Etiquette of Research and Debate
آداب البحث والمناظرة
Investigador
سعود بن عبد العزيز العريفي
Editorial
دار عطاءات العلم (الرياض)
Número de edición
الخامسة
Año de publicación
١٤٤١ هـ - ٢٠١٩ م (الأولى لدار ابن حزم)
Ubicación del editor
دار ابن حزم (بيروت)
Géneros
آثار الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي (٧)
آداب البحث والمناظرة
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (١٣٢٥ هـ - ١٣٩٣ هـ)
تحقيق
سعود بن عبد العزيز العريفي
إشراف
بكر بن عبد الله أبو زيد
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
المقدمة / 1
تقديم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد؛ فيسرني أن أقدم للقارئ الكريم كتاب "آداب البحث والمناظرة" للعلامة المفسر الفقيه الأصولي الشيخ محمد الأمين الجكَني الشنقيطي ﵀، في حلته الجديدة -ضمن مشروع آثار العلامة الشنقيطي- بعد مراجعته وتصحيحه والتعليق عليه بقدر ما تدعو إليه الحاجة، وكان الكتاب قد طبع عام ١٣٨٨ بالمدينة النبوية، وأشرف على طبعه ووضَع عناوينَه -كما جاء في آخر تلك الطبعة- المشرفُ على مطبوعات الجامعة الإسلامية فضيلة الشيخ عطية محمد سالم ﵀، وهو من أخص تلاميذ المؤلف، إلا أن تلك الطبعة جاءت كثيرة الأخطاء، غير منسقة الفقرات، وذلك ما حال بين القارئ والانتفاع بالكتاب على الوجه المطلوب.
ومعلوم أن موضوع الكتاب من الموضوعات الدقيقة، التي قد تتأثر بأدنى خطأ طباعي، أو دمج بين المسائل والأمثلة في فقرة واحدة دون تفصيلها وتمييزها، وقد جربت ذلك في هذا الكتاب دراسة وتدريسًا فوجدت له أبلغ الأثر، فكم سهّل حسنُ ترتيب فقرات الكتاب على القارئ فهم المسائل، وذلك ما افتقرت إليه طبعة الكتاب السابقة، فلا عجب أن انصَرَفَ عنه إلى غيره كثيرٌ من المشتغلين بفني المنطق والجدل، مع تميزه على غيره من كتب هذين الفنين من عدة وجوه:
منها: أنه جمع بين الوجازة ووضوح العبارة ودقتها، وسهولة
المقدمة / 5
الأسلوب مع متانة المادة العلمية، وذلك ما يندر بالنسبة إلى طبيعة موضوع الكتاب.
ومنها: أن المؤلف اعتنى بالأمثلة الواقعية، والنماذج التطبيقية، وأورد الكثير منها، فطبق القياس المنطقي بأشكاله على المناظرة في بعض مسائل الاعتقاد كالاستواء والرؤية، وطبق طرق الجدل والمناظرة على قوادح العلة في علم الأصول، ولا شك أن كثرة الأمثلة الواقعية مما يعين طالب العلم على فهم الأصول والمسائل ذات الدقة والصعوبة، كما أنها تقرب من الثمرة المرجوّة من هذا النوع من العلوم.
ومنها: أن مؤلفه إمام محقق فقيه مفسر أصولي موسوعي، وقد اجتمعت له آلة الاجتهاد على وجه لم يُعرف عن غيره من معاصريه، وهو لم يُخْلِ كتابه هذا من بعض الترجيحات والتعقبات والنقودِ وإن لم يلتزم بذلك تجنبًا للإطالة، ولا شك أن عالمًا في مرتبته تجدر العناية بآرائه وترجيحاته.
وأخرى حسنة جميلة: وهي أن المؤلف سلفي المعتقد، أثري المنهج، زيَّن كتابه بخاتمة نفيسة في الحض على التمسك بالسنة، واتباع منهج السلف الصالح في الاعتقاد، والإعراض عن طريقة الخلف، خصوصًا في الصفات الإلهية، التي كثر الخوض فيها بالباطل من بعض طوائف الأمة. وكان لفني المنطق والجدل دورهما البارز في ذلك؛ فكم من مبتدع مخالف لصريح الكتاب والسنة روّج لمقالته البدعية بزعم أنها من القواطع العقلية، والنتائج المنطقية، وكم من
المقدمة / 6
مشتغل بالعلم سلّم لأهل البدع أو تهيب مخالفتهم والرد عليهم لتوهمه صحة ما ادعوه من اليقينيات المنطقية.
