -أي: معروفًا بالمخالفة زمن الأئمة- سواء كان هذا مذهبًا متقدمًا، أو كان مذهبًا طرأ بعد القرون الثلاثة الفاضلة، وهذا يقع فيه خلق من الأحناف، والشافعية، والمالكية، وقليل من الحنابلة، ولا سيما في أصحاب أبي حنيفة؛ فإن طائفة منهم انتحلوا الاعتزال مذهبًا في أصول الدين، وقد كانت المعتزلة طائفةً معروفةً بالمخالفة لمذهب الأئمة أنفسهم، وإن كان هذا القسم من أصحاب الأئمة كثير منهم يكون ميلهم عن طريقة إمامهم بانتحال مدرسة أو مذهب نشأ بعد القرون الثلاثة الفاضلة.
وأخص مدرسة حصل بموجبها الغلط هي: مدرسة الإمام أبي الحسن الأشعري؛ فترى كثيرًا من الشافعية، والمالكية، وطائفة من الأحناف، على مذهب أبي الحسن الأشعري في مسائل أصول الدين، ومذهبه فيه موافقة للسنة والجماعة وفيه مخالفة، ولكن أصحابه من بعده كالقاضي أبي بكر الباقلاني ومن بعده الجويني ابتعدوا عن طريقته إلى طريقة مقاربة لطريقة قوم من المعتزلة، ولذا فإن المتأخرين من الأشاعرة أبعد عن أصول السنة والجماعة ومقالاتهم من الأشعري نفسه، فإن طريقته مقاربة في كثير من مواردها لطريقة السلف، مع ما عنده من الغلط والمخالفة للإجماع.
ثم جاء المتأخرون -كـ محمد بن عمر الرازي وأمثاله- الذين خلطوا مذهب الأشعري بأصول من الفلسفة، وكلام ابن سينا، وشيء من كلام المعتزلة، إلى غير ذلك، فصارت مدرسة الأشعري في طورها الأخير -ولاسيما بعد أبي المعالي الجويني - مباعدة لطريقة الأشعري نفسه، فضلًا عن مباعدتها لطريقة السلف.
القسم الثالث: وهم خلق من أصحاب الأئمة الأربعة غير منضبطين على أصول الأئمة، ولا ينتحلون مذهبًا من المذاهب الكلامية كمذهب الماتريدي أو مذهب الأشعري أو غير ذلك، وإنما هم قوم ينتحلون أصول الأئمة، ويعرفون جملهم، ويعظمون السنن والآثار، ويذمون البدع، ولكنهم إذا أخذوا في تفصيل هذه الجمل غلطوا في بعض مواردها.
وموجب هذا الاختلاط: أنهم أخذوا بالأصول التي عرفت عن الأئمة، لكن لكون طائفة ممن يشاركهم في الانتماء للمذهب الفقهي لهم اتصال بمدرسة كلامية كالاعتزال، أو الماتريدية، أو الأشعرية، أو غيرها؛ صار عندهم تأثر بهؤلاء؛ فمثلًا: يوجد في الشافعية من هم على طريقة المتكلمين، فمن لم يحقق طريقة السلف من الشافعية أنفسهم فإنه يتأثر بهؤلاء الشافعية المتكلمين، فيدخل على طريقته شيء من المقولات والتأويلات الكلامية.
وهؤلاء ما بين مستقل ومستكثر، وهذا الصنف يكثر في الحنابلة أكثر من غيرهم، فمثلًا: ابن عقيل وقبله القاضي أبو يعلى، وكذلك التميميون من الحنابلة كـ أبي الحسن التميمي، وأبي الفضل التميمي، وأمثالهم، هم من أهل هذه الطريقة، بمعنى أنهم متأثرون بشيء من الغلط في مسائل أصول الدين، لكنهم من حيث الجملة على أصول الأئمة.
1 / 4
المقدمة الثالثة: تقييم رسالة (العقيدة الطحاوية)
تعتبر رسالة الطحاوية -في الجملة- على منهج أهل السنة والجماعة، لكن مع هذا صار لها ذيوع وشيوع عند سائر الفرق، وموجب ذلك: أن الطحاوي ﵀ أجمل بعض المسائل التي هي محل نزاع بين المتأخرين، ولربما عبر بأحرف هي من أحرف أبي الحسن الأشعري وغيره من المتكلمين في بعض المسائل، ولهذا نجد ابن السبكي -وهو من الأشاعرة المتعصبين- يقول: (إن أصحاب الأئمة الأربعة معتقدهم في الجملة واحد، وهو ما قرره أبو جعفر الطحاوي ﵀.
