شرح «نيل المنى» في نظم «الموافقات للشاطبي»
شرح «نيل المنى» في نظم «الموافقات للشاطبي»
Editorial
دار الكتب العلمية
Número de edición
الأولى
Año de publicación
١٤٣٦ هـ - ٢٠١٥ م
Ubicación del editor
بيروت - لبنان
Géneros
شرح نيل المنى في نظم الموافقات للشاطبي
للعلامة القاضي أبي بكر محمد ابن عاصم الغرناطي (٧٦٠ هـ - ٨٢٩ هـ)
تأليف
أبي الطيب مولود السريري
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
خطبة الشارح
الحمد لله رافع الأقدار بالأقدار، ومنيل المرجو من الحاجات والأوطار، والموفق لموافق الخير من الأبرار، والمضل لمن ضل من ذوي الأوزار والأشرار، منزل الشرائع ذات الحكم والأسرار، فقرت بها وحقت مصالح الخلق على مدى الأزمان، والأعصار، باعث الرسل مصادر الأنوار، وأئمة الهدى القادة الأخيار، الذين ختموا بمن نظمت رسالته الأوطان والأقطار، في سلك الهداية وإزالة الغشاوة عن البصائر والأبصار، محمد بن عبد الله ﷺ ما قرت عين المتهجد بنفحات الأسحار، وتعطرت مجالس الفضلاء بطيب المذاكرة والأذكار، وعلى آله من أذهب عنهم الرجس فكانوا من الطيبين والأطهار، وعلى آله المجاهدين من المهاجرين والأنصار، ومن لحق بجمعهم فنشط من عقال جحد الحق والإنكار، وانضم إلى أمة هذا النبي المختار.
أما بعد:
فإن العلوم إذا قرنت بخشية مالك الملك رب الأرباب أردية أولى الألباب، وحلية أهل الفضل والمراتب العلى بلا ارتياب، إذ يجزى عنها بدرك حسن المئاب، والإنجاد من العذاب والتباب، ورفع القدر يوم الحساب، ودرك الجزاء والفضل والثواب، وغير ذلك من المنح والعطايا التي نص عليها في السنة والكتاب.
وبذلك انكب أولو الأيدي والأبصار، وذوو النهى والأنظار على طلبها بالدرس والمدارسة آناء الليل وأطراف النهار، وعكفوا على قنص فوائدها
1 / 3
ومسائلها من الدواوين والأسفار، آخذين لها مهذبة مصححة من أفواه الراسخين في العلم مستنيرين بالقواعد العلمية في مجاري النظر والاعتبار، معملين لها بمهارات واقتدار، حتى قامت بهم الملكات العلمية قيام النار بالمرخ والعفار والماء بالأنوار والأزهار، فسالت أودية أذهانهم بالعلوم الغزيرة وأثمار الأنظار، ودقائق المعاني بلا حد ولا انحصار، ثم أودعت في بطون الصحائف والزبر مرشدة إلى الهدى والإبصار، تمنح من أتاها بلا من ولا إقتار، ورغبة مني - وأنا العبد الفقير، الذي لا يعد في ميدان العلوم من العير ولا من النفير - في خدمة ما تيسرت خدمته من نتاج وغلات هؤلاء العلماء، وفي الانتساب إلى السير على سبيلهم بوجه ما، سعيت إلى أن أضع شرحا على منظومة العلامة الشيخ القاضي محمد بن محمد أبي بكر القيسي الغرناطي، التي سماها "نيل المنى في نظم الموافقات" للإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى - وهو هذا الشرح الذي أمامك أيها القارئ الكريم، دعاني إليه ما ذكرت والطمع في نيل أجر ناشر العلم، ثم ما بدا إلي من أن منفعة ما تحصل لطلبة العلم الشرعي بذلك، ومن أن هذا الأمر قد يكون فيه حفظ ونشر لها للاستفادة منها على وجه أتم، وأحسن.
وأما النهج المسلوك في هذا الشرح فإنه يرد ذكره - بإيجاز - في المقدمة الموالية -: مقدمة الشرح.
أسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى أن يجعل هذا العمل عملا متقبلا عنده بقبول حسن، وسعيا مدخرا تقر به العين يوم الدين.
1 / 4
المقدمة
من المقطوع به أنّ منتهى الطلب والغاية المعرفية من دراسة العلوم الشرعية وما به يقتدح زند العقل وتتسع به مدارك الأنظار وتظهر به جميع جهات المنظور فيه على تمام، وما به تتصور ماهيته كما هي في واقع الأمر، وتنكشف به الأغراض من الكلام وتظهر به، هو تحصيل النظر الفقهي المستتم في المنظور فيه، حكما كان، أو دليلا، أو محكوما عليه، أو محكوما فيه، أو علة حكم، أو حكمة، أو مقصدا شرعيا، وإدراك الحكم الصحيح على ثلَج صدْرٍ وطمأنينة نفس. وأنت خبير بأن ما يصيب النظر من الآفات ويجره إلى التعسفات كثير، قد انتشر منه تقصير الأنظار على جهات في موطن النظر، والانكفاف عن اعتبار ما سواها وإن كانت جديرة بالاعتبار، وسحب مقتضى السبر عليها بل وإن كانت أقوى وأرجح ما اعتبر واعتد به، وذلك قد يكون عن جهل أو قلة اطلاع، وقصور في الإدراك، وقد يكون عن هوى ورعونات في الأنفس، وغلبة الشهوات وهذا أدهى وأمرّ.
وكل ذلك لا يذهب غِشاوتَه ثم يمتد إلى إزالة الأود في طريقة النظر وبناء الأحكام إلا تهذيب النفوس وترويضها بإرغامها على العمل بمقتضى القواعد العلمية والقيم السامية التي بها جَوْحُ الصوارف عن استداد عمل الأذهان واستقامته، وتزكية البواطن من أدرانها.