وميزات الكتاب غير هذه كثيرة، ستظهر للقارئ إن شاء الله واضحة في هذه الطبعة، التي كان جل عملنا فيها منصبًّا على ضبط النص، وتنقيته من الأخطاء والأوهام، ثم تفصيله في فقرات تراعي المادة العلمية وطبيعة الموضوع، بحث يناسب طالب العلم المبتدئ، وخصوصًا دارسي الأصلين: أصول الدين، وأصول الفقه؛ فهو من خير المقدمات للمتخصصين في العقيدة عند نقدهم للمنطق اليوناني، (وهي مادة معتمدة في أقسام العقيدة بالجامعات الإسلامية).
وقد جرت العادة بدراسة كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ "نصيحة أهل الإيمان بالرد على منطق اليونان" المشهور بالرد على المنطقيين، مع التقديم له بدراسة مختصرٍ في المنطق؛ إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فهذا الكتاب فيما رأينا من واقع التجربة، وفي ضوء الميزات السابقة، من خير ما يؤدي هذا الغرض.
أما دارسو أصول الفقه فأولى؛ فأكثر القسم الثاني من الكتاب (البحث والمناظرة) - وهو أكبر قسميه- في ذكر قوادح العلة وتطبيق طرق المناظرة عليها، وهي أدق وأهم مباحث القياس (أهم أبواب أصول الفقه) كما هو معلوم.
وقد حرصت على أن تكون هذه الطبعة مقابَلة على أصل الكتاب بخط مؤلفه؛ لكثرة ما رأيته من الأخطاء في الطبعة، وقد تطلّبتُ هذا الأصل، لكن لم أحصل على شيءٍ، فلعله لم يحفظ بعد طبع الكتاب،
المقدمة / 7
فاستعنتُ الله على إخراجه على الصورة التي يراها القارئ الكريم بين يديه، معتمدًا على طبعة الجامعة الإسلامية بالمدينة، راجيًا ممن يعلم شيئًا عن أي أصل يعتمد عليه أن يتفضل بإفادتنا وله منا جزيل الشكر وخالص الدعاء.
وقد أعادت مكتبة ابن تيمية بالقاهرة إخراج الكتاب في طبعة تجارية بصف جديد بدون تاريخ، إلا أن تلك الطبعة احتفظت بأكثر أخطاء طبعة الجامعة الإسلامية، ولم يُصوّب منها سوى بعض ما كان جليًّا لا يخفى، مما لا يعتمد تصويبه على فهم موضوعات الكتاب ومسائله، وأضافت إليها أخطاءً أخرى، كما افتقرت تلك الطبعة كسابقتها إلى الترتيب والتنسيق، وخلت من أي خدمة للنص.
ولما كانت أكثر عناوين الطبعة السابقة ليست من وضع المؤلف كما سبقت الإشارة إلى ذلك لم ألتزم بإيرادها في طبعتنا هذه؛ لعدم دقتها أحيانًا، ولكونها أشبه بالعناوين الجانبية الزائدة على الحاجة أحيانًا أخرى، ومهما يكن، فكونها ليست من وضع المؤلف جعلني في مندوحة من إيرادها، على أني جعلت فهرسًا مفصلًا انتظم مضمونها وزيادة، إلا أنني استبقيت العناوين المنسبكة مع سياق الكلام؛ لأنها لا بد أن تكون من وضع المؤلف، وهي قليلة.
وقد نبهت على أكثر أخطاء الطبعة السابقة؛ ليعلم القاريء فضل طبعتنا هذه عليها، والجهدَ الذي بذلناه فيها، وليحترز من هذه الأخطاء من عنده الطبعة السابقة، فقد استخرجت بعضها بالمناقيش (كما في ص ١٥، ٣٥، ٤٦، ٦٢، ٨٤، ١٠١، ٢٧٧، ٢٥٤)، وأهملت التنبيه على
المقدمة / 8
بعض الأخطاء الواضحة التي لا تلتبس على القارئ، ولا أخفي أن كثرة الأخطاء في الطبعة السابقة قد أفقدها عندي المكانة التي تُعطى عادة للأصل المخطوط، وجرّأني على إثبات ما أراه صوابًا في الصلب دائمًا، سواء كان تصويبًا، أو إضافة أو حذفًا طفيفين، إلا أني أجعله بين معكوفين [هكذا]، وأنبه في الحاشية على الخطأ، دون التزام بتعليل التصويب إذا كان واضحًا، وقد كان خير معين لي في ذلك بعد الله -تعالى- سياق الكلام، وسباقه ولحاقه.
