شرح صحيح البخاري للحويني
شرح صحيح البخاري للحويني
Géneros
كيفية الحكم على الإنسان بالظاهر وأهمية القرائن في ذلك
أنا قلت في خطبة الجمعة كلامًا مجملًا، وهذه المناسبة لتفصيله، مسألة رعاية قرائن الأحوال حتى للحكم، قلت: إن الذين يتكلمون في السنة والصحابة غير معصومين، وفي قلوبهم غش، فمعروف أن أعمال القلوب لا يطلع عليها إلا الله، نحن كبشر لا يجوز لنا أن نقول: فلان في قلبه كذا، أو مخلص أو غير مخلص، أو غاش للمسلمين، أو في قلبه مرض، هذا لا يجوز، لكن يجوز لنا أن نحكم بهذا إذا رأينا من القرائن الظاهرة ما تدل على ما في القلب.
حديث مالك بن الدخشن، أو الدخشن أو الدخشن كلها صحيحة، عندما قال عتبان بن مالك للنبي ﷺ: (إنه قد ضعف بصري فتعال صل في بيتي حتى أتخذه مسجدًا، فقال: سأفعل إن شاء الله، فجاء النبي ﷺ وأبو بكر ﵁ إلى بيت عتبان بن مالك، فدخل فلم يجلس، فقال: أين تحب أن أصلي من بيتك؟ قال: في هذا الموضع، فوقف النبي ﷺ يصلي، فالصحابة يكلموا بعضهم فقال قائل: أين مالك بن الدخشن؟ قال آخر مجيبًا: ذاك منافق، ودَعَوا عليه، وقالوا: لو يدعو عليه رسول الله ﷺ فيهلك، ونخلَص منه، ذاك منافق لا نرى وده إلا للمنافقين، ولا نصحه ولا وجهه إلا للمنافقين، فلما قضى النبي ﷺ صلاته فقال لهم: لا تقل له ذلك: ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله؟ -انتبه لهذا الكلام- ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، إنما نرى وجهه ونصيحته للمنافقين)، من الذي قال: (يبتغي بها وجه الله)؟ هل لامهم وأنكر عليهم وقال لهم: لماذا قلتم إنه منافق؟ لا.
عذَرهم ولم يعنِّفهم، فدل ذلك على صحة نظرهم، وأن الرجل إذا كان وده للمنافقين، ويمشي دائمًا مع المنافقين، وكذلك لو أن شخصًا يبيع الخمر في محل، وتجد شخصًا دائمًا معه في المحل، ويقول له: إن المحل لا بد أن تعيد ترتيبه وتصليحه فأنا سأحضر لك أفضل أصحاب المِهَن، وسأحضر لك البضاعة بأرخص الأسعار، ويجلس يضحك معه، وطوال اليوم في المحل، أهذا الرجل جيد؟ ولا أحد منا سيقول: إن هذا الرجل مخلص أبدًا.
إذًا النبي ﷺ وحده؛ لأنه رسول الله ويعلم بالوحي، ولذلك قال: (إنه يقول لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله)، ولم يعنّف الصحابة؛ لأنهم علقوا الحكم على ما ظهر من حال مالك بن الدخشن، إن وده للمنافقين، ووجهه ونصيحته للمنافقين، ونحن لا نحكم إلا بالظاهر، فالذي ظهر لنا أنه مع المنافقين، لا يمكن أن يكون هناك شخص في قلبه إخلاص لله ورسوله، وهو يلقي بالود إلى أهل النفاق أبدًا، إلا أن يكون جاهلًا إن هذا منافق.
أما أن يعلم أنه منافق ويذهب يلقي له بالمودة والمساعدة والكلام ويصاحبه ليل نهار، فهذا لا يكون مخلصًا، ولا يكون محبًا للمؤمنين.
إذًا الذي حكم على ما في قلب مالك بن الدخشن هو رسول الله ﷺ، لكنه ما أنكر على الصحابة، لماذا؟ لأنهم علقوا الحكم على ما ظهر من الأمارة والقرينة.
إذًا رعاية القرائن والأحوال من المسائل المهمة، ويجوز لنا أن نعلق الحكم على ما يظهر من القرينة، ومثل حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم في صحيحه، وأن أبا هريرة ﵁ قال: (كنا قعودًا حول رسول الله ﷺ معنا أبو بكر وعمر في نفر، فقام رسول الله ﷺ من بين أظهرنا، فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع دوننا، وفزعنا فقمنا، فكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله ﷺ حتى أتيت حائطًا للأنصار لبني النجار، فدرت به أجد له بابًا فلم أجد، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة -والربيع الجدول- فاحتفزت كما يحتفز الثعلب فدخلت على رسول الله ﷺ، فقال: أبو هريرة! فقلت: نعم يا رسول الله! قال: ما شأنك؟ قلت: كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تقطع دوننا ففزعنا، فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي، فقال: يا أبا هريرة! وأعطاني نعليه، قال: اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة، فكان أول من لقيت عمر فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ فقلت: هاتان نعلا رسول الله ﷺ بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه بشرته بالجنة، فضرب عمر بيده بين ثديي فخررت لأستي، فقال: ارجع يا أبا هريرة، فرجعت إلى رسول الله ﷺ فأجهشت بكاءً، وركبني عمر فإذا هو على أثرى، فقال لي رسول الله عليه وسلم: ما لك يا أبا هريرة؟ قلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به، فضرب بين ثديي ضربة خررت لأستي، قال: ارجع، فقال له رسول الله ﷺ: يا عمر! ما حملك على ما فعلت؟ قال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه بشره بالجنة؟ قال: نعم، قال: فلا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون، قال رسول الله ﷺ: فخلهم) .