وقيام هذا الهذب بالنفوس يبديه حصول ملكة التصرف في هذه العلوم في النفس وصيرورتها قائد النظر وحركة الذهن، وما به الترقي إلى درك التصور الصحيح، والحكم الصائب. وأي امرئ يكون ذهنه خِلْوًا من هذا فإنه لا يثمر إلا حشفا ودقلا من الأفكار والآراء لا مبالاة بها عند أهل التحقيق، والعقول الراجحة القوية الإدراك.
وإذا تقرر هذا لديك، أدركت أنه لا مناص في سبيل درك تلك الغاية من الارتواء من هذه العلوم وتلقيها باستيعاب وتمام تحصيل.
والطريق الأحب إلى ذلك هو ليُّ الركب والانكباب على دراسة ما انطوت
1 / 5
عليه بطون الأسفار من أثمار أنظار أولي النهى، ومن قواعد وضوابط وقيم يهتدى بها إلى استخراج مضامين مآخذ الأحكام، ومكنونات الأدلة، وتتقوم بها الأنظار وتستقيم بها على المنهج المسترشد فيه بمعالم وأعلام ثابتة بالبراهين الشرعية والعقلية والعادية التي تزول الراسيات ولا تزول هي، كما تحرر بها الأذهان من ضيق الإدراك وقصر النظر وغلبة المزاج وقهر العوائد الصارفة عن الاعتبار التام الواسع الشامل لكل ما تقتضي العقول الراجحة وواقع الحال جريان حكم الاحتمال المعتبر عليه.
ومن عيون هذه الأسفار "كتاب الموافقات " للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، وهو كتاب جليل القدر عالي المستوى، قد أثنى عليه جمع من أهل الفضل والعلم، وحلوه بما هو به جدير من أوصاف الشرافة وعظم القدر، وحسن النظم وجمال السبك، وكثرة غلل الأنظار، والجمع بين اعتبار اللفظ الشرعي والمقاصد الشرعية والأسرار، وغير ذلك مما قام به من أوصاف وأحوال، ذكرها من تقدموا، فلا حاجة إلى اجترار ذكرها في هذا المقال.
غير أنه يجب أن نسوق للإفادة ما به يتصور حال هذا الكتاب في الأذهان من ملامح ومميّزات قامت به في بنائه وفيما يصوغ عليه نفوس من ارتووا منه عقولهم من صورة في شأن فهم وضع الشريعة، وفي بناء أحكامها وما يتعلق بذلك. والقول الجملى في ذلك إن هذا الكتاب متضمنه: التنبيه على وجوب الاعتناء بأمور وقعت الغفلة عنها، والتغيير لمفاهيم يجب أن تتغير، والإضاءة لمسالك فقهية معتبرة ينبغي أن تسلك. والأخذ بأمور تربي على ضبط النظر والفهم، وأمور تحمي من سلطان رعونات النفوس وقهر أمزجتها.
هذه أهم ملامح هذا الكتاب بإيجاز وإجمال وَمن تشوّف إلى التفصيل فإن له ملامح تفصيلية متعدّدة:
أحدها: إبرازه لكون دليل العناية جاريا في الأحكام الشرعية وبنية الشريعة فهو قائم بها.
فالعناية الإلهية تخالل وضع الشريعة وتركيبها وما هي عليها من حال.
وَهذا مدرك بأدنى تأمل في كونها موضوعة على صورة روعيت فيها أحوال
1 / 6
الخلق كلها بحيث وضع لكل حال منها السبيل الموافق له إصلاحا، وتعبدا، كما اعتبر فيها وضع السبيل الذي بسلوكه يجمع بين الأخذ بالحظوظ النفسية المباحة، والإتيان بالواجبات الشرعية، بحيث يعطى لكل ذي حق حقه من غير إفراط ولا تفريط.
وهذا يوخذ منه أمران:
أ - أن دليل العناية كما هو قائم بالخلق، فإنه - كذلك - قائم بهذه الشريعة، فكلاهما قام به برهان عقلي يقضي بأن هذا كله تقدير العزيز العليم.
ب - أن هذه الشريعة مبنية على وفق طبيعة الخلق الظاهرة والباطنية، ولعل هذا من الأسرار الموجبات لخلود هذا الدين، وانتشاره، وجريان حلاوة شعائره وشرائعه في النفوس.
ثانيها: ضبط معاني ومفاهيم الألفاظ التي تتعلق بها أحكام شرعية وحد ماهياتها، ويسلك في ذلك مسلك الذكر لكل معنى يستعمل فيه اللفظ الذي قصد إلى ضبط مفهومه الشرعي، باسطا في ذلك الكلام على وفق ما يقتضيه المقام وعلى قدر ما يتضح به المراد، ثم بعد ذلك يذكر ما به الحكم الشرعي من المعاني قاصدا إلغاء اعتبارها في هذا الشأن - تعلق الحكم الشرعي - والى إبقاء المعنى الذي يتعلق به الحكم الشرعي مبينا ذلك بالحجة والبرهان، على طريقة السبر والتقسيم المعروفة.
وهذا ما جرى عليه - رحمه الله تعالى - في لفظ "المشقة" و"الصحة" و"البطلان" و"الرخصة" و"المصلحة" و"المفسدة" وما ماثل ذلك من الألفاظ من جهة تعلق الأحكام الشرعية بها.
وما أتى به - رحمه الله تعالى - في هذا الشأن يزول به الغبش على البصيرة فيه، وتنفصل به المعاني بعضها عن بعض، كما يظهر التباين والاختلاف بين أحكامها على ثلج صدر، وصفاء نظر، وبذلك يعلم موطن الحكم الشرعي في ذلك مما سواه بينا واضحا.
وأنت خبير بأن ما يوقع في الحيرة والخطأ هو الجهل بمفاهيم ومعاني الألفاظ الشرعية التي تدل على معان وصفية تتعلق بها الأحكام الشرعية.