أما التعليقات فاقتصرت منها على ما دعت الضرورة إليه، فعزوت الأحاديث على قلتها إلى مصادرها مكتفيًا بذكر رقم الحديث، وحكمه إن كان خارج الصحيحين، أما الآيات فكُتبت برسم المصحف، وجعلْت أرقامها وسورها في الصلب تخفيفًا للحواشي، وخرَّجت الأبيات الشعرية من الدواوين والمصادر الأدبية، كما عرّفت بمن يحتاج إلى التعريف من الأعلام المذكورين، ووضَّحْت بعض المصطلحات والعبارات المستغلقة على ندرتها، ونبهت على بعض الأوهام التي قد تكون سبق قلم من المؤلف أو المصحح، (كما في ص ١٥، ٥٣، ١٣٠، ١٦١، ١٧٩، ٢٠١، ٢٤٢، ٣٠٥، ٣٣٢)، وعلّقت ثلاث تعليقات موجزة صيانةً لما قد تُحمّلُه عبارة المؤلف من رأي مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة هو منه بريء، وذلك في ص ٢٢٤، ٢٥٨، ٢٣٥.
كما التزمت بعزو النقول وأقوال العلماء بحسب توفر مصادر المؤلف بين يدي.
المقدمة / 9
ومما تميزت به طبعتنا هذه الإحالات، فقد أكثر المؤلف من قوله (كما سبق أن أشرنا)، (كما سيأتي)، ومعلوم أن هذا النوع من الفنون مترابط الفقرات، منبنٍ آخره على أوله، موضح بعضه لبعض، فالتزمت بالإحالة على رقم الصفحة حيثما أحال المؤلف.
موارد المؤلف:
سبقت الإشارة إلى أن المؤلف عالم موسوعي، وهذا يعني أنه يعتمد في ما يكتب غالبًا على ما يملكه من مخزون علمي غزير، مع ما يفتح الله عليه من الفهم والاستنباط والتحليل والتحرير، والمؤلف ﵀ -كما يُعرف من ترجمته قد رُزق حافظة نادرة، زانها ذكاء عزيز، وعبقرية فذة، وذلك ما ملّكه رقاب العلوم والفنون، ولا سيما علوم الآلة ومنها موضوع الكتاب، فهي ماثلة أمامه يقطف منها ما يشاء، فهو بحق (مستلم أستاذية العالم الإسلامي في عصره)، كما وصفه تلميذه العلّامة بكر أبو زيد -حفظه الله-، ومن هذا حاله قد يعسر تحديد موارده في كتبه، وله في كتابه هذا عبارات تؤكد ما ذكرنا، نحو: (وعلى هذا القول عامة المنطقيين) (وعليه عامة البيانيين) (وعلى هذا جماهير الأصوليين) (وبه يظهر غلط جماهير علماء الأصول)، ونحوها من العبارات التي يعلم من عرف غزارة علم الشيخ أنها مبنية على استقراء، لا مجرد نقل، ومع ذلك فقد نص في هذا الكتاب على بعض الأسماء التي قد تعبر عن بعض موارده، مع أنه يذكرها غالبًا للاستدراك والمناقشة، لا للنقل والعزو، وإليك ما ذكره منها وبعضَ مواضعها من الكتاب:
المقدمة / 10
١ - نظم في المنطق للعلامة المختار بن بونة، ص ٥.
٢ - السلم المنورق في فن المنطق، للأخضري، ص ٥.
٣ - مختصر في علم المنطق، للسنوسي، ص ٨١.
٤ - ابن عرفة، ولم يذكر اسم كتابه، ص ١٣٢.
٥ - تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، ص ١٧٠.
٦ - ألفية ابن مالك. ص ١٧٤.
٧ - مراقي السعود، لعبد الله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي. ص ٢٤٤.