أبو عوانة صاحب: المستدرك على صحيح مسلم، يرى أن هذه خاصة بـ عمر بن الخطاب، لأن أبا هريرة لم يلق إلا عمر، إذًا كأن هذه بشارة أن عمر قلبه مستيقن بالإيمان، فهذه قرينة، إذًا القرينة أنه لم يلق إلا عمر فعلق الحكم عليه.
وكذلك ما رواه أبو داود (أن معاوية بن أبي سفيان ﵁ خرج، فكان هناك جماعة جلوس على الباب فقاموا، فقال لهم: اجلسوا فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: من سره أن يتمثل الرجال له قيامًا فليتبوأ مقعده من النار)، فكلمة: سرّه، أليس السرور أمر قلبي؟ فكيف نحكم إذًا على سرّه أو ضرّه؟ ننظر لقرائن الأحوال، مثل أن يدخل الفصل أستاذ، فإذا بالطلاب قيام، وإذا بقي طالب لم يقم، وقال له: تعال يا قليل الأدب! وهات ولي أمرك، وأعطاه لفت نظر، وما إلى ذلك، أهذا غضِبَ أم لا؟ أهذا يسره أن يتمثل الرجال له قيامًا أم لا؟ فهو لما غضِب أن طالبًا لم يقم له ساغ لنا أن نعلق الحكم بهذه القرينة أن قلبه يُسر بذلك، لا يعني أننا مطلعون على أعمال القلوب، لا، لا نحكم على ما في القلب، ولكن نلاحظ قرائن الأحوال ويسوغ لنا أن نعلق الحكم بالقرينة.
لا يأتي شخص ويقول: إن أبا هريرة كان يكذب على رسول الله ﷺ وإذا أطعمته -كما يقول الشيعة- يكذب لك، والمسألة هذه أظهرها محمود أبو رية، والطيب صالح أبو بكر، وأحمد صبحي منصور، وهؤلاء هم الطابور الخامس، هذا الذي ابتلي المسلمون به، يقول لك: إن أبا هريرة هذا كان رجلًا مزاحًا، وغير ذلك من الافتراءات، هل يقول هذا رجل في قلبه حب للصحابة؟! أنا أذكر لك كلام الإمام مالك ﵀ لما بلغه أن جماعة يطعنون في الصحابة قال: هؤلاء قصدوا أن يطعنوا في رسول الله ﷺ، لكنهم لم يجرءوا على ذلك، فطعنوا في أصحابه، حتى يقول الناس: هو رجل سوء، لأنه لو كان رجلًا خيرًا لقيّض الله له رجال خير.
إذًا كأن الذي يتكلم في الصحابة أراد رسول الله لكن لا يستطيع أن يقول الذي في قلبه، الذي يتضور غيظًا على الصحابة كالرجل الذي كتب: الصحابة في مجتمع يثرب، ويتكلم عن الصحابة والجنس وغير ذلك من الكلام التافه، وأن حياة الصحابة كانت كلها نساء!! كل أحاديثهم: هل تزوجت فلانة؟! ما رأيت فلانة أو عِلاّنة؟! وأن حياتهم كلها كانت جنابة! حتى إن الرسول ﷺ اضطر -لاحظ الكلام- أن يسمح لهم أن يمروا في المسجد جنبًا، لماذا؟ لأنهم جُنب باستمرار، فتخيل هذا الشخص المأفون عندما يقول هذا الكلام على الجيل الذي مُكِّن له بإذن الله، وصنع دولة في عشر سنوات فقط، عشر سنوات فقط!! لا نعلمها لأي جيل من لدن آدم ﵇ حتى الآن، هل علمتم جيلًا في عشر سنوات كَوَّن دولة، وصاروا يرعبون فارس والروم؟! هذا هو جيل الصحابة، فتخيل عندما يأتي شخص ويتكلم بهذا الأسلوب عن الصحابة، معنى ذلك أن هذا الرجل في قلبه غِلٌ، كيف نعرف أن في قلبه غلًا؟ هل فتحنا قلبه وعرفناه؟ لا، نظرنا إلى كلامه: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد:٣٠] يتغامزون بالمؤمنين ويستهزئون بهم، فهذه قرينة يسوغ لنا أن نعلق الحكم عليها، وأن نحكم على ما في صدر هؤلاء المستهزئين.
فلما جيء لرسول الله ﷺ بالجمّار، ف ابن عمر فهمها وظن أنها النخلة، وبهذا تتم هذه الفائدة، وهي أنه ينبغي على الطالب أن يراعي القرائن، يعني مثلًا: إذا دخل فوجد وجه شيخه متهيِّجًا على غير العادة، فلا يتصرف وكأن شيخه مبتهج ومسرور، ويظل يسأله فيُضجِّره، لا.
لم تجر عادته أن يتغير وجهه، ولا أن يستقبلك إلا بالبشر فتغيرت عادته يومًا ما، فينبغي أن يلاحظوا مثل هذه القرائن حتى لا يقعون في هذا.
لاحظ حديث بريدة بن الحصيب في صحيح مسلم: (أن النبي ﷺ صلى يوم الفتح الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر بن الخطاب: يا رسول الله! فعلت شيئًا ما كنت تفعله قبل ذلك، فقال ﷺ: عمدًا فعلته يا عمر) فلما خالف النبي ﷺ جاري عادته، لفت ذلك نظر عمر بن الخطاب، فسأله، فلربما كان هن
8 / 14