فمثلًا: عندما ذكر الطحاوي مسألة القدر قال: (وأفعال العباد كسب لهم).
ومعلوم أن لفظ (الكسب) مصطلح عرفت به مدرسة الأشاعرة، ولما ذكر مسألة العلو قال: (تعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات)، وقال: (لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات)، وهذه من الأحرف التي يعبر بها المتكلمون.
وكذلك في مسألة تكليف ما لا يطاق، عبر بنفس الأحرف التي يعبر بها علماء الأشاعرة.
إذًا: هذه الرسالة لم تكن في بعض مواردها صريحة في إبطال مذهب الأشعرية على التفصيل؛ بل فيها جمل فيها إجمال مع المذهب الأشعري، ولهذا السبب فإن هذه الرسالة قد شرحها جملة من الأحناف على طريقة الأشعرية تارة، وعلى طريقة الماتريدية تارة أخرى، وقد شرحها ابن أبي العز الحنفي على ما هو معروف عن الأئمة والسلف.
ولأجل هذا الإجمال أمكن لكثير من شراحها أن يصنفوا بعض جملها إلى مفصل معتقد الأشعرية، أو إلى مفصل معتقد الماتريدية، مع أن التحقيق أن هذا التصنيف أو التأويل ليس صريحًا في الرسالة، بمعنى أن الرسالة فيها جمل كثيرة صريحة في مخالفة مذهب الأشعرية والماتريدية.
وأيضًا: من جهة تراتيبها العلمية -وهذه مسألة قد تخفى على كثير من الناظرين في الرسالة- فإن هذه الرسالة من حيث التراتيب العلمية مقاربة للتراتيب الأشعرية.
فلهذه الأسباب صار لهذه الرسالة الشيوع والذيوع عند سائر الفرق، وإن كانت في الجملة على عقيدة السلف.
وقد يكون من الفقه عند طالب العلم أن تكون هذه الرسالة من الرسائل التي يقرر مذهب السلف تحتها، وتكون محل قبول عند بعض أهل التعصب ضد بعض الرسائل التي عرفت بالصراحة في تقرير مذهب السلف؛ كرسائل شيخ الإسلام ابن تيمية وأمثاله، فإن هذه الرسائل قد لا يتلقاها كثير ممن عندهم مخالفة لأصول السلف أو مقالاتهم، بخلاف هذه الرسالة فإنها ذائعة شائعة منذ قرون.
وعليه: فإن الاعتناء بها يكون اعتناءً فاضلًا من جهة تقرير معتقد السلف، ومن جهة الدعوة إليه، والمسائل التي فيها غلط ينبه عليها في موضعها.
1 / 5
سبب تسمية أهل السنة والجماعة بهذا الاسم
قال العلامة حجة الإسلام أبو جعفر الوراق الطحاوي ﵀: [هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدين، ويدينون به رب العالمين].
قوله: (هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة): أهل السنة والجماعة إنما اختصوا بهذا الاسم لأنه تواتر عن النبي ﷺ قوله: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق)، وقد أخرج الشيخان وغيرهما في ذلك روايات متعددة من حديث جابر بن سمرة، وأبي هريرة، وعبادة بن الصامت، ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم ﵃.
وهذه الطائفة بإجماع أهل العلم مقتدية برسول الله ﷺ في هديه العلمي والعملي، أي: فيما هو من محل الاعتقاد أو محل العمل؛ فإن الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل.
وجاء عنه ﷺ كما في المسند والسنن من حديث أبي هريرة، وأنس، وعبد الله بن عمر، أن النبي ﷺ قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ...) إلى آخر الحديث.
ومما ينبه إليه: أن ذكر هذه الطائفة ليس معتبرًا بهذا الحديث فقط، فإن هذا الحديث قد تكلم فيه طائفة من أهل العلم، وصححه أو قواه آخرون، فسواء صح هذا الحديث أو لم يصح؛ فإن ثبوت هذا الانتماء إلى أهل السنة والجماعة معتبر بالنصوص المتواترة التي ذكر فيها النبي ﷺ افتراق الأمة، وذكر أن طائفة لا تزال على الحق إلى قيام الساعة، وغير ذلك من النصوص الصحيحة، فعدم صحة هذا الحديث لا يؤخذ منه إلا أن التخصيص لهذا العدد -وإن كان حسنًا في الجملة- وهو الثلاث والسبعون لم ينضبط من جهة السنة، فإذا قلنا بأن الحديث لم يصح فإنه يسقط بذلك التصريح بهذا العدد، وهو أن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وأما أن الافتراق نفسه يرتفع إذا ضُعف هذا الحديث أورد فليس كذلك؛ وذلك لوجهين:
الوجه الأول: ما تواتر من السنة بأنه لا تزال طائفة على الحق، وأن الأمة ستفترق.
