شرح العقيدة الطحاوية - صالح آل الشيخ = إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل
شرح العقيدة الطحاوية - صالح آل الشيخ = إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل
Géneros
قَدِيمٌ بِلَا ابْتِدَاءٍ دَائِمٌ بِلَا انْتِهَاءٍ
_________
هذه الجمل من هذه العقيدة المختصرة؛ عقيدة الإمام الطحاوي ﵀ وأجزل له المثوبة، اشتملت على جملة من صفات الله ﷿، وهي ليست راجعة إلى ترتيب معين؛ يعني في ذكر صفاتٍ لله ﷿ أو في ذكر قواعد في الصفات، أو فيما يخالف فيه أهل السنة والجماعة غيرهم، إلا في بعضها كما سيأتي، وهذا كما ذكرنا لك من قبل راجع إلى أنه لم يرتّب هذه العقيدة على ترتيب موضوعي منهجي بحيث ينتقل من أنواع الإيمان إلى غيرها وبين أنواع الإيمان يعني أركان الإيمان وهكذا، ولهذا نذكر البيان على كل جملة بحسب ما اشتملت عليه، وفي ذلك إن شاء الله تعالى فوائد.
قال ﵀ (قَديمٌ بلا ابتدَاء، دَائمٌ بلا انْتهاء)
أراد ﵀ بذلك أَنْ يُبَيِّنْ أَنَّ الله ﷿ منزّهٌ عمّا خَلق، فهو سبحانه خَلَقَ الزمان، والزمان لا يحويه، وكذلك خلق المكان، والمكان لا يحويه، ﷾، وذكر هنا أنّ الله ﷿ سبق الزمان، وأيضا سيدوم بعد انتهاء الزمان بلا انتهاء.
وهذا المعنى الذي أراده عبَّرَ عنه بتعبير المتكلمين في أبدية الزمان في الماضي وفي المستقبل.
وهذا خروج منهم عمّا جاء في النص من التعبير عن أبدية الزمان من الجهتين؛ وذلك أنّ أبدية الزمان يعني أنّ الله ﷿ لا يُوصَفُ بأنه ابتدأ في زمان ولا أنه ينتهي في زمان؛ لأن الزمان محدود مخلوق، والله ﷾ كان قبل خلقه، وسيبقى سبحانه بلا انتهاء.
هذا المعنى يُعِّبُر عنه المتكلمون ويعبر عنه أهل العقائد المختلفة بأنواع من التعبير منها هذا الذي ذكره الطحاوي.
ومن المعلوم أن التعبير الذي جاء في الكتاب والسنة هو قول الحق ﷿ ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾ [الحديد:٣] .
وقوله سبحانه ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ﴾ هذا في المعنى الذي أراده الطحاوي، لهذا فسَّرَهُ النبي؟ في دعائه بقوله (أنت الأول ليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعد شيء) (١) فليس قبل الرب ﷿ زمان، وليس بعده ﷾ زمان، كما أنه ليس قبله شيء من المخلوقات، ولا بعده أيضا شيء من المخلوقات.
وهذان الاسمان (الْأَوَّلُ) وَ(الْآخِرُ) دلاَّ على أنه سبحانه (قَديمٌ -كما ذكر- بلا ابتدَاء) وأنه (دَائمٌ-سبحانه- بلا انْتهاء) .
وما جاء في وصف الله ﷿ في القرآن وفي سنة المصطفى ﷺ هو الأكمل؛ بل هو الصحيح، وأما ما ذَكَرْ من الوصف، فسيأتي ما فيه في المسائل المتعلقة بهذه الجملة.
فإذًا قوله (قَديمٌ بلا ابتدَاء، دَائمٌ بلا انْتهاء) من جهة المعنى ومن جهة الدليل عرفتها.
والمتكلمون يعنون بكلمة (قَديمٌ) غير ما يُعنَى بها في اللغة.
فإنهم يعنون بالقديم الذي تَقَدَّمَ على غيره.
والغيريّة هنا مطلقة بلا تقييد فتشمل كل ما هو غير الله ﷿ يعني من جميع المخلوقات.
فيكون قولهم في وصف الله بأنه (قَديمٌ) أو في أسماء الله بأنه سبحانه القديم يعنون به المُتَقَدِّم على غيره مطلقًا.
وهذا التقدم يشمل كل الأزمنة الماضية وزيادة.