٨ - شرح سلم الأخضري للبناني، ص ٢٧٦، ١٩٦، وقد نقل منه صفحات.
٩ - مختصر ابن الحاجب، ص ١٩٨، ٣٠٨.
١٠ - رسالة في البحث والمناظرة، للشريف الجرجاني، ص ٢٠٦.
١١ - ركن الدين العميدي، ولم يذكر اسم كتابه في الجدل، فلعله رجح إليه بواسطة، ص ٢٠٧.
١٢ - روضة الناظر، لابن قدامة، ص ٣٠٨.
١٣ - الباقلاني، ص ٣٢٢.
١٤ - الباجي، ص ٣٢٢، ولم يسمّ لهما كتبًا، فلعله ينقل عنها بواسطة.
المقدمة / 11
هذا سوى موارده في القراءات والتفسير والحديث والشعر والأدب والنحو والبلاغة والتاريخ وغيرها مما يعتمد فيه على حفظه كما سبقت الإشارة إليه.
وننبه القارئ الكريم إلى أن المؤلف قد ذكر في مقدمته بعض المسائل المتوقف فهمها على دراسة فن المنطق وفهم مصطلحاته، وهو ﵀ إنما خاطب بها غير المبتدئين، فلا يعترض عليه بأن هذا من استباق الكلام، وتقديم ما حقّه التأخير، ويمكن للمبتدئ تجاوزها وتأخيرها إلى ما بعد فهم المقدمة المنطقية.
كما أنه -رحمه الله تعالى- لم يستوعب جيميع مباحث المنطق طلبًا للاختصار، فترك ذكر لواحق القياس وغيرها من المسائل التي نبه على تركها اختصارًا مرارًا في كتابه، فمن أرادها فعليه بمطولات هذا الفن.
وفي ختام بهذا التقديم نستميح القارئ الكريم العذر في أي تقصير يلحظه في خدمة هذا الكتاب النفيس، ونسأل الله -تعالى- أن يتغمد مؤلفه بواسع رحمته، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
د. سعود بن عبد العزيز بن محمد العَرِيفي
مكة المكرمة -جامعة أم القرى- قسم العقيدة
المقدمة / 12
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أما بعد:
فإنه لما كان من أهداف الجامعة الإسلامية نشرُ العلم، وتعليمُ أبناء المسلمين بصفة عامة، وتخريجُ الدعاة إلى الله بصفة خاصة، وكانت الدعوة إلى الله من أهم أعمال المسلمين جميعًا، فإن الجامعة مازالت دائبةً في تدعيم مناهجها إلى أن أصبحت -ولله الحمد- في المستوى المنهجي اللائقِ بها وبأهدافها.
وقد تخرّج أفواجٌ من أبنائها من كلية الشريعة، شغلوا مناصب عدةً من تدريس وقضاءٍ ودعوة.
ولما كان من المتوقع أن يواجه الدعاةَ إلى الحق دعاةٌ إلى الباطل مضللون، يجادلون لشبهٍ فلسفية، ومقدماتٍ سوفسطائية (^١)، وكانوا لشدة تمرُّنِهم على تلك الحُجج الباطلةِ كثيرًا ما يُظهرون الحقَّ في صورة الباطل، والباطلَ في صورة الحق، ويفحمون كثيرًا من طلبة العلم الذين لم يكن معهم سلاحٌ من العلمِ يدفع باطلَهم بالحق، وكان من الواجب على المسلمين أن يتعلموا من العلم ما يتسنّى لهم به إبطالُ
_________
(^١) (السفسطة: قياس مركّب من الوهميّات، والغرض منه تغليط الخصم وإسكاته).
التعريفات للجرجاني: ص ١٢٤. مكتبة لبنان ٣١٩٦٩.
1 / 3
الباطل وإحقاقُ الحقِّ على الطرق المتعارَفة عند عامة الناس = حمل ذلك الجامعةَ على إنشاء كلية الدعوة وأصول الدين.
ومهمّتُها تخريجُ دعاة قادرين على تبليغ الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وعلى إفحام وإلزام الدعاة المضلِّلين، ببيان بها يصحح أدلتهم، ويظهرُ بطلانَ حُجج خصومهم.