الوجه الثاني: اعتبار الحال، فإن الافتراق شائع في الأمة منذ قرون متقدمة.
1 / 6
ظهور البدع في تاريخ الإسلام
لم يكن في زمن النبي ﷺ اختلاف في مسائل أصول الدين، وكذلك في زمن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، إلا في آخر خلافة الخلفاء لما ظهرت الخوارج.
وكان أول غلط وقع هو الغلط في مسألة الإيمان، وما يتعلق بها من الأسماء والأحكام -أي: حكم أهل الكبائر- وكان ذلك في آخر خلافة الخلفاء الأربعة الراشدين.
ثم بعد انقراض عصر الخلفاء وفي آخر عصر الصحابة وبعد إمارة معاوية -أي: في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبني أمية- ظهر الخلاف في القدر، ثم بعد عصر الصحابة وفي قرن التابعين ظهر الخلاف في مسألة الصفات، وهلم جرًا من التسلسل الذي ظهرت به البدع المخالفة لمعتقد السلف ﵏، وهم أصحاب الرسول ﵊ ومن اتبعهم وسار على منهجهم.
وإذا ذكر السلف فإن المراد بهم الصحابة ومن اقتدى بهم، على ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ [التوبة:١٠٠].
وعليه: فإن تخصيصه لـ أبي حنيفة وصاحبيه على التحقيق المتقدم ليس له ذاك الاختصاص، وإنما هو نوع من البيان والذكر، وإلا فإن عقيدة أبي حنيفة وصاحبيه هي عقيدة سائر الأئمة.
1 / 7
منزلة توحيد الألوهية عند المتكلمين
قال المصنف ﵀: [نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره].
قوله: (إن الله واحد لا شريك له) ابتدأ الطحاوي رسالته بذكر مسألة التوحيد، ولكنه ذكرها مجملة، والجمل التي بعد الجملة الأولى تتعلق بتوحيد الربوبية، وأما توحيد الألوهية فإنه ذكره مجملًا.
وهذا يرتبط بمسألة: وهي أن كثيرًا من المتأخرين -ولا سيما المتكلمين ومن تأثر بهم- إذا قرروا مسألة الاعتقاد وأصول الدين فإنهم يبتدئون بذكر توحيد الربوبية؛ لأنهم يعتبرون أن القول في الصفات يكون فرعًا عن هذا التقرير، وهذا الاعتبار من حيث الأصل لا إشكال فيه، لكن الغلط الذي وقع فيه المتكلمون هو من جهة أنهم لم يحققوا توحيد الربوبية إثباتًا إلا بنوع من الأدلة التي تستلزم تعطيل الصفات -كما هو مذهب المعتزلة- أو ما هو منها.
وعليه: فإن نفي الصفات عند المعتزلة، أو نفي بعض الصفات -كما هو مذهب الأشاعرة والماتريدية- جاء نتيجة لتقرير مسألة الربوبية بأدلة تستلزم إما تعطيل الصفات، كما هو مذهب المعتزلة، أو تعطيل بعضها وهي الصفات الفعلية، كما هو عند الأشاعرة والماتريدية.
مع أن مسألة توحيد الربوبية تعتبر أصلًا مقررًا في الأدلة الشرعية التي هي أدلة فطرية، وأدلة عقلية، وهناك مقاصد من الشريعة تدل على توحيد الربوبية الذي لم يكن محل خلاف بين المسلمين، ولا بين جمهور الأمم؛ فإن جمهور بني آدم يقرون بأصل الربوبية.
