(بسم الله الرحمن الرحيم) الحمد لله الذي فضل سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم على سائر المخلوقات وشرف أمته على سائر الأمم وأعلى لهم الدرجات وعلى آله وأصحابه المقتفين آثاره ومن تبعهم في جميع الحالات (أما بعد) فيقول العبد الفقير خادم طلبة العلم بالمسجد الحرام كثير الذنوب والآثام المفتقر إلى ربه المنان أحمد بن زيني دحلان غفر الله له ولوالديه ومشايخه ومحبيه والمسلمين أجمعين قد سألني من لا تسعني مخالفته أن أجمع له ما تمسك به أهل السنة في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم والتوسل به من الدلائل والحجج القوية من الآيات والأحاديث النبوية وما ورد في ذلك عن السلف والعلماء والأئمة المجتهدين ليكون ذلك مبطلا إنكار المنكرين فجمعت له هذه الرسالة من كتب كثيرة واختصرتها غاية الاختصار اعتمادا على ما هو مبسوط في كتب العلماء الأخيار فاستعين الله وأقول (إعلم) رحمك الله أن زيارة قبر نبينا صلى الله عليه وسلم مشروعة مطلوبة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أما الكتاب فقوله تعالى ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما دلت الآية على حث الأمة على المجئ
Página 2
إليه صلى الله عليه وسلم والاستغفار عنده واستغفاره لهم وهذا لا ينقطع بموته ودلت أيضا على تعليق وجدانهم الله توابا رحيما بمجيئهم واستغفارهم واستغفار الرسول لهم فأما استغفاره صلى الله عليه وسلم فهو حاصل لجميع المؤمنين بنص قوله تعالى واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات وصح في صحيح مسلم إن بعض الصحابة فهم من الآية ذلك المعنى الذي ذلت عليه هذه الآية فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم فقد تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله تعالى ورحمته وسيأتي في الأحاديث الآتية ما يدل على أن استغفاره صلى الله عليه وسلم لا يتقيد بحال حياته وقد علم من كمال شفقته صلى الله عليه وسلم أنه لا يترك ذلك لمن جاءه مستغفرا ربه سبحانه وتعالى والآية الكريمة وإن وردت في قوم معينين في حال الحياة تعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في حال الحياة وبعد الممات ولذلك فهم العلماء منها العموم للجائين واستحبوا لمن أتى قبره صلى الله عليه وسلم أن يقرأها مستغفرا الله تعالى واستحبوها للزائر ورأوها من آدابه التي يسن له فعلها وذكرها المصنفون في المناسك من أهل المذاهب الأربعة ودلت الآية أيضا على أنه لا فرق في الجائي بين أن يكون مجيئه بسفر أو غير سفر لوقوع جاؤوك في حين الشرط الدال على العموم وقد قال تعالى ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله تم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ولا شك عند من له أدنى مسكة من ذوق العلم أن من خرج لزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدق عليه أنه خرج مهاجرا إلى الله ورسوله لما يأتي من الأحاديث الدالة على أن زيارته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كزيارته في حياته وزيارته في حياته داخلة في الآية الكريمة قطعا فكذا بعد وفاته بنص الأحاديث الشريفة الآتية وأما السنة فما يأتي من الأحاديث وأما القياس فقد جاء أيضا في السنة الصحيحة المتفق عليها الأمر بزيارة القبور فقبر نبينا صلى الله عليه وسلم منها أولى وأحرى وأحق وأعلى بل لا نسبة بينه وبين غير وأيضا فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم زار أهل البقيع وشهداء أحد فقبره الشريف أولى لما له من الحق ووجوب التعظيم وليست زيارته صلى الله عليه وسلم إلا
Página 3
لتعظيمه والتبرك به ولينال الزائر عظيم الرحمة والبركة بصلاته وسلامه عليه صلى الله عليه وسلم عند قبره الشريف بحضرة الملائكة الحافين به صلى الله عليه وسلم وأما إجماع المسلمين فقد قال العلامة ابن حجر في الجوهر المنظم في زيارة قبر النبي المكرم صلى الله عليه وسلم قد نقل جماعة من الأئمة حملة الشرع الشريف الذين عليهم المدار والمعول الاجماع وإنما الخلاف بينهم في أنها واجبة أو مندوبة فمن خالف في مشروعية الزيارة فقد خرق الاجماع واحتج القائلون بوجوب الزيارة بقوله صلى الله عليه وسلم من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني رواه ابن عدي بسند يحتج به قال وجفاؤه صلى الله عليه وسلم حرام فعدم زيارته المتضمن لجفائه حرام وأجاب الجمهور القائلون بندب؟