ومن أجل ذلك قررَتْ في منهج هذه الكلية تدريسَ مادة "آداب البحث والمناظرة"؛ لأنه هو العلم الذي يَقدِر به من تعلمه على بيان مواضع الغلط في حُجة خصمه، وعلى تصحيح مذهبه بإقامة الدليل المقنعَ على صحته، أو صحة ملزومه، أو بطلان نقيضه، ونحو ذلك.
ومن المعلوم أن المقدمات التي تتركب منها الأدلةُ التي يحتج بها كل واحد من المتناظرَين إنما تُوجه الحجةُ بها منتظَمة على صورة القياس المنطقي.
ومن أجل ذلك كان فن "آداب البحث والمناظرة" يتوقف فهمُه كما ينبغي على فهم ما لا بد منه من فن المنطق؛ لأن توجيه السائل المنعَ على المقدمة الصغرى أو الكبرى مثلًا، أو القدحَ في الدليل بعدم تَكرار الحد الوسط، أو باختلال شرط من شروط الإنتاج ونحو ذلك (^١)، لا يفهمه من لا إلمام له بفن المنطق.
وكانت الجامعة قد أسندت إلينا تدريسَ فن "آداب البحث
_________
(^١) سيأتي بيان هذه المصطلحات عند الكلام على القياس المنطقي وأركانه ص ١٠٦ وما بعدها.
1 / 4
والمناظرة"، وكان لا بد من وضع مذكرة تُمكّن طلاب الفن من مقصودهم، فوضعنا هذه المذكرة، وبدأناها بإيضاح القواعد التي لابدّ منها من فن المنطق لآداب البحث والمناظرة، واقتصرنا فيها على المهم الذي لا بد منه للمناظرة، وجئنا بتلك الأصول المنطقية خالصةً من شوائب الشُّبه الفلسفية، فيها النفع الذي لا يخالطه ضررٌ البتة؛ لأنها من الذي خلّصه علماء الإسلام من شوائب الفلسفة، كما قال العلامة شيخ مشايخنا وابن عمنا المختار بن بونة (^١) -شارحُ الألفية والجامعُ معها ألفيةً أخرى من نظمه تكميلًا للفائدة- في نظمه في فن المنطق:
فإن تقُلْ حرّمه النواوي ... وابنُ الصلاح والسيوطي الراوي
قلتُ نرى الأقوال ذي المخالِفةْ ... محلُّها ما صنف الفلاسفةْ
أما الذي خلّصه من أسلما ... لا بد أن يعلم عند العلما
وأما قول الأخضري (^٢) في سلمه (^٣):
فابنُ الصلاح والنواوي حرما ... وقال قوم ينبغي أن يُعْلما
_________
(^١) مترجم في "الوسيط في تراجم أدباء شنقيط" لأحمد بن الأمين الشنقيطي، ص ٢٧٧ - ٢٨٣، قال: كان حيا في أوائل القرن الثالث عشر.
(^٢) عبد الرحمن بن محمد الجزائري، توفي سنة ٩٨٣ هـ. الأعلام للزركلي (٣/ ٣٣١).
(^٣) السلم المنورق -أو: المرونق، وجهان-: ص ٢٥ - ٢٧، مع حاشية الباجوري، وتقريرات الأنبابي، مطبعة الحلبي بمصر، ١٣٤٧ هـ.
1 / 5
والقولةُ المشهورةُ الصحيحةْ ... جوازهُ لكاملِ القريحةْ
مُمارِسِ السُنّةِ والكتابِ ... ليَهتدي به إلى الصوابِ
فمحلُّه المنطقُ المشوبُ بكلام الفلاسفة الباطل.
ومن المعلوم أن فن المنطق منذ تُرجم من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية في أيام المأمون كانت جميعُ المؤلفات توجدُ فيها عِباراتٌ واصطلاحات منطقيةٌ لا يفهمُها إلا من له إلمامٌ به، ولا يَفهم الردَّ على المنطقيين في ما جاؤوا به من الباطل إلا من له إلمام بفن المنطق.
وقد يعين على رد الشبه التي جاء بها المتكلمون في أقيسة منطقية، فزعموا أن العقل يمنع بسببها كثيرًا من صفات الله الثابتةِ في الكتاب والسنة؛ لأن أكبر سبب لإفحام المبطل أن تكون الحجة عليه من جنس ما يحتج به، وأن تكون مركبة من مقدمات على الهيأة التي يعترف الخصم المبطل بصحة إنتاجها.