1 / 7
فالمشقة - مثلا - تطلق على صفات متعددة متفاوتة متنوعة، والرخصة لا تتعلق إلا بتوع معين منها وهو الحرج المرفوع - فمن جهله فإما أن يقول بالرخصة في غير محلها الشرعي، وإما أن ينكر جريانها في موضع هي مشروعة فيه، وهذا الحال يسري على جميع ما تتعلق به الأحكام الشرعية من الألفاظ من هذا النوع، ومن أخطوها وأهمها "المصلحة" و"المفسدة"، فضبط معنى هذين اللفظين ينير الطريق في شأن بناء الأحكام على المقاصد، فكان الضبط لها من الأمور المنيرة لسبيل التفقه في هذا الدين العظيم.
ثالثها: توسيع البحث والنظر ومده إلى جميع جهات وأحوال الموضوع المبحوث والمنظور فيه على استقصاء وتمام تفصيل، وكل ذلك قد نظم في سلك منهجي يقتضيه واقع حال ذلك الموضوع. وقد اعتمد سبيل التوسيع هذا في كل موضوع درسه في هذا الكتاب، ويظهر ذلك باهرا لفرط تشعبه في مواضع معينة كالأحكام، والأسباب، والشروط، والألفاظ التي تتعلق بها أحكام شرعية ومعنى الاجتهاد الذي جعله أنواعا، فوسعه بذلك. والأحلى والأجمل من ذلك أنه - أي الشاطبي - رحمه الله تعالى - يذكر الثمرات الفقهية والشرعية التي تؤخذ من كل جهة درست من تلك الجهات، ثم أنه يمد نظره وبحثه إلى ما يكون من أثمار الأنظار في ذلك مستشكلا، ثم يذكر وجه الاستشكال في ذلك وموجبه، ثم الوجوه النظرية والأدلة التي يكون بها تخريج الحكم في ذلك على سبيل ووجه ينفصل به عن ذلك الإشكال.
وهذا كله من الثمرات المعرفية المجتناة من الاطلاع على ما سطره - رحمه الله تعالى - في هذا الموضوع.
رابعها: التنبيه والاستحثاث على وجوب اعتبار واستحضار أحوال القلوب ومقاصدها في مجاري بناء الأحكام الفقهية، وذلك لأن القلب تجري على أفعاله الأحكام الشرعية كما تجري على سائر الجوارح، ثم أنه بما قام به من حال وقت كسب العمل بالجوارح يعرف حكم ذلك العمل ومنزلته.
وقد بسط الشاطبي - رحمه الله تعالى - القول في هذا الشأن، فما فتئ ذاكرًا له في كل موضع يتأتى له فيه ذكره، كما بين على تفصيل.
1 / 8
إنّ موافقة قصد المكلف للقصد الشرعي من شرعية الحكم في العمل هو ما به يصح ذلك العمل شرعا، ويكون به التقرب لله رب العالمين، وإن مخالفة قصد المكلف للقصد الشرعي عينا في ذلك مثمر للفساد والإثم.
وإن ما يكون مخالفا على وجه ليس فيه المخالفة العينية هو محل خلاف ونظر فقهي، فالمدار في الحكم فيه على الترجيح، وبهذا تعرف أحوال القصد المصاحب للعمل وأحكامه، ولا يخرج قصد عن هذه الأقسام.
وهذا إدراكه يثمر في النفس أمورا منها:
أ - وجوب طلب العلم بالقصد الشرعي على المكلف في كل عمل عزم على إتيانه، حتى يعلم ما يأتي وما يذر من المقاصد التي تعرض في النفس وتقوم بها.
ب - وجوب إلزام النفس بالموافقة للشرع في ذلك وترويضها عليه.
ج - كسب التبصر بأحكام القصود، وأحوالها والعلم بما يكون الحكم فيه منها معلوما قطعا، وما يكون فيه منها محل اجتهاد ونظر.
د - استفراغ الجهد في ربط القصد الشرعي بقصد المكلف في العمل، والنظر، وجعل ذلك أمرا لا ينفك عن البال في بناء الأحكام والعمل.
والمتأمل لكلام الشاطبي في هذا الكتاب، يجد هذا الأمر من أهم ما يسعى إلى نقل العقول إلى اعتباره والاعتناء بأمره.
خامسها: ضبط سبيل النظر في النصوص الشرعية وأخذ الأحكام منها وذلك بالالتزام والتقيد بحدود اللسان العربي، والانكفاف عن تخطي ذلك.
وهذا أمر قد احتج عليه بما يراه من الأدلة والحجج مثبتا له، غير أن هذا مشعر بتأثر الشاطبي بالظاهرية في هذا الشأن إذ يلمح في سبيله في هذا الموضوع ضرب من الحَجْر على النظر واتصاف بالجمود.
لكن هذا الحكم الذي يسبق إلى الأذهان في أول النظر إلى هذا الموضوع يزيله ما جرى عليه من البحث عن أسرار الشريعة وعللها ثم ما جرى عليه من منهج في اختياره لهذا الرأي، فإنه ما أتاه إلا عن اطلاع عن الأدلة التي يعتمد
1 / 9
عليها في ذلك ونظر تام في قوتها الحجية، ثم لما بدا له أن نظره ما قضى إلا بذلك ذكره. وقد يكون غرضه من ذلك الذي يظهر أنه جمود وحجر على الأنظار هو صد أصحاب الأهواء والضلالة الداعين إلى تخطي ظواهر الألفاظ والأخذ بما يسمونه ببواطنها وأسرارها الخفية التي تدرك بالإشارات التي لا يفهمها إلا ذوو العلم "اللدني" والإلهام.
وهذا أمر محمود، فإن درء المفسدين عن حياض الإسلام وحرمه أمر واجب شرعا.