الزيارة بأن الجفاء من الأمور النسبية فقد يقال في ترك المندوب إنه جفاء؟
هو ترك البر والصلة ويطلق أيضا على غلظ الطبع والبعد عن الشئ فأكثر العلماء من الخلف والسلف على ندبها دون وجوبها وعلى كل من القولين فالزيارة ومقدماتها من نحو السفر من أهم القربات وأنجح المساعي ويدل لك؟
أحاديث كثيرة صحيحة صريحة لا يشك فيها إلا من انطمس نور بصيرته منها قوله صلى الله عليه وسلم من زار قبري وجبت له شفاعتي وفي رواية حلت له شفاعتي رواه الدارقطني وكثير من أئمة الحديث وقد أطال الإمام السبكي في كتابه المسمى شفاء السقام في زيارة قبر خير الأنام في بيان طرق هذا الحديث وبيان من صححه من الأئمة ثم ذكر روايات في أحاديث الزيارة كلما؟ ويد هذا الحديث منها رواية من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي وفي رواية من جاءني زائرا لا تهمه حاجة إلا زيارتي كان حقا على أن أكون له شفيعا يوم القيامة وفي رواية من جاءني زائرا كان له حق على الله عز وجل أن أكون له شفيعا يوم القيامة وفي رواية لأبي يعلى والدارقطني والطبراني والبيهقي وابن عساكر من حج فزار قبري وفي رواية فزارني بعد وفاتي عند قبري كان كمن زارني في حياتي وفي رواية من حج فزارني في مسجدي بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي وفي رواية من زارني إلى المدينة كنت له شفيعا وشهيدا ومن مات بأحد الحرمين بعثه الله من
Página 4
الآمنين يوم القيامة رواه بهذه الزيادة أبو داود الطيالسي ثم ذكر أحاديث كثيرة كلها تدل على مشروعية الزيارة لا حاجة لنا إلى الإطالة بذكرها فتلك الأحاديث كلها مع ما ذكرناه صريحة في ندب بل تأكد زيارته صلى الله عليه وسلم حيا وميتا للذكر والأنثى وكذا زيارة بقية الأنبياء والصالحين والشهداء والزيارة شاملة للسفر لأنها تستدعي الانتقال من مكان الزائر إلى مكان المزور كلفظ المجئ الذي نصت عليه الآية الكريمة وإذا كانت كل زيارة قربة كان كل سفر إليها قربة وقد صح خروجه صلى الله عليه وسلم لزيارة قبور أصحابه بالبقيع وبأحد فإذا ثبت مشروعية الانتقال لزيارة قبر غيره صلى الله عليه وسلم فقبره الشريف أولى وأحرى والقاعدة المتفق عليها أن وسيلة القربة المتوقفة عليها قربة أي من حيث إيصالها إليها فلا ينافي أنه قد ينضم إليها محرم من جهة أخرى كمشي في طريق مغصوب صريحة في أن السفر للزيارة قربة مثلها ومن زعم أن الزيارة قربة في حق القريب فقط فقد افترى على الشريعة الغراء فلا يقول عليه وأما تخيل بعض المحرومين إن منع الزيارة أو السفر إليها من باب المحافظة على التوحيد وأن ذلك مما يؤدي إلى الشرك فهو تخيل باطل لأن المؤدى إلى الشرك إنما هو اتخاذ القبور مساجد أو العكوف عليها وتصوير الصور فيها كما ورد في الأحاديث الصحيحة بخلاف الزيارة والسلام والدعاء وكل عاقل يعرف الفرق بينهما ويتحقق أن الزيارة إذا فعلت مع المحافظة على آداب الشريعة الغراء لا تؤدي إلى محذور البتة وأن القائل بالمنع منها سدا للذريعة متقول على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وهنا أمران لا بد منهما أحدهما وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ورفع رتبته عن سائر الخلق والثاني إفراد الربوبية واعتقاد أن الرب تبارك وتعالى منفرد بذاته وصفاته وأفعاله عن جميع خلقه فمن اعتقد في مخلوق مشاركة الباري سبحانه وتعالى في شئ من ذلك فقد أشرك ومن قصر بالرسول صلى الله عليه وسلم عن شئ من مرتبته فقد عصى أو كفر ومن بالغ في تعظيمه صلى الله عليه وسلم بأنواع التعظيم ولم يبلغ به ما يختص بالباري سبحانه وتعالى فقد أصاب الحق وحافظ على جانب
Página 5