وإنما الأصل الذي بُعِثَ الرسل عليهم الصلاة والسلام بتقريره وتفصيله، وكان الغلط فيه شائعًا في بني آدم، هو توحيد الألوهية، لكننا لا نجد هذا التوحيد مذكورًا في كتب المتكلمين كثيرًا، ليس لأن المتكلمين يرون جواز الشرك في الألوهية، وإنما لأنهم يعتبرون أن مسائل الصفات وما يتعلق بها من المسائل يرتبط تقريره بمسألة الربوبية، فلابد من تقرير توحيد الربوبية، ثم بعد ذلك تقرير مسائل الصفات والأفعال وغير ذلك.
وأما توحيد الألوهية فيرون أنه مسألة منفكة، وليس لها اتصال بهذا التقرير الذي اعتبروه، وهذا من أوجه غلطهم في هذا التوحيد.
1 / 8
السبب في إفراد توحيد الأسماء والصفات
وقول الطحاوي ﵀: (إن الله واحد لا شريك الله)، هذا من أثر السنة على الطحاوي ﵀، فإنه ذكر توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.
وقد كان الشائع في كلام المتقدمين من أهل العلم أن التوحيد على النوعين: توحيد علمي وتوحيد إرادي، أو: توحيد المعرفة وتوحيد الطلب والقصد، ويذكرون أن توحيد المعرفة أو التوحيد العلمي هو توحيد الربوبية، ويدخل في توحيد الربوبية مسألة الأسماء والصفات، ويكون التوحيد الطلبي أو الإرادي هو توحيد العبادة، الذي هو: إفراد الله ﷾ بالعبادة الظاهرة والباطنة.
ولكن لما حصل التعطيل في الأسماء والصفات المخالف للتوحيد فيها؛ صار طائفةٌ من أهل السنة والجماعة يخصون الأسماء والصفات باسم مختص، فصاروا يقولون: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية، وهذه التقاسيم من باب الاختلاف اللفظي الذي ليس تحته اختلاف تضاد.
1 / 9
تفسير: (واحد لا شريك له) عند السلف وعند المتكلمين
وقوله: (إن الله واحد لا شريك له)، أي: إن الله ﷾ واحد لا شريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته ولا في أسمائه وصفاته ..
هذا هو تفسير هذه الجملة على معتقد أهل السنة، وهذه الجملة شائعة في كلام المتكلمين، ولكنهم يقولون: إن الله وحده لا شريك له في ذاته، ولا في أفعاله، ولا في صفاته، وذلك حسب تفسيرهم للصفات والأفعال.
ويكون الغلط على هذا التقرير من جهتين:
الجهة الأولى: أنهم لم يذكروا توحيد الألوهية، بل قالوا: واحد في ذاته، وواحد في صفاته، وواحد في أفعاله، وهذه كلها تدخل تحت توحيد الربوبية والأسماء والصفات.
الجهة الثانية: أنهم حين يقولون: واحد في أفعاله، وواحد في صفاته، يقصدون مذهبهم المقرر في الصفات والأفعال المخالف للسلف.
1 / 10
التفصيل في الإثبات والإجمال في النفي
وقوله: (ولا شيء مثله).
هذا معتبر بقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١]، وهذا من النفي المجمل في القرآن، والله ﷾ لما ذكر ما يتعلق بأسمائه وصفاته ذكرها مفصلةً مثبتة، وذكر النفي مجملًا إلا في مواضع، كقوله تعالى: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾ [البقرة:٢٥٥]، وكقوله: ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف:٤٩].
ومن قواعد أهل السنة والجماعة في الصفات: أنهم يقولون: إن الله موصوف بالإثبات والنفي؛ والإثبات يقع مفصلًا ويقع مجملًا، ولكن الأصل فيه في القرآن هو التفصيل.
والنفي يقع مفصلًا ومجملًا، ولكن الأصل فيه الإجمال.
أما الإثبات المفصل: فهو ما ذكر في القرآن من ذكر أسماء الله ﷾؛ كقوله تعالى: ﴿هُوَ الله الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ﴾ [الحشر:٢٣] ..
الآيات، وكذلك ما ذكر من الصفات، كقوله تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة:٥٤]، ﴿رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [المائدة:١١٩] ..
إلى غير ذلك.
ويقع الإثبات مجملًا، وهو في الأسماء في مثل قوله تعالى: ﴿وَلله الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف:١٨٠]، وفي الصفات في مثل قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ [النحل:٦٠]، وعند هذه الآية قرر أهل السنة والجماعة -ولا سيما من تأخر كـ شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ أن كل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وهو الكمال المطلق؛ فإن الخالق أولى به.