فالباطنية شرهم عظيم، ومكرهم خبيث وهم ما فتئوا في كل زمان ومكان يكيدون لهذا الدين.
وهذا الضبط يثمر في النفس لمن عنّ له أنه الصواب إدراك المنهج الموصل إلى أخذ الأحكام من أدلتها على الوجه الصحيح.
سادسها: كشف المعتبرات والمستندات الفقهية لآراء فقهية وتصرفات وأعمال عدت خارجة عن القواعد التي يقتضى حالها جريان حكمها عليها، وعن الأدلة الشرعية الشاملة أحكامها لها. وهذا متجل في مواطن:
أحدها: التوجيهات الفقهية التي يوردها بيانا وحججا على صحة تصرفات وأحوال من يسميهم بأرباب الأحوال - الصوفية -. وقد بني نظره في هذه الجزئية على أمر اختلاف أحوال النفوس، وخصائص البواطن التي يترتب عليها اختلاف القوة والضعف في إتيان الأعمال، وفي السبل المختار سلوكها في التعبد، فالمسوقون بالخوف أو المحبة أو ما يسهل عليهم مشقة العبادة من رجاء وطمع في نيل درجات التقرب لرب العالمين ومقامات الأبرار يسلكون السبيل الذي يوافق أحوالهم، فذهابهم إلى المشقة واختيار العزائم في مواطن الرخصة المباحة لا يضير أمره، بل هو فعل محمود لأنه لا تترتب عليه أي مفسدة شرعية.
وأما من ليس مثلهم في ذلك وإنما يأتي العبادة امتثالا وحظوظه النفسية غالبة عليه فإنه سلك السبيل الذي يجمع به بين تحصيل حظوظه المباحة، والالتزام بعبادة ربه.
والاعتناء بأمور البواطن واختلافها والأخذ بمقتضاها في بناء الأحكام
1 / 10
يستحث الشاطبي - رحمه الله تعالى - على عدم الغفلة عنه فهو موضوع بسط فيه الكلام إذ له به فريد عناية واهتمام للغفلة عن اعتباره والعناية بأمره - كما يرى -.
ثانيها: التوجيه والتخريج الفقهي الذي أورده في شأن ما ذهب إليه المالكية من صحة بيوع وأنكحة فاسدة، والذي بناه على اعتبار ورود وصف آخر على محل الحكم أوجب صحة تلك الأنكحة والبيوع وترتب آثارها.
وهكذا حال المغصوب فإنه قد يملك من جهة تعلق حق الغاصب به بتصرفات له فيه.
ثالثها: إظهاره لوجه صحة نكاح المحلل عند من يرى ذلك، والذي بني على أن السبب الشرعي لا يوثر فيما يترتب عليه القصد غير الشرعي وغير ذلك مما ذكره في هذا الشأن.
وغير ذلك من المسائل التي وجه آراء أهل العلم فيها وكان ذلك غامضا إلا على غائص في بحر النظر من أهل العلم مثله.
والاطلاع على هذه التخريجات والتوجيهات الفقهية يثمر في النفس ويوح في الأذهان أن تلك الآراء الفقهية التي قد ترى ساقطة الاعتبار لأنها لا مستند لها في واقع الأمر ما تخرج عليه من الاعتبارات والقواعد الفقهية.
وهذا يذهب الظن السيئ بالقائلين بهذه الآراء من أهل العلم.
ثم أنه يروض النفس على احترام الرأي الفقهي إذا كان من عالم، وإن كان يخفى علينا مستنده ودليله.
وكذلك يوسع الاطلاع على مدارك الأحكام والاعتبارات الفقهية الدقيقة.
سابعها: بيان أحوال المقاصد الشرعية ومنها: (أي تلك الأحوال) كونها منقسمة إلى أصلية وتبعية. وبذلك فإن القاصد لأحد القسمين يصح عمله إلا أن القصد إلى الموافقة الشرعية في الأصلية يكسب الثواب والأجر دون التبعية، فإن أقصى ما تثمره صحة الفعل ودرء البطلان. وقد كرر ﵀ هذا الأصل إشعارا منه بعظم فائدته، ومنفعة الاستضاءة به في بناء الأحكام الفقهية.
1 / 11
وذو التزود بهذه الفائدة - القاعدة - يسهل عليه التفرقة بين حكم المقصد التبعي، والأصلي فيما يعرض له من نوازل ومسائل.
ومنها: كونها تراعى في بناء الأحكام الفقهية وتستحضر للاستضاءة بمقتضاها فيه وعرض الحكم الثابت بالنص لمعرفة ذلك الحكم والمقصد الشرعي منه، ثم وضعه تحت كليه الجاري حكمه عليه، سواء كان ذلك الكلي ضروريا، أو غيره، فبذلك يتم بناء الحكم الفقهي.
ومن تمام الفائدة في هذا الشأن أن يعلم أن إدراك كون الجزئيات داخلة تحت الكليات الثلاث لا يكون على الدوام موضع القطع، بل قد يعرض في ذلك ما يقتضي الأخذ بالظن فيه، وقد يكون هذا هو الأصل فيما يجري فيه النظر والاجتهاد من ذلك، لأمور تعارضت فيه.