ولا شك أن المنطق لو لم يترجم إلى العربية ولم يتعلمه المسلمون لكان دينُهم وعقيدتُهم في غنىً عنه، كما استغنى عنه سلفهم الصالح، ولكنه لما تُرجم وتُعُلِّم، وصارت أقيسته هي الطريق الوحيدة لنفي بعض صفات الله الثابتةِ في الوحيين، كان ينبغي لعلماء المسلمين أن يتعلموه وينظروا فيه ليردّوا حجج المبطلين بجنس ما استدلوا به على نفيهم لبعض الصفات؛ لأن إفحامهم بنفس أدلتهم أدعى لانقطاعهم وإلزامهم الحق.
واعلم أن نفس القياس المنطقي في حد ذاته صحيح النتائج، إن
1 / 6
ركبت مقدماتُه على الوجه الصحيحِ صورةً ومادةً مع شروط إنتاجه فهو قطعي الصحة، وإنما يعتريه الخلل من جهة الناظر فيه، فيغلط، فيظن هذا الأمر لازمًا لهذا مثلًا، فيستدل بنفي ذلك اللازم في زعمه على نفي ذلك الملزوم، مع أنه لا ملازمةَ بينهما في نفس الأمر البتة.
ومن أجل غلطه في ذلك تخرج النتيجةُ مخالفةً للوحي الصحيح؛ لغلط المستدِل، ولو كان استعماله للقياس المنطقي على الوجه الصحيح لكانت نتيجتُه مطابقةً للوحي بلا شك؛ لأن العقل الصحيح لا يخالف النقل الصريح.
وإيضاحه باختصار أن القياس المنطقي نوعان:
الأول: الاقتراني، وهو المعروف بالحملي، وقياسِ الشمول، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله (^١)، وسائر أشكاله راجعةٌ إلى الشكل الأول، ووجهُ الحكم العقلي بصحة إنتاج الشكل الأول هو أن الحد الأصغرَ إذا اندرج في الحد الأوسط، واندرج الأوسط في الأكبر، لزم عقلًا اندراج الأصغر في الأكبر، وهذا أمر عقلي لا شك فيه، ولا يتغير بتغير الزمان؛ لأنه حكم عقلي قطعي ثابت.
وأما القياس الاستثنائي (^٢) إن كان مركبًا من متصلة لزومية واستثنائية فلا يُنتج منه إلا ضربان، وحاصلهما بالتقريب للذهن أن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم، وثبوتَ الملزوم يقتضي ثبوتَ اللازم،
_________
(^١) ص ١٠٥ وما بعدها.
(^٢) وهو النوع الثاني من نوعي القياس، وسيأتي إيضاحه ص ١٢٨ وما بعدها.
1 / 7
وكلاهما حكم عقلي قطعي ثابت لا يمكن تغيّره.
والمركب من شرطية منفصلة (^١) إن كانت حقيقية مانعةَ جمع وخُلُوّ أنتجت ضروبُه الأربعة؛ لأن نفي كل واحد من النقيضين يستلزم وجود الآخر، ووجودَ كل واحد منهما يستلزم نفي الآخر، وهذه أحكام عقلية قطعية لا تتغير بحال.
والمركب من مانعة الجمع المجوِّزةِ للخُلُوّ يقطع العقل بصحة إنتاج ضربيه المنتجين؛ لأن مانعة الجمع المذكورةَ لا تتركب إلا من قضية وأخصَّ من نقيضها، فكلا طرفيها أخصُّ من نقيض الآخر، ولذا كان إثبات كل واحد من طرفيها يقتضي نفي الآخر؛ لأن إثبات ما هو أخصُّ من النقيض يستلزم إثبات النقيض؛ لأن ثبوت الأخصِّ يستلزم ثبوت الأعم بلا عكس.
وإذا ثبت النقيض عُلم انتفاءُ نقيضه قطعًا؛ لاستحالة اجتماع النقيضين، فتعين أن ثبوت كل واحد من طرفيها يقتضي نفي الآخر، بخلاف نفي أحد الطرفين فلا يقتضي نفي الآخر؛ لأن نفي ما هو أخص من النقيض لا يستلزم نفي النقيض؛ لأن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم.