ولذلك احترز المصنف ﵀ بقوله (قَديمٌ بلا ابتدَاء)؛ لأن كونه متقدمًا على غيره قد يكون من جهة التقسيم العقلي أنّ له ابتداء سبحانه معروف، وهذا مما لم يأذن الله ﷿ لنا بعلمه، ولا تدركه أوهامنا ولا عقولنا ولا قلوبنا فلذلك قال (قَديمٌ بلا ابتدَاء) وهذا هو معنى كما ذكرت لك اسم الله (الأول الذي ليس قبله شيء) .
فإذًا تعبير المتكلمين عن الرب ﷿ عن اسمه الأول بكونه قديم وأنه القديم هذا أرادوا به غير المعنى اللغوي.
وأما المعنى اللغوي فإنّ القديم هو الذي صار متقدما على غيره، وسيعقبه غيرُه، وقد سبقه غيره، كما قال ﷿ ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ [يس:٣٩] وكقوله الحق ﷿ ﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ [الأحقاف:١١]، وأشباه ذلك.
والقِدَمْ أو التَقَدُّمْ أو القَدَمْ في اشتقاق هذه المادة في اللغة راجعة إلى ما تقدم على غيره، وهذا في اللغة.
ومعلوم أنَّ اللغة موضوعة للأشياء المحسوسة التي رآها، أو عرفها العرب، ولهذا دخل في اسم القديم المخلوقات.
وإذا كان كذلك فإنَّ القديم لا يوصف الله ﷿ به كما سيأتي في المسائل.
إذًا فكلمة (قَديمٌ بلا ابتدَاء) هذه عند المتكلمين لها معنىً غير المعنى في اللغة، ومعناها عند المتكلمين كما ذكرتُ لك هو المتقدم على غيره.
وفي اللغة المعنى أخص، المتقدم أو ما كان متقدمًا على غيره وتَقَدَّمَهُ غيرُه، وهذا يجوز في اللغة، وهم لم يريدوا هذا المعنى، ولذلك جعلوا القديم من أسماء الله، وجعلوا القِدَمَ صفة للحق ﷿.
إذا تبين لك ذلك فقوله (قَديمٌ بلا ابتدَاء) هذا راجع إلى ما سُمِّيَ بالأزلية؛ بأزلية الرب ﷿، وقوله (دَائمٌ بلا انْتهاء) راجع إلى أبديته ﷿.
ولفظ (أزلية) هذا مركب أو منحوت من (لم يزل)، فلما أرادوا النسبة جعلوها للأزل؛ يعني الزمان الماضي القديم جدا الذي لم يزل، لا يعرف له بداية.
فيُقَالُ هم يعبرون بأنه أزلي ﷿، أو أنَّ صفات الرب ﷿ أزلية، والتعبير عن هذه الأشياء بما جاء في الكتاب والسنة هو الحق، فلا يُعبَّر عن هذه الأشياء بما لم يرد في الكتاب والسنة؛ لأنه قد يشتمل على باطل، والمرء لا يعلم ذلك، حتى من جهة الاحتمالات العقلية أو الاحتمالات اللغوية.
المؤلف احترز فقال (قَديمٌ بلا ابتدَاء) وهذا فيه احتراز، جعل الجملة حق في نفسها لكن فيها مخالفة، وعَبّر عن الأبدية بقوله (دَائمٌ بلا انْتهاء) .
إذا تبين لك ذلك، فعندهم أنَّ القِدَمْ هو قِدَمْ الذات - يعني عند المتكلمين وعند الأشاعرة وأشباه هؤلاء، والمعتزلة - عندهم القِدَمْ حينما يطلقونه يريدون به قدم الذات، وأما قِدَمْ الصفات فهذا فيه تفصيل.
فقوله (قَديمٌ بلا ابتدَاء، دَائمٌ بلا انْتهاء) يعنون به قِدَمَ الذات، ودائم الذات، أما الصفات فلهم فيها تفصيل، وكأنّ الطحاوي درج على ما درجوا عليه لأنه عبَّرَ بتعبيرهم.
إذا تقرر لك ذلك، ففي قوله (قَديمٌ بلا ابتدَاء، دَائمٌ بلا انْتهاء) مسائل:
_________
(١) مسلم (٧٠٦٤) / أبو داود (٥٠٥١) / الترمذي (٣٤٠٠) / ابن ماجه (٣٨٧٣)
1 / 31