وهذا قد بينه مفصلا إمام الحرمين الجويني في "مراتب قياس المعنى" من باب ترجيح الأقيسة من كتابه "البرهان"، وفي هذا المعنى قال الإمام الرازي في المحصول "إن كل واحدة من هذه المراتب قد يقع فيه ما يظهر كونه من ذلك القسم، وقد يقع فيه ما لا يظهر كونه منه، بل يختلف ذلك بحسب اختلاف الظنون وقد استقصى إمام الحرمين ﵀ في أمثلة هذه الأقسام ونحن نكتفي بواحد منها قال ﵀: قد ذكرنا أن حفظ النفوس بشرع القصاص من باب المناسب الضروري. ومما نعلمُ قطعًا أنَّه من هذا الباب شرعُ القصاص في المثقّل، فإنّا كما نعلم أنّه لولا شرع القصاص في الجملة لوقع الهرج والمرج: فكذلك نعلم أنّه لو ترك في المثقّل لوقع الهرج، ولأدّى الأمر إلى أنّ كل من أراد قتل إنسان فإنه يعدل عن المحدّد إلى المثقّل: دفعا للقصاص عن نفسه، إذ ليس في المثقّل زيادة مؤنة ليست في المحدّد، بل كان المثقّل أسهل من المحدّد … وعند هذا قال ﵀: لا يجوز في كل شرع تُرَاعى فيه مصالح الخلق عدم وجوب القصاص بالمثقّل".
قال ﵀ فأما إيجاب قطع الأيدي باليد الواحدة فإنه يحتمل أن يكون من هذا الباب، لأنه لا يظهر كونه منه، أما وجه الاحتمال فلأنا لو لم نوجب قطع الأيدي باليد الواحدة: لتأذى الأمر إلى أن كل من أراد قطع يد إنسان استعان
1 / 12
بشريك ليدفع القصاص عنه: فتبطل الحكمة المرعية بشرع القصاص. وأما أنه لا يظهر كونه من هذا الباب فلأنه يحتاج فيه إلى الاستعانة بالغير، وقد لا يساعده الغير عليه فليس وجه الحاجة إلى شرع القصاص ها هنا مثل وجه الحاجة إلى شرعه في المنفرد (^١).
ومنها: كون الأدنى منها يخدم - أي يكمل - الأعلى، فالحاجيات
والتحسينيات تخدم الضروريات، والتحسينيات تخدم الحاجيات، وهذا يثمر في الأذهان أن المقصود في ذلك كله إنما هو حفظ الضروريات، فليتخذ ذلك أساسا في النظر الفقهي.
ومنها: أن الاختلال في الضروريات يوجب الاختلال في الحاجيات والتحسينيات، بخلاف الاختلال في هذه فإنه لا يخل بتلك - الضروريات -.
ومنها: أنها غير تابعة لأهواء النفوس، ولا هي معتبرة بها، وإنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، وهذا أصل مهم يجب أن لا يغفل عنه في مجاري الاعتماد على المصالح والمفاسد في بناء الأحكام الفقهية.
ومنها: بيان أن لهذه المقاصد علامات تدل عليها تؤخذ من أحوال الخطاب الشرعي - كالأمر والنهي - واعتبار العلل والتحديد في المقدار والزمان، والمكان، وغير ذلك مما ذكره في كتاب الأدلة وفي كتاب المقاصد وخاصة آخره، وأعاد ذكره في كتاب الأدلة، وزاد عليه. وهذا إذا حصل في الأذهان علمت به المقاصد وأدركت في مواطنها، وبأماراتها وعلاماتها الدالة عليها.
ومنها: أنها في شأن الحفظ لها مرتبة بالأولوية، وذلك بتقديم الأعلى منها على ما دونه، على ما تقدم ذكره ولا يخفى ما في هذا من فائدة الترجيح عند التعرض.
ومنها: أن المصالح يلغى اعتبارها إذا عارضتها المشقة غير المعتادة.
وهذا العلم به ينشئ في النفس معرفة الحدود التي تنتهي فيها رعاية المصلحة،
_________
(^١) المحصول في علم أصول الفقه/ ج ٢/ ص ٢٢١ - ٢٢٢.
1 / 13
وبذلك ينتقل إلى اعتبار المشقة، وبناء الحكم على مقتضاها.
ثامنها: بيان أحوال الأدلة الجملية التي تشترك فيها هي وجميع الأدلة والتفصيلية الخاصة ببسط، وبيان ما يبنى على كل حال منها من أحكام ومعارف.
وذلك يبصر بهذه الأحوال، ويودع في الأذهان ما يتعلق بها من أحكام، ويرشد إلى سبل النظر وإعمال الأذهان في ذلك.
تاسعها: التنبيه على تغير نظر المفتى في مواطن الأحكام بحسب أحوالها والأوصاف الطارئة عليها.
عاشرها: بيان أن المقاصد المتعلق بها الحكم الشرعي أقسام ثلاثة:
أحدها: المقاصد الأصلية.
ثانيها: المقاصد الشرعية التبعية.
ثالثها: المقاصد المناقضة للمقاصد الشرعية.
حادي عشرها: بيان أن مقاصد المكلف - أيضا - على أضرب ثلاثة:
أحدها: المقاصد الموافقة للمقاصد الشرعية الأصلية.
ثانيها: المقاصد الموافقة للمقاصد الشرعية التبعية.
ثالثها: المقاصد المناقضة لهذه المقاصد كلها.
ثاني عشرهما: مد النظر والتأمل إلى بنيته الشرعية التي استبان من حالها أنها متكاملة أحكامها بعضها مع بعض، والشروط فيها مع مشروطاتها، وغير ذلك مما يؤخذ أن الشريعة آية الرحمان في أحوالها، وتوازن شعائرها ومضمناتها، وفي بنائها على نسق منتظم في الإثمار، وموافقة أحوال النفوس، والواقع.
ثالث عشرها: بيان كيفية اقتناص القطعيات من الظنيات.
وغير ذلك مما هو من جنس هذه المسائل - كوجوب رعاية السياق -، وهو كثير.
1 / 14
غرض الشاطبي من هذه الدراسة المقاصدية:
من الثابت المحقق أن الشاطبي من هذا العمل كله هو إقامة التعبد لله - تعالى - في النفوس، وترسيخ ذلك في البواطن - القلوب - على الحال الذي يكون فيه حال هذه البواطن والظواهر للمسلم العامل متخذا في الصورة، ومصاغا على وفق المقاصد الشرعية.
وبذلك فإنه لا فرق بينه وبين غيره من علماء الأصول والعقائد وغيرهم في هذا الشأن، فكلهم ساعون إلى إقامة هذا الأمر في الخلق.
ومن ظن الشاطبي قد سعى في هذا العمل إلى وضع منهج آخر في بناء الأحكام الفقهية غير المنهج المتبع عند جماهير الفقهاء، وهو جعل المصالح معيارا في بناء الأحكام الفقهية على الوجه الذي يتخيله بعض أهل العصر فهو مخطئ، يحرف الكلم عن مواضعه لأن هذا الأمر لا يقصده الشاطبي في ذلك، ثم إنه أمر لا سبيل إليه في واقع حال هذه الشريعة التي مبتناها في الحقيقة على المسلك الذي عليه جماهير علماء هذه الأمة والذي أساسه الاحتكام إلى الدليل السمعي على كل حال.
وكذلك يعد مخطئا من يدعي بأنه ماض على طريق الشاطبي في هذا الشأن - الدراسة المقاصدية - ثم تراه لا يؤصل على طريقته ومنهجه القائم على إيراد الأدلة النقلية ثم العقلية - النظرية - والعادية وكل ما يتحقق به التأصيل والتثبيت لكل أمر يدعيه أو قول يراه، وفي العصر أناس كثيرون يدعون أنهم يدرسون الأمور الدينية والفقهية على السبيل المقاصدي الذي اختاره الشاطبي في هذا الكتاب، إلا أنهم لا يوافقونه إلا في شأن الاعتبار للمقاصد والعناية بمقتضاها، فلا يكاد أحدهم يسير على وفق منهجه في الاستدلال أو بناء الآراء والاستنتاجات الذهنية، أو يعرج على ذلك، وإنما ينفصل عنه، ثم يتخذ مسلكا في الاستدلال لا مبالاة به عند التحقق، ولا قيمة له عند أرباب النظر، لأنه خلو من الأدلة والبراهين المعتبرة في هذا الشأن.
ومن الظلم السطو على أعمال الناس، وتحريفها، وصرفها عن المقصود منها، وبترها بترك العمل بما بنيت عليه من مناهج وسبل وقواعد، مع ادعاء
1 / 15
المضي على مقتضاها.
مصادر ومآخذ مضامين الكتاب:
من الطافح المنتصب في مضامين كلام المصنف أنه قد اتخذ الاستقراء للنصوص الشرعية والتأمل فيها - أحوالها ومعانيها - وفيما يعرض له فيه النظر من أمور متصلة بذلك وسيلة إلى استخراج ما كمن في هذه النصوص من معان، وأخذ ثمراتها وجناها، والى بناء الأحكام النظرية، ونقضها، ووزن آراء أهل العلم، وتقويمها، وبذلك كانت مضامين كلامه ثمرات دراسة شرعية روافدها علوم القرآن ومعاني الحديث وأحوال الأحكام وبنية الشريعة.
فكان هذا الاستقراء والتأمل عمد عمله في التوسل إلى درك تلك المطالب وتحصيلها، فلذا كان ذيذانه سرح النظر مطلقا له العنان ماضيا في ذلك، في مواضع نظره، باحثا عن الحق والصواب في ذلك، وبذلك ينتهي به الأمر إلى إبراز ما يراه الرأي المنتقى، وربما أتى بفوائد علمية وضوابط منهجية لم يسبق إليها - على ما يبدو لي -.
نعم أنه يستقي من كتب من تقدمه من أهل العلم والنظر مختارا كتب من بعد زمانه عنه، معرضا عن كتب المتأخرين، وكان ذلك عن قصد منه، لأن من سماهم بالمتقدمين أعلم وأقعد بالعلم من المتأخرين، كما قال.
فكان آخذا من كتب هؤلاء من القواعد والضوابط العلمية ومعاني النصوص الشرعية وغير ذلك مما أسس عليه هذا الكتاب، وبناه عليه منسقة مضامينه، مرتبة مباحثه.
وتراكيب كلامه في الكتاب وما تضمنته من معارف ومعان تشهد وتدل على أنه استهدى بما سطره إمام الجويني - رحمه الله تعالى - في كتابه "البرهان" في شأن المقاصد الشرعية وأحوالها، وفي التأويل.
وكذلك استقى وأخذ مما أودعه الإمام الغزالي - رحمه الله تعالى - في كتابه "إحياء علوم الدين" من الحديث عن أحوال القلوب والأعمال، والخصال المنجية، والخصال المهلكة والمزج في الأحكام بين اعتبار الظاهر والباطن في الإنسان، وفي عمله.
1 / 16
وما يتصل بذلك ويتفرع عنه من أمور تربي على النظر السديد إلى الوجود وما فيه، وعلى الرشاد في السلوك.
كما أنه يخالل نظره ويمتزج به في مجاري النظر الفقهي العمل بالقواعد الفقهية والأصولية التي عليها المالكية، فكان يستشهد أحيانا بها وأحيانا أخرى يستدل لها، ويذكر مآخذها، كما فعل في شأن الاستحسان، وسد الذرائع، ومراعاة الخلاف، وغيرها، فهي لا تنفك حاضرة في مجاري نظره، قائمة بذهنه، كما يبدو من تصرفاته النظرية، وتضاعيف كلامه ومضامينه، وتقريراته للمسائل الفقهية. وهذا يكاد يدل على أنه مالكي المشرب، وإن كان من خاض في العلوم على هذا الحال الذي هو عليه لا يرضى إلا بالاجتهاد.
ويظهر من كلامه في بحث الدلالة أنه تأثر بالإمام ابن حزم مستفيدا منه في شأن مقتضى الدلالة التبعية بوجه ما.
كما يظهر أنه انتفع بتحقيقات فقهية وغيرها لبعض فقهاء المالكية كالمازري والقرافي.