وكذلك المركب من مانعة الخُلُوّ المجوِّزةِ للجمع، فإن العقل الصحيح يقطع بصحة إنتاج الضربين المنتجين منه، وهما العقيمان في الذي قبله؛ لأن مانعة الخلو المجوزةَ للجمع لا تتركب إلا من قضية
_________
(^١) يعني مع الاستثنائية، انظر توضيحه ص ١٣٤.
1 / 8
وأعمَّ من نقيضها، فكلا طرفيها أعمُّ من نقيض الآخر، ولذا كان نفي كل واحد منهما يقتضي وجود الآخر بلا عكس؛ لأن نفي ما هو أعمُّ من النقيض يستلزم نفي النقيض؛ لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، وإذا لزم من انتفائه انتفاءُ النقيض عُلم قطعًا ثبوتُ النقيض الآخَرِ؛ لاستحالة عدم النقيضين معًا.
فتبين أن نفي كل واحد من طرفيها يستلزم ثبوت الآخر بلا عكس، وكلَّ ما ذكر بحكم العقل (^١)، وأنه لا يتغير بتغير الزمان.
وبعد الانتهاء مما لا بد منه من فن المنطق نذكر جملا كافية من آداب البحث والمناظرة، تُعين من تعلمها على تصحيح مذهبه وإبطال مذهب خصمه، مع الآداب اللازمة لذلك، ثم نطبق ذلك في مسائلَ من القوادح في أصول الفقه، ومسائلَ من مسائل الكلام التي نفى فيها المعطلون بعض الصفات، ونوضح كيفية تصحيح الحق في ذلك وإبطالِ الباطل؛ لأن تطبيق ذلك عمليًّا يفيد الطالب إفادةَ أكبر.
ونختتم الكلام بالمقارنة بين ما يسميه المتكلمون مذهبَ السلف ومذهب الخلف، مع إحقاق الحق وإبطال الباطل على الطرق المعهودة في المنَاظرة؛ ليفيدَ ذلك الطالبَ تمرينًا على رد الشبه وإبطال الباطل بطريق المناظرة.
وهذا أوان الشروع في ذكر ما لا بد منه من المسائل المنطقية.
المؤلف
_________
(^١) أي وتبين أن كلّ ما ذُكر ثابت بحكم العقل.
1 / 9
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة منطقية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
أنواع العلم الحادث
أَي وهو علم المخلوقين؛ لأن الكلام فيه، احترازًا عن علم الله -جل وعلا-؛ فإنه لا يوسف بصفات علم المخلوقين.
اعلم أولًا أنا تركنا الأبحاث في تعريف العلم ومناقشتها اختصارًا؛ ولأن طالب العلم يفهم المراد بالعلم.
اعلم أن العلم الحادث ينقسم أربعة أقسام؛ لأنه إما علم تصور، وإما علم تصديق، وكل واحد منهما إما ضروري وإما نظري، فالمجموع أربعة، من ضرب اثنين في اثنين.
الأول: علمُ تصورٍ ضروري.
الثاني: علمُ تصورٍ نظري.
الثالث: علم تصديق ضروري.
الرابع: علم تصديق نظري.
واعلم أن علم التصور في الاصطلاح هو "إدراك معنى المفرد من غير تعرض لإثبات شيء له ولا لنفيه عنه"، كإدراك معنى اللذة،
1 / 11
والألم، ومعنى المرارة، ومعنى الحلاوة، وإدراك معنى الإنسان، ومعنى الكاتب.
فإدراك كل مفرد مما ذكرنا ونحوه -أي فهم المعنى المراد به ذلك المفرد- من غير تعرضٍ لإثبات شيء له ولا لنفيه عنه هو المسمى في الاصطلاح بعلم التصور، وهو تفعُّل من الصورة، فكأن صورة المفرد تنطبع في الذهن؛ لإدراك المتصوِّر لها معناها.
والإدراك في الاصطلاح هو: "وصول النفس إلى المعنى بتمامه"، فإن وصلت إليه لا بتمامه فهو المسمى في الاصطلاح بالشعور.
وأما علم التصديق فهو "إثبات أمر لأمر بالفعل"، أو نفيه عنه بالفعل، وتقريبه للذهن أنه هو المسمى في اصطلاح البلاغيين بالإسناد الخبري، وفي اصطلاح النحويين بالجملة الاسمية التي هي المبتدأ والخبر، أو الفعليةِ التي هي الفعل والفاعل، أو الفعل ونائب الفاعل.
