انطوى فكر التنوير، بالطبع، على لائحة طويلة من المشكلات الصعبة، وعلى قدر غير قليل من التناقضات. وفي الوقت نفسه تبدو أهدافه نفسها عصية على التحقيق، على نحو دقيق، إلا عبر مشروع «طوباوي» مثالي، وقد بدا هذا المشروع قائما على الاضطهاد بالنسبة للبعض، بينما مثل للبعض الآخر نموذجا للتحرر. لكن السؤال الذي طرحه هذا المشروع، والذي لم يكن هناك مفر من مواجهته حتى لو تم هذا بعد حين، هو: من يملك حق إعلان سلطة العقل العليا؟ وكيف تحول ذلك العقل إلى سلطة ملموسة؟
مع مطلع القرن العشرين كان قد تبلور في هذا النقاش موقفان نقديان رئيسان، رغم كونهما متعارضين:
الأول: عند ماكس فيبر
M. Weber
الذي يقول: «بعد أن زالت الأقنعة وتبدت الحقيقة، تبين أن تراث التنوير إنما قام على انتصار العقلانية الأداتية ذات الأغراض المحددة. هذا الشكل من العقلانية حفر عميقا في جملة حياتنا الاجتماعية والثقافية، ومن ضمنها البنى الاقتصادية، والقوانين ... وحتى الفنون. وعليه فلا يقود نمو العقلانية الأداتية إلى تحقيق ملموس للحرية الشاملة، وإنما إلى إيجاد «قفص حديدي» من العقلانية البيروقراطية لا فرار منه.»
11
إذا أمكن قراءة تحذير فيبر - يقول هارفي
12 - كما لو كان آية ننقشها على شاهد قبر عقل التنوير؛ فإن هجوم نيتشه المبكر على مقدماته الأساسية إنما كان إحدى غضبات آلهة الإغريق: «تحت سطح الحياة الحديثة المغطى بالمعرفة والعلم، تكمن قوى دافعة بربرية، بدائية، وخالية من كل أثر للرحمة.» فكل صور التنوير المتعلقة بالحضارة، والعقل، والحقوق الكلية، والأخلاق انتهت إلى لا شيء. وما يدعوه نيتشه ب «أزمة الزمن الحاضر» و«إفلاس الزمن الحاضر» ودعوته إلى «إدارة الظهر إلى العصر»، ومعاملة الحاضر معاملة ملؤها «القسوة والتجبر»؛ لا ينفصل عن حديثه عن «افتقاد الزمن الحاضر لكل قيمة أيا كان شأنها.»
13
لقد نشأ التحول في نبرة الحداثة عن الحاجة للتصدي للحس بالفوضوية وعدم النظام واليأس الذي بذره نيتشه في زمن حفل بالحراك الصارخ والتوتر وفقدان الاستقرار في الحياة السياسية والاقتصادية، وهو اضطراب تشبثت به وأسهمت فيه الحركة الفوضوية التي سادت في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وتلازم ذلك مع إعلاء الرغبات الجنسية والنفسانية واللاعقلانية (من النوع الذي حدده فرويد
Página desconocida