وإنما تكلم المتأخرون بهذا التفصيل -كـ شيخ الإسلام - مع أنك إذا تتبعت هذه الأحرف قد لا تجدها في كلام السلف، لأن مصطلح القياس من حيث اللغة العربية يقتضي نوعًا من التشابه أو التماثل، وإلحاق شيء بشيء، فلم يكن معتبرًا في مسائل الصفات، ولكن لما تكلم أهل الاصطلاح بمصطلح القياس على معنى قياس الشمول، وقياس التمثيل، وقياس الأولى، إلى غير ذلك؛ صار كثير من أهل الكلام يعتبرون مذهبهم بنوع هو عند التحقيق من قياس الشمول أو قياس التمثيل، مع أنهم لا يسلمون بذلك، لكن هذا هو حقيقة المذهب، فلما وردت مسائل في القياس، وهل يستعمل القياس في حق الله وصفاته؛ قال من قال من المتأخرين من أهل السنة والجماعة: إنه يستعمل في حقه ﷾ قياس الأولى، وهو أن كل كمال مطلق لا نقص فيه بوجه من الوجوه، فإن الخالق أولى به.
ومأخذهم في هذا القياس هو قوله تعالى: ﴿ولله الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ [النحل:٦٠]، مع أن تسميته (مثلًا) أصح، وينبغي ألاَّ يسمى قياسًا إلا إذا قُصد بذلك البيان للمخاطب، أو إذا قيل: أيصح استعمال قياس الأولى في حق الله سبحانه؟ فيقال: نعم، ولكن يسمى (مثلًا أعلى) ولا يسمى قياسًا اقتداءً بحرف القرآن؛ ولأن القياس لفظ حصل فيه اشتراك وإجمال، وجميع صور القياس لا تليق بالله ﷾، وإنما يستخدم في حقه قياس الأولى.
ولهذا قال ابن تيمية ﵀ في الرسالة التدمرية: (ويتحقق هذا بأصلين شريفين ومثلين مضروبين)، ثم ذكر الروح ونعيم الجنة، فالمثلان المضروبان هنا هما من باب قياس الأولى، لكن سماهما (مثلًا) اقتداءً بحرف القرآن.
وأما النفي المجمل في القرآن فهو المذكور في مثل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١]، وأما النفي المفصل فهو المذكور في مثل قوله تعالى: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾ [البقرة:٢٥٥]، ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف:٤٩] ..
إلى غير ذلك.
والنفي المجمل هو الأصل، وأما النفي المفصل فهو فرع عن الإثبات، بمعنى: أنه ليس في القرآن نفي مفصل يراد به النفي المحض، أي: النفي الذي لا يتضمن أمرًا ثبوتيًا، ومن هنا قيل: إن النفي المفصل في القرآن فرع عن الإثبات، فمثلًا: قوله تعالى: ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف:٤٩] أي: لكمال عدله، فتضمن النفي إثبات العدل، وهكذات ..
وعليه: فكل نفي مفصل في القرآن فلابد من أن يتضمن أمرًا ثبوتيًا.
1 / 11
السبب في عدم تفصيل النفي في القرآن
فإن قيل: فلِمَ لَمْ يفصل النفي في القرآن؟ أي: لِم لم تنف صفات النقص بالتفصيل كالجهل والعجز وغير ذلك؟
فيقال: لأن الله ﷾ ذكر في كتابه الإثبات مفصلًا، ومعلوم أن المتقابلين تقابل التضاد أو التناقض يمتنع عند ثبوت أحدهما ثبوت الآخر، بمعنى: أن الله لما وصف نفسه بأنه سميع وبصير، وأنه موصوف بالكلام والقدرة: إلى غير ذلك؛ عُلم بضرورة العقل أنه منزه عن ضد ذلك؛ لأن الجمع بين الضدين ممتنع.
وعليه: فإن كل نقص يُعلم أنه منفي بضرورة العقل وضرورة الشرع.
أما ضرورة العقل: فلأن الله ﷾ مستحق للكمال منزه عن النقص، وهذا معروف بدلائل عقلية.
وأما ضرورة الشرع: فلأن الله ذكر في كتابه الإثبات مفصلًا، فكل ما ضاد هذا الإثبات يُعلم بضرورة الشرع أنه منفي.