ولا يخفى أنه مخالف للمعتزلة فيما هم فيه على خلاف مع غيرهم من أهل المذاهب الكلامية الأخرى، فكان مقررا بنفس أشعري أن الأعمال البشرية من خلق الله - تعالى - وإن السبب غير مؤثر بذاته لا في الإيجاد، ولا في الإعدام، فالمسببات لا تدخل تحت طاقة العباد، ومن ثم لم يتعلق بإيجادها التكليف.
وهذا قد فصل فيه الكلام في مجاري حديثه في السبب.
وأما ما ذهب فيه الأشاعرة إلى التأويل على خلاف الحنابلة، وموضوعه الصفات والأسماء فإنه فيه - فيما يبدو لي - على اضطراب، ففي شأن الجهة يوافق الأشاعرة، وفي شأن الاستدلال الذي قد يبنى عليه موافقته لهم في المعتقد، إذ سكت عن رده، قال في كتاب الأدلة: "والثالث قوله - تعالى -: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: ٥٠] على هذا المجرى في سائر الآيات" ٣/ ٢٦٢.
وقال فيه أيضا: "وأما مسائل الخلاف وإن كثرت فليست من المتشابهات بالإطلاق ولا تكليف يتعلق بمعناها" ٣/ ٧٠. والله تعالى أعلم بالصواب.
1 / 17
تقويم الأدلة النظرية والنصية المعتمد عليها في هذا الكتاب:
من المنطوق به أن ما أودعه رحمه الله تعالى في كتابه هذا من أثمار نظره مختلفة مراتبه متفاوتة درجاته من جهة صحته وقوته الحجية، وذلك أمر مدرك بأدنى تأمل في هذه الأثمار وبدهي أن كل استنتاج ذهني تعرف قوته الحجية ودرجة صحته وضعفه بحال حجية ودلالة ما بني عليه من دليل وبرهان.
وأغلب ما يأتي به - رحمه الله تعالى - من جنى نظره وغلته واضح المأخذ صحيح البرهان، وصور كلامه وطرق احتجاجه في مجاري بنائه للأحكام التي يوردها، وفي سبل استدلاله للمخالف، والموافق يدلك على ذلك، بل يلزمك بالإقرار به، فقد كان يسلك مسلك الجدل في إيراده وإصداره، متكئا في ذلك على القواعد المنطقية في الغالب وسيلة إلى درك تبليغ ما قصد تبليغه مقررا في النفوس، مظهرا أنه لا رأي إلا ما كان عن برهان ودليل، ولذلك مضى على سنن الاستدلال وجلب البراهين على كل رأي أو قول أورده في هذا الكتاب، ويبلغ في ذلك الذروة بإيراده الاعتراضات والمناقشات في مجاري الاستدلال وإقامة البرهان على الرأي الذي قوله فيه، سواء كان رأيه أو رأي من يخالفه في ذلك، وكل ذلك بإنصاف تام وصبر لأغوار ما فيه البحث والنظر مع جلالة علمية وقدرة فكرية عظيمة، تذهب بك ذات اليمين وذات الشمال بل ترنحك في كل جهات ما فيه النظر من موضوع، وتشغلك بكل محتمل ذهني أو غيره يرد فيه، فتتخطى بذلك ما كان معهودا في بحث ذلك الموضوع في كتب أخرى، وتظفر بفوائد واتساع في النظر ما كنت عليه من قبل اطلاعك على ما رقمه في ذلك - رحمه الله تعالى -.
إلا أن في بعض مما يستدل به - على نذوره - ضعف يوجب سقوطه وعدم اعتباره في مجاري بناء الأحكام الفقهية، بله الأصولية.
ومن ذلك أحاديث ضعيفة، فقد أورد في مسلك الاستدلال حديث "أئمتكم شفعاؤكم" وهو حديث ضعيف كما قال أهل الحديث، وحديث "احذروا الشهوة الخفية العالم يحب أن يجلس إليه" وقد أورده بلفظ غير هذا، وهو حديث ضعيف على كل حال. وحديث "الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، برا كان أو فاجرا،
1 / 18
وإن عمل الكبائر" وهو حديث عد من الموضوعات.
ومن ذلك - أيضا - استدلاله بقصص وحكايات صوفية في مجرى بنائه لبعض الأحكام النظرية وغيرها، ولا يخفى أن هذه الحكايات والقصص ما هي إلا تصرفات بشرية تقدم بالأدلة الشرعية ويحكم عليها بمقتضاها، ولا يصح أن تساق مساق الاستدلال بها، وإن كان ذلك على سبيل الاستئناس بها في هذا المساق، فتأمل.
ومن ذلك - كذلك - استدلاله بحديث "نحن أمة أمية" على وجوب قصر معاني القرآن على ما يوافق صفة الأمية، بحيث لا يتخطى فيها ذلك، ولا يخفى ما في هذا من الحجر على العقول في مجرى الاستفادة من القرآن الكريم، الذي على قطع وجزم يعلم أن المخاطبين به أنواع وأصناف معارفهم وأفهامهم متفاوتة مختلفة المراتب والأحوال، وهذا يوجب أن يكون لكل من هذا الكتاب ما به صلاحه، وما يكفيه من المعارف والعلوم، وما يكون موافقا لحاله ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (٢٠)﴾ [الإسراء: ٢٠] وهذا الحديث لا ينتهض حجة على هذا الذي ادعاه من ذلك لأن أقصى ما يدل عليه هو وصف هذه الأمة بهذا الوصف الذي لازمه عدم الكتابة والحساب في ذلك الزمان، وهي وإن كانت كذلك فإنها تأخذ من هذا الكتاب ما في وسعها من علم ومعرفة، وأما الادعاء بأن الحديث يقتضي هذا الحجر، فإنه أمر فيه تخطى حدود معاني ألفاظه ومدلولاتها.