الربوبية والرسالة جميعا وذلك هو القول الذي لا إفراط فيه ولا تفريط وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد لحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى فمعناه أن لا تشد الرحال إلى مسجد لأجل تعظيمه والصلاة فيه إلا إلى المساجد الثلاثة فإنها تشد الرحال إليها لتعظيمها والصلاة فيها وهذا التقدير لا بد منه ولو لم يكن التقدير هكذا لاقتضى منع شد الرحال للحج والجهاد الهجرة من دار الكفر ولطلب العلم وتجارة الدنيا وغير ذلك ولا يقول بذلك أحد قال العلامة ابن حجر في الجوهر لمنظم ومما يدل أيضا لهذا التأويل للحديث المذكور التصريح به في حديث سنده حسن وهو قوله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها إلى مسجد يبتغي الصلاة فيه غير المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى وبالجملة فالمسألة واضحة جلية قد أفردت بالتأليف فلا حاجة إلى الإطالة بأكثر من هذا فإن من نور الله بصيرته يكتفي بأقل من هذا ومن طمس الله بصيرته فما تغني عنها لآيات والنذر * وأما التوسل فقد صح صدوره من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وخلفها أما صدوره من النبي صلى الله عليه وسلم فقد صح في أحاديث كثيرة منها أنه صلى الله عليه وسلم كان من دعائه اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وهذا توسل لا شك فيه وصح في أحاديث كثيرة أنه كان يأمر أصحابه أن يدعوا به منها ما رواه ابن ماجة بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من خرج من بيته إلى الصلاة فقال اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وأسألك بحق ممشاي هذا إليك فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك فأسألك أن تعيذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك وذكر هذا الحديث الجلال السيوطي في الجامع الكبير وذكره أيضا كثير من الأئمة في كتبهم عند ذكر الدعاء المسنون عند الخروج إلى الصلاة حتى قال بعضهم ما من أحد من السلف إلا وكان يدعو بهذا الدعاء عند خروجه إلى الصلاة فانظر
Página 6
قوله بحق السائلين عليك فإن فيه التوسل بكل عبد مؤمن وروى الحديث المذكور أيضا ابن السني بإسناد صحيح عن بلال رضي الله عنه مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفظه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى الصلاة قال بسم الله آمنت بالله وتوكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق مخرجي هذا فإني لم أخرج بطرا ولا أشرا ولا رياء ولا سمعة خرجت ابتغاء مرضاتك واتقاء سخطك أسألك أن تعيذني من النار وأن تدخلني الجنة ورواه الحافظ أبو نعيم في عمل اليوم والليلة من حديث أبي سعيد بلفظ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى الصلاة قال اللهم إني أسألك بحق السائلين إلى آخر الحديث المتقدم ورواه البيهقي في كتاب الدعوات من حديث أبي سعيد أيضا ومحل الاستدلال قوله أسألك بحق السائلين عليك فعلم من هذا كله أن التوسل صدر من النبي صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه أن يقولوه ولم يزل السلف من التابعين ومن بعدهم يستعملون هذا الدعاء عند خروجهم إلى الصلاة ولم ينكر عليهم أحد في الدعاء به ومما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من التوسل أنه كان يقول في بعض أدعيته بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي قال العلامة ابن حجر في الجوهر المنظم رواه الطبراني بسند جيد ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي وهذا اللفظ قطعة من حديث طويل رواه الطبراني في الكبير والأوسط وابن حبان والحاكم وصححوه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكانت ربت النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رأسها وقال رحمك الله يا أمي بعد أمي وذكر ثناءه عليها وتكفينها ببرده وأمره بحفر قبرها قال فلما بلغوا اللحد حفره صلى الله عليه وسلم بيده وأخرج ترابه بيده فلما فرغ دخل صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيه ثم قال الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك
Página 7