1 / 12
طريقة المتكلمين في النفي والإثبات
وطريقة المتكلمين هي التفصيل في النفي والإجمال في الإثبات، وهي طريقة مخالفة للقرآن وللعقل؛ أما مخالفتها للعقل: فلأن النفي الذي يستعملونه هو النفي المحض، الذي لا يدل على الكمال، ولا يتضمن أمرًا ثبوتيًا، فهو نوع من التعطيل؛ ولهذا فإن من فقه السلف ﵏ أنهم سموا أصحاب هذا المذهب بالمعطلة؛ لأن من استعمل النفي المحض فإنه ينتهي إلى التعطيل؛ لأن الأشياء المعدومة والممتنعة تشترك في هذا النفي، ومن أخص القواعد الشرعية والعقلية: أن كل موجود لابد أن يكون له صفات تليق به، والله ﷾ هو الخالق البارئ، الذي خلق الخلق وأبدع الكائنات، فلابد أن يكون له من الصفات ما يحصل بها هذا الكمال.
1 / 13
نفي التمثيل عن الله تعالى من جميع الوجوه
وقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١] أي: ليس كمثله شيء قائم في الوجود، وليس كمثله شيء متصور الوجود، فإن الله سبحانه لا يحاط به علمًا؛ وعليه: فإن كل مُتَخيَل يتخيله الذهن أو العقل، وكل موجود علم وجوده أو لم يعلم وجوده، أي: اطلع المكلفون على ماهية وجوده أو لم يطلعوا؛ فإن الله ﷾ منزه عن مماثلته.
ولذلك فإن عقيدة أهل السنة والجماعة، وهو معتقد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أن الله ﷾ يُعلم بما أخبر في الكتب المنزلة على أنبيائه ورسله، ويُعلم بما فطر الخلق عليه من صفاته وأفعاله، ولكن لا يحاط به علمًا، وهذا هو المذكور في قوله تعالى: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ﴾ [البقرة:٢٥٥]، فإذا كان هذا في صفة من صفاته ففيما يتعلق بتمام ذاته من باب أولى.
1 / 14
شرح العقيدة الطحاوية [٢]
الله ﷾ هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، الذي لا يعجزه شيء، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
2 / 1
عموم قدرة الله تعالى
قال المصنف ﵀: [ولا شيء يعجزه؛ ولا إله معه].
قوله ﵀: (ولا شيء يعجزه).
هذه الجملة من الجمل المجمع عليها بين المسلمين، وذلك أن الله ﷾ لا شيء يعجزه.
ومن الملاحظ أن الجمل التي يذكرها الطحاوي ﵀ تارةً تكون جملًا يحصل بها تخصيص لمعتقد أهل السنة والجماعة عن معتقد مخالفيهم من المتكلمين أو غيرهم من الطوائف، وتارةً يذكر جملًا لا يحصل بها التخصيص؛ حيث تكون الجملة من معاقد الاتفاق بين سائر طوائف المسلمين، فقوله: (ولا شيء يعجزه) هذه جملة مجمع عليها، فليس هناك طائفة من الطوائف تخالف هذه الجملة.
2 / 2
معنى شهادة أن لا إله إلا الله
وقوله: (ولا إله غيره).
أي: لا معبود غيره، وتفسير توحيد الألوهية هو: أنه لا معبود بحق إلا الله ﷾، وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
2 / 3
حكم إطلاق لفظ (القديم) على الله تعالى
قال المصنف ﵀: [قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء].
لفظ: (القديم) لم يرد في الكتاب ولا في السنة، وهو من الألفاظ التي استعملها المتكلمون، وكان ينبغي للمصنف ﵀ أن لا يعبر بها، ولا سيما أن اللفظ القرآني المناسب لهذا المقام متحقق، فإن الله ﷾ قال: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد:٣]، وقال النبي ﷺ كما في الصحيح في دعائه: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)، وقوله: (وأنت الباطن فليس دونك شيء) معناه: لا يخفى عليه شيء ﷾.
فكان ينبغي أن يقول: (الأول بلا ابتداء)، أو: (الأول الذي ليس قبله شيء)، كما قال ﵊، وذلك لأن لفظ (القديم) لم يرد، وهو لفظ مجمل، والله ﷾ يُوصف بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله ﷺ من الأحرف القرآنية، أو الأحرف والكلمات النبوية، فلابد من الاقتداء بالكلمات القرآنية والكلمات النبوية.
وأما الأحرف الحادثة التي لم ترد في الكتاب ولا في السنة، والمجملة التي تحتمل حقًا وباطلًا؛ فإن مذهب السلف فيها التوقف في لفظها والتفصيل في معناها.
وعليه: فكل لفظ مجمل حادث فإنه لا يُطلق إثباتًا ولا نفيًا؛ بل يُستفصل عن معناه، فإن أريد به ما هو حق قُبل، وإن أُريد به ما هو باطل رُدّ، وأما اللفظ فيتوقف فيه؛ فإن كان المعنى حقًا عبر بالألفاظ والكلمات الشرعية.
هذه هي القاعدة في الألفاظ المجملة الحادثة.
والحدوث -كما ذكرنا- هو اللفظ الذي لم يذكر في الكتاب والسنة.
والإجمال: هو أن يكون اللفظ محتملًا لأكثر من معنى بينها تضاد واختلاف.
وينبه هنا إلى مسألة مهمة: وهي أن الإجمال تارةً يكون بأصل الوضع -أي: بأصل اللغة، فهو في لسان العرب لفظ مجمل- وتارة يكون موجبه الاستعمال وليس اللغة، فإذا كان اللفظ حادثًا ومجملًا من جهة لسان العرب، فإنه لا يطلق إثباتاص ولا نفيًا في حق الله تعالى، وكذلك إذا كان لفظًا حادثًا ومجملاص من جهة الاستعمال، وإن كان من حيث اللغة ليس مجملًا.
مثال ذلك: لفظ (الظاهر) أي: ظاهر الكلام، فهذا اللفظ من حيث اللغة العربية ليس مجملًا، لكن لما استعملته الطوائف صار مجملًا، حيث صارت طائفة منهم يفسرون الظاهر بالتشبيه، وطائفة أخرى يفسرون الظاهر بالتأويل ..
وغير ذلك، ولهذا لما تكلم المتأخرون: هل ظاهر نصوص الصفات مراد أو ليس مرادًا؟ كان جواب أهل السنة والجماعة كـ شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: أن لفظ الظاهر لفظ مجمل، لا من جهة اللغة، وإنما من جهة الاستعمال والقاعدة المقررة: أن كل لفظ مجمل حادث فإنه لا يطلق إثباتًا ولا نفيًا؛ بل يستفصل في معناه، فإن أريد به ما هو حق قبل، وإن أريد به ما هو باطل رُد، والمعنى الحق يعبر عنه بالألفاظ الشرعية.
فإذا عُبر عن عقيدة أهل السنة والجماعة بيانًا لها، فلا يصح في هذا المقام استعمال الألفاظ المجملة، إنما تستعمل في مقام مخاطبة أهل الاصطلاح الذين لم يعرفوا إلا هذا الاصطلاح، قال شيخ الإسلام ﵀ في درء التعارض: (والأصل في هذا المقام الاعتبار بالأحرف والكلمات المذكورة في الكتاب والسنة) ثم قال: (وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم فإن هذا مما تسوغه الشريعة إذا قام مقتضيه).
وهذا إذا لم يمكن أن يخاطبوا إلا بهذا الاصطلاح؛ كالطوائف التي لم تعرف الألفاظ القرآنية والنبوية على التحقيق، وإنما استعملت ألفاظًا كلامية.
2 / 4
آخرية الله ﷿
وقوله: (دائم بلا انتهاء).
هذا التعبير أجود من التعبير السابق، مع أنه لو عبر بأنه (الآخر الذي ليس بعده شيء) لكان أجود وأصوب؛ لأن هذا هو لفظ القرآن.
والفرق بين قوله: (دائم بلا انتهاء) وقوله: (قديم بلا ابتداء) مع أن كليهما ليس موافقًا للحرف القرآني؛ أن لفظ (القديم) فيه إجمال من جهة الاصطلاح، ومن جهة اللغة، فإن القديم في اللغة لفظ إضافي، أي: المتقدم على غيره، وقد يتقدمه غيره.
2 / 5
تنزيه الله تعالى عن الفناء والعدم
قال المصنف ﵀: [لا يفنى ولا يبيد، ولا يكون إلا ما يريد].
قوله: (لا يفنى ولا يبيد).
هذه الألفاظ ليست مذكورةً في الكتاب ولا في السنة، ومراد المصنف بها التنزيه، أي: أن الله ﷾ منزه عن الفناء والعدم، كما قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن:٢٦ - ٢٧]، وكأن هذا هو معتبر الإمام الطحاوي في تعبيره عندما قال: (لا يفنى)، ولكنه ذكره على جهة الفعل.
2 / 6