ومنه - أيضا - استدلاله بالترك من السلف الصالح للعمل ببعض معاني الألفاظ المطلقات في الكتاب والسنة، وهو ما يبنى عليه منع قراءة القرآن بالإدارة، وما أشبه ذلك.
ومن المعلوم أن الحقيقة الشرعية لا تثبت إلا بالأدلة الكافية في ذلك، وإن أعوز ذلك فإنه يصار إلى المعنى اللغوي في ذلك، ويعمل فيه بالإطلاق في الهيئات والأحوال وكل ما ينطوي تحت اللفظ المطلق، وعلى كل فالمسألة محل نظر، وبحث، ومدار القول فيه على ثبوت الحقيقة الشرعية بذلك وحده وحصولها بذلك وحده منحصرة به أم لا، وبذلك فلا بد من إعمال المطلق على
1 / 19
التمام لعدم وجود المقيد له.
ومنه ما استدل به على أن القرآن المكي لا يدخله النسخ، وهو قول قال به بعض أهل العلم قبله، ولكن قد ذكر أن ذلك قد وقع فيه في آيات، منها قوله - تعالى - في سورة غافر: والملائكة ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [غَافر: ٧] فإنه ناسخ لقوله تعالى: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ [الشّورى: ٥].
قال السيوطي: قلت: "أحسن من هذا نسخ قيام الليل في أول سورة المزمل بآخرها، أو بإيجاب الصلوات الخمس، وذلك بمكة اتفاقا" (^١).
كما ينظر - أيضا - فيما استدل به على أن القضايا الجزئية لم ترد في القرآن المكي، فإنه موضع نظر.
وفيه ضعف حسبما يبدو لي. لكن الصحيح المقطوع به أن ذلك كله وما أشبهه لا يقدح في صحة وقوة استنتاجاته - رحمه الله تعالى - وأثمار أنظاره الموردة في هذا الكتاب في الجملة، فإيرادي الكلام على هذا الذي ذكر إنما هو لإتمام الفائدة العلمية فيما ذكر، والتنبيه فقط. وذلك لأن الخطب في ذلك يسهل، لأن إيراده هذه الأحاديث قد يوجه بأنه لا يوردها للاستدلال بها على أمور تعبدية، وإنما يوردها للاستدلال بها على أمور تمهدت في الشريعة، وتقررت بأدلة كافية فيها أحكامها، فكأنه يوردها للاستئناس بها فقط. وعلى هذا السنن والمجرى كذلك يوجه ما يورده من قصص وحكايات أرباب الأحوال - الصوفية - فإنه - على ما يبدو - إنما يسوقه للتمثيل، والحديث عن أحوال وأمور لها - على ما يراه - مستندات شرعية صحيحة.
وأما هذه الدعاوى التي ذهب إلى القول بها فإن ذلك كان عن اجتهاد منه، وكونها مرجوحة مقدوحا فيها. وهو ما يفضى إلى الحكم عليه بأنه مخطئ في شأنها، فإن ذلك قد يكون مغتفرا باعتبار أنه من باب ما كان عن اجتهاد، ثم إنه مما لا يخلو من الوقوع فيه الإنسان من الخطأ في مجاري نظره واستنتاجاته من
_________
(^١) الإتقان في علوم القرآن ٢/ ٢٤.
1 / 20
المعارف العلمية الدقيقة الكثيرة، ثم إن ذلك مغمور فيما أتى به وإذا تقرر هذا، كما تقرر الذي قبله علم على جزم أن ما تضمنه هذا الكتاب من الفوائد العلمية وغلات الأذهان المسلمة من المصنف قوية صلبة البناء والأساس، صحيحة المأخذ والمدرك في الجملة.
إذ هي مبنية على البراهين والحجج القوية المأخوذة من قضايا العقول الضرورية، ومن دلالات الألفاظ الثابتة لغة وشرعا، ومن الاستقراء، التي اعتمد عليها في ذلك كثيرا، وفي أغلب أحواله.
وأما ما أورده الشيخ محمد طاهر بن عاشور من الردود والنقود على بعض كلام الشاطبي ومنهجه في هذا الكتاب فإنه قد تجرد مما يقتضي اعتباره، والاعتداد به، إذ قد أخل فيه - رحمه الله تعالى - بالمبادئ - القواعد والأسس - التي عليها قيام البناء المعرفي الصحيح. وأحد هذه المبادئ: الاستدلال على صحة المدعي بما يقتضيه ويوجبه من الأدلة، وهو ما لم يجر عليه في ذلك، إذ قصار ما أتى به دعاوى مجردة من أي شيء يثبتها.
ومن ذلك قوله: "أن الشاطبي استدل على أن أصول الفقه قطعية بمقدمات خطابية وسفسطائية، أكثرها مدخول ومخلوط غير منخول".
وقوله: ذكر الشاطبي كلاما طويلا في التعبد والتعليل معظمه غير محرر، ولا متجه.
وغير ذلك من صنف هذه الدعاوى التي ساقها، ولم يقم على صحتها دليلا واحدا، وإنما لفظها، كأنه يرى أن ما صدر عنه يعتد به، ويعتبر صحيحا دون أن يكون معتمد ذلك الدليل والحجة، ولا يخفى ما في هذا من الخروج عن منهج العلماء وسبيلهم في شأن بناء المعرفة، بل ما فيه من أسلوب الاستعلاء ووصمة الغرور، والطيش في النظر.
فالواجب عليه سوق الأدلة على صحة ما يدعيه، وعرض ذلك على الأنظار، مبينا وجه ما يستدل به من ذلك على صحة مدعاه.
ألا يرى ما عليه الشاطبي - رحمه الله تعالى - في هذا الشأن، فهو ما فتئ مستدلا على كل رأي أو ثمر نظر يعرضه، ثم لا يكتفي بذلك، بل إنه يورد
1 / 21