أرحم الراحمين وروى ابن أبي شيبة عن جابر رضي الله عنه مثل ذلك وكذا روى مثله ابن عبد البر عن ابن عباس رضي الله عنهما ورواه أبو نعيم في الحلية عن أنس رضي الله عنه ذكر ذلك كله الحافظ جلال الدين السيوطي في الجامع الكبير ومن الأحاديث الصحيحة التي جاء التصريح فيها بالتوسل ما رواه الترمذي والنسائي والبيهقي والطبراني بإسناده صحيح عن عثمان بن حنيف وهو صحابي مشهور رضي الله عنه أن رجلا ضريرا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ادع الله أن يعافيني فقال إن شئت دعوت وإن شئت صبرت وهو خير قال فادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوء ويدعو بهذا الدعاء اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى اللهم شفعه في فعاد وقد أبصر وفي رواية قال ابن حنيف فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأن لم يكن به ضر قط ففي هذا الحديث التوسل والنداء أيضا وخرج هذا الحديث أيضا البخاري في تاريخه وابن ماجة والحاكم في المستدرك بإسناد صحيح وذكره الجلال السيوطي في الجامع الكبير والصغير وليس لمنكر التوسل أن يقول إن هذا إنما كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأن قوله ذلك غير مقبول لأن هذا الدعاء استعمله الصحابة رضي الله عنهم والتابعون أيضا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لقضاء حوائجهم فقد روى الطبراني والبيهقي أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في زمن خلافته في حاجة فكان لا يلتفت إليه ولا ينظر إليه فيه حاجته فشكى ذلك لعثمان بن حنيف الراوي للحديث المذكور فقال له ائت الميضاة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل ثم قل اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنينا محمد بنبينا محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بكل إلى ربك لتقضى حاجتي وتذكر حاجتك فانطلق الرجل فصنع ذلك ثم أتى باب عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء البواب فأخذ بيده فأدخله على عثمان رضي الله عنه فأجلسه معه وقال له اذكر حاجتك فذكر حاجته فقضاها ثم قال له ما كان لك من حاجة فاذكرها ثم خرج من عنده فلقي ابن حنيف فقال له جزاك الله خيرا ما كان ينظر لحاجتي حتى كلمة لي فقال
Página 8
ابن حنيف والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير فشكى إليه ذهاب بصره إلى آخر الحديث المتقدم فهذا توسل ونداء بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وروى البيهقي وابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن الناس أصابهم قحط في خلافة عمر رضي الله عنه فجاء بلال بن الحرث رضي الله عنه وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم هلكوا فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأخبره أنهم يسقون وليس الاستدلال بالرؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم فإن رؤياه وإن كانت حقا لا تثبت بها الأحكام لامكان اشتباه الكلام على الرائي لا لشك في الرؤيا وإنما الاستدلال بفعل الصحابي وهو بلال بن الحرث رضي الله عنه فإتيانه لقبر النبي صلى الله عليه وسلم ونداؤه له وطلبه منه أن يستسقي لامته دليل على أن ذلك جائز وهو من باب التوسل والتشفع والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم وذلك من أعظم القربات وقد توسل به صلى الله عليه وسلم أبوه آدم عليه السلام قبل وجود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حين أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها وحديث توسل آدم عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم رواه البيهقي بإسناد صحيح في كتابه المسمى دلائل النبوة الذي قال فيه الحافظ الذهبي عليك به فأته كله هدى ونور فرواه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اقترف آدم الخطيئة قال يا رب أسألك بحق محمدا لا ما غفرت لي فقال الله تعالى يا آدم كيف عرفت محمدا ولم أخلقه قال يا رب إنك لما خلقتني رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك فقال الله تعالى صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلى وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك رواه الحاكم وصححه والطبراني وزاد فيه وهو آخر الأنبياء من ذريتك وإلى هذا التوسل أشار الإمام مالك رضي الله عنه للخليفة المنصور وذلك أنه لما حج المنصور وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم سأل الإمام مالكا رضي الله عنه وهو بالمسجد النبوي فقال لمالك يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل
Página 9
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدعو فقال له الإمام مالك ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله تعالى بل استقبل واستشفع به فيشفعه الله فيك قال الله تعالى ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ذكره القاضي عياض في الشفاء وساقه بإسناد صحيح وذكره الإمام السبكي في شفاء السقام والسيد السمهودي في خلاصة الوفاء والعلامة القسطلاني في المواهب اللدنية والعلامة ابن حجر في الجوهر المنظم وذكره كثير من أرباب المناسك في آداب الزيارة قال العلامة ابن حجر في الجوهر المنظم رواية ذلك عن مالك جاءت بالسند الصحيح الذي لا مطعن فيه وقال العلامة الزرقاني في شرح المواهب ورواها ابن فهد بإسناد جيد ورواها القاضي عياض في الشفاء بإسناد صحيح رجاله ثقات ليس في إسنادها وضاع ولا كذاب ومراده بذلك الرد على من لم يصدق رواية ذلك عن الإمام مالك ونسب له كراهية استقبال القبر فنسبة الكراهة إلى لإمام مالك مردودة وقال بعض المفسرين في قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات إن من جملة تلك الكلمات توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم حين قال يا رب أسألك بحرمة محمد إلا ما غفرت لي واستسقى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زمن خلافته بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتد القحط عام الرمادة فسقوا وذلك مذكور في صحيح البخاري من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه وذلك من التوسل وفي المواهب اللدنية للعلامة القسطلاني أن عمر رضي الله عنه لما استسقى بالعباس رضي الله عنه قال يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد فاقتدوا به في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلى الله تعالى ففيه التصريح بالتوسل وبهذا يبطل قول من منع التوسل مطلقا سواء كان التوسل بالأحياء أو بالأموات وقول من منع ذلك بغير النبي صلى الله عليه وسلم ونص اللفظ الواقع من عمر رضي الله عنه حين استسقى بالعباس رضي الله عنه اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا صلى الله عليه وسلم فاسقنا والحديث
Página 10
مذكور في صحيح البخاري من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه وصدر الحديث عن أنس رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاستقنا قال فيسقون انتهى وفعل عمر رضي الله عنه حجة لقوله صلى الله عليه وسلم إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه رواه الإمام أحمد والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما ورواه الإمام أحمد أيضا وأبو داود والحاكم في المستدرك عن أبي ذر رضي الله عنه ورواه أبو يعلى والحاكم في المستدرك أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه ورواه الطبراني في الكبير عن بلال ومعاوية رضي الله عنهما وروى الطبراني في الكبير وابن عدي في الكامل عن الفضل بن العباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر معي وأنا مع عمر والحق بعدي مع عمر حيث كان وهذا مثل ما صح في حق علي رضي الله عنه حيث قال صلى الله عليه وسلم في حقه وأدر الحق معه حيث دار وهو حديث صحيح رواه كثير من أصحاب السنن فكل من عمر وعلي رضي الله عنهما يكون الحق معهما حيثما كانا وهذان الحديثان من جملة الأدلة التي استدل بها أهل السنة على صحة خلافة الخلفاء الأربعة لأن عليا رضي الله عنه كان مع الخلفاء الثلاثة قبله لم ينازعهم في الخلافة فلما جاءت الخلافة له ونازعه غيره ممن لا يستحق التقدم عليه قاتله ومن الأدلة على أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما حجة على جواز التوسل قوله صلى الله عليه وسلم لو كان بعدي