فلو قلت مثلًا: (الكاتب إنسان)، فإدراكك معنى (الكاتب) فقط علم تصور، وإدراكك معنى (الإنسان) فقط علم تصور، وإدراكك كونَ الإنسان كاتبًا بالفعل، أو ليس كاتبًا بالفعل، هو المسمى بالتصديق.
وإنما سمي تصديقًا لأنه خبر، والخبر بالنظر إلى مجرد ذاته يحتمل التصديق والتكذيب، فسمَّوه تصديقًا؛ بأشرف الاحتمالين.
وكونُ التصديق -الذي هو إدراك وقوع نسبة بالفعل أو عدمِ وقوعها بالفعل- من أنواع العلم هو قول الجمهور، وهو الحق. وقد تركنا ذكر ما خالفه وإبطاله لأجل الاختصار.
1 / 12
واعلم أنه لا يمكن إدراك نسبة وقوع الأمر أو عدم وقوعها فعلًا إلا بأربعة تصورات هي:
الأول: تصور المحكوم عليه الذي هو الموضوع.
الثاني: تصور المحكوم به الذي هو المحمول.
الثالث: تصور النسبة الحُكْمية التي هي مَوْرد الإيجاب والسلب من غير حكم بوقوعها ولا عدم وقوعها، كما يقع من الشاكّ في قيام زيد، فإنه يتصور معنى زيد، ويتصور معنى القيام، ويتصور معنى نسبة القيام إلى زيد مع أنه شاكٌّ في وقوعها، فليس متصوّرًا لوقوعها ولا لعدم وقوعها، فإن تصوّرَ وقوعَها بالفعل أو عدمَ وقوعها بالفعل فهو التصديق.
وجمهورهم يقول: إن التصديق بسيط، وهو التصور الرابع وحده، والثلاثة قبله شروط فيه.
وقال الرازي (^١): التصديق مركب. يعني أنه مركب من أربعة تصورات، فهو عنده مجموع التصورات الأربعة.
والقولان متفقان على أنه لا بد قبلَه من ثلاثة تصورات؛ إلا أن من يقولُ هو بسيط يقول: توقفه على التصورات الثلاثة من توقف الماهية على شرطها، ومن يقول هو مركب يقول: هو من توقف الماهية على أركانها التي هي أجزاؤها.
_________
(^١) فخر الدين، محمد بن عمر بن الحسين القرشي، توفي سنة ٦٠٦ هـ، انظر سير أعلام النبلاء (٢١/ ٥٠٠).
1 / 13
فعُلم أن كل تصديق تصور، وليس كلُ تصور تصديقا.
واعلم أن الموضوع في اصطلاح المنطقيين هو المعروف في المعاني بالمسند إليه، وفي النحو بالمبتدأ، أو الفاعل والنائب عن الفاعل.
والمحمول (^١) في اصطلاحهم هو المعروف في المعاني بالمسند، وفي النحو بالخبر، أو الفعل.
وإنما سمي الموضوع موضوعًا لأن المحمول صفة من صفات الموضوع، أو فعل من أفعاله، والصفة لا بد لها من موصوف، والفعل لا بد له من فاعل، فالأساس الذي وضع لإمكان إثبات الصفات أو نفيها هو المحكوم عليه، ولذا سمي موضوعًا، كالأساس للبنيان.
وسُمّي الآخر محمولًا لأنه كسقف البنيان، لا بد له من أساس يبنى عليه.
فلو قلت: زيد عالم، أو زيد ضارب، فالعلم صفة زيد، والضرب فعله، ولا تمكنُ صفةٌ بدون موصوف، ولا فعل بدون فاعل، فصار المحكوم عليه كأنه وضع أساسًا للحكم، فسمي موضوعا، وسمي ما يسند إليه من صفات وأفعال محمولًا؛ لأنها لا تقوم بنفسها، فلا بد لها من أساس تُحمل عليه.
وإذا عرفتَ المراد بالتصور والتصديق، وأن كلًّا منهما يكون
_________
(^١) انظر للأهمية ما سيذكره المؤلف عن الموضوع والمحمول ص ٨٣.
1 / 14