نبي لكان عمر رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم في المستدرك عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه ورواه الطبراني في الكبير عن عصمة بن مالك رضي الله عنه وروى الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر فإنهما حبل الله الممدود من تمسك بهما فقد تمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها وإنما استسقى عمر رضي الله عنه بالعباس رضي الله عنه ولم يستسق بالنبي صلى الله عليه وسلم ليبين للناس جواز الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم وإن ذلك
Página 11
لا حرج فيه وأما الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم فكان معلوما عندهم فلربما أن بعض الناس يتوهم أنه لا يجوز الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم فبين لهم عمر باستسقائه بالعباس الجواز ولو استسقى بالنبي صلى الله عليه وسلم لربما يفهم منه بعض الناس أنه لا يجوز الاستسقاء بغيره صلى الله عليه وسلم وليس لقائل أن يقول إنما استسقى بالعباس لأنه حي والنبي صلى الله عليه وسلم قد مات وأن الاستسقاء بغير الحي لا يجوز لأنا نقول إن هذا الوهم باطل ومردود بأدلة كثيرة منها توسل الصحابة رضي الله عنهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كما تقدم في القصة التي رواها عثمان بن حنيف في الحاجة التي كانت للرجل عند عثمان بن عفان رضي الله عنه وكما في حديث بلال ابن الحرث رضي الله عنه وكما في توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل وجوده وحديث توسل آدم رواه عمر رضي الله عنه كما تقدم فكيف يتوهم أنه لا يعتقد صحته بعد وفاته وقد روى التوسل به قبل وجوده مع أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره فتلخص من هذا أنه يصح التوسل به صلى الله عليه وسلم قبل وجوده وفي حياته وبعد وفاته وأنه يصح أيضا التوسل بغيره من الأخيار كما فعله عمر حين استسقى بالعباس رضي الله عنهما وذلك من أنواع التوسل كما تقدم وإنما خص عمر العباس رضي الله عنهما من بين سائر الصحابة رضي الله عنهم لإظهار شرف أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولبيان أنه يجوز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل فإن عليا رضي الله عنه كان موجودا وهو أفضل من العباس رضي الله عنه قال بعض العارفين وفي توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما دون النبي صلى الله عليه وسلم نكتة أخرى أيضا زيادة على ما تقدم وهي شفقة عمر رضي الله عنه على ضعفاء المؤمنين فإنه لو استسقى بالنبي صلى الله عليه وسلم لربما استأخرت الإجابة لأنها معلقة بإرادة الله تعالى ومشيئته فلو تأخرت الإجابة ربما تقع وسوسة واضطراب لمن كان ضعيف الإيمان بسبب تأخر الإجابة بخلاف ما إذا كان التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم فإنها لو تأخرت الإجابة لا تحصل تلك الوسوسة ولا ذلك الاضطراب والحاصل أن مذهب أهل السنة والجماعة صحة
Página 12
التوسل وجوازه بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته وكذا بغيره من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين وكذا بالأولياء والصالحين كما دلت عليه الأحاديث السابقة لأنا معاشر أهل السنة لا نعتقد تأثيرا ولا خلقا ولا إيجاد أولا إعداما ولا نفعا وضرا إلا الله وحده لا شريك له ولا نعتقد تأثيرا ولا نفعا ولا ضر للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لغيره من الأحياء والأموات فلا فرق في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين وكذا بالأولياء والصالحين لا فرق بين كونهم أحياء وأمواتا لأنهم لا يخلقون شيا وليس لهم تأثير في شئ وإنما يتبرك بهم لكونهم أحباء الله تعالى وأما الخلق والإيجاد والإعدام والنفع والضر فإنه لله وحده لا شريك له وأما الذين يفرقون بين الأحياء والأموات فإنهم بذلك الفرق يتوهم منهم أنهم يعتقدون التأثير للأحياء دون الأموات ونحن نقول الله خالق كل شئ والله خلقكم وما تعملون فهؤلاء المجوزون التوسل بالأحياء دون الأموات هم المعتقدون تأثير غير الله وهم الذين دخل الشرك في توحيدهم لكونهم اعتقدوا تأثير الأحياء دون الأموات فكيف يدعون أنهم محافظون على التوحيد وينسبون غيرهم إلى الاشراك سبحانك هذا بهتان عظيم فالتوسل والتشفع والاستغاثة كلها بمعنى واحد وليس لها في قلوب المؤمنين معنى إلا التبرك بذكر أحباء الله تعالى لما ثبت أن الله يرحم العباد بسببهم سواء كانوا أحياء أو أمواتا فالمؤثر والموجد حقيقة هو الله تعالى وذكر هؤلاء الأخيار سبب عادي في ذلك التأثير وذلك مثل الكسب العادي فإنه لا تأثير له وحياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم ثابتة عند أهل السنة بأدلة كثيرة منها حديث مررت على موسى ليلة أسرى بي يصلى في قبره ومثله مررت على إبراهيم فأمرني بتبليغ أمتي السلام وإن أخبرهم أن الجنة طيبة التربة وأنها فيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ومثل حديث اجتماعهم لما صلى بهم في بيت المقدس ليلة أسري به ثم تلقوه في السماوات وحديث تردد النبي صلى الله عليه وسلم بين موسى ومقام مكالمته ربه لما فرض عليه خمسين
Página 13
صلاة فأمره موسى بالمراجعة وحديث أن الأنبياء يحجون ويلبون وكل هذه الأحاديث الصحيحة لا مطعن فيها الطاعن فلا حاجة إلى الإطالة بذكرها وأيضا فقد ثبت بنص القرآن حياة الشهداء والأنبياء أفضل من الشهداء فالحياة لهم ثابتة بالأولى ثم إن الحياة الثابتة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام وللشهداء ليست مثل الحياة الدنيوية بل هي حياة تشبه حال الملائكة ولا يعلم صفتها وحقيقتها إلا الله تعالى فيجب علينا الإيمان بثبوتها من غير بحث عن صفتها وكيفيتها وإذا كان الأمر كذلك فلا ينافي إن كلا منهم قد مات وانتقل من الحياة الدنيوية بمعنى أنه زالت عنه الحياة التي كانت في دار الدنيا وثبتت لهم حياة أخرى فلا إشكال في قوله تعالى إنه ميت وإنهم ميتون والكلام على ذلك مبسوط في المطولات فلا حاجة لنا إلى الإطالة بذكره فإن قال قائل إن شبهة هؤلاء المانعين للتوسل إنهم رأوا بعض العامة يأتون بألفاظ توهم أنهم يعتقدون التأثير لغير الله تعالى ويطلبون من الصالحين أحياء وأمواتا أشياء جرت العادة بأنها لا تطلب إلا من الله تعالى ويقولون للولي افعل لي كذا وكذا وإنهم ربما يعتقدون الولاية في أشخاص لم يتصفوا بها بل اتصفوا بالتخليط وعدم الاستقامة وينسبون لهم كرامات وخوارق عادات وأحوالا ومقامات وليسوا بأهل لها ولم يوجد فيهم شئ منها فأراد هؤلاء المانعون للتوسل أن يمنعوا العامة من تلك التوسعات دفعا للإيهام وسدا للذريعة وإن كانوا يعملون أن العامة لا يعتقدون تأثيرا ولا نفعا ولا ضر الغير الله تعالى ولا يقصدون بالتوسل إلا التبرك ولو أسندوا للأولياء شيئا لا يعتقدون فيهم تأثيرا فنقول لهم إذا كان الأمر كذلك وقصدتم سد الذريعة فما الحامل لكم على تكفير الأمة عالمهم وجاهلهم خاصهم وعامهم وما الحامل لكم على منع التوسل مطلقا بل كان ينبغي لكم أن تمنعوا العامة من الألفاظ الموهمة لتأثير غير الله تعالى وتأمروهم بسلوك الأدب في التوسل مع أن تلك الألفاظ الموهمة يمكن حملها على المجاز من غير احتياج إلى التكفير للمسلمين وذلك المجاز عقلي شائع معروف عند أهل العلم ومستعمل على ألسنة جميع والمسلمين ووارد في الكتاب
Página 14
والسنة وعليه يحمل قول القائل هذا الطعام أشبعني وهذا الماء أرواني وهذا الدواء شفاني وهذا الطبيب نفعني فكل ذلك عند أهل السنة محمول على المجاز العقلي فإن الطعام لا يشبع حقيقة والمشبع حقيقة هو الله تعالى والطعام سبب عادي فإسناد الشبع له مجاز عقلي والطعام سبب عادي لا تأثير له وهكذا بقية الأمثلة فالمسلم الموحد متى صدر منه إسناد لغير من هو له يجب حمله على المجاز العقلي والإسلام والتوحيد قرينة على ذلك المجاز كما نص على ذلك علماء المعاني في كتبهم وأجمعوا عليه وأما منع التوسل مطلقا فلا وجه له مع ثبوته في الأحاديث الصحيحة وصدوره من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وخلقها فهؤلاء المنكرون للتوسل المانعون منه منهم من يجعله محترما ومنهم من يجعله كفرا وانمرا كا وكل ذلك باطل لأنه يؤدي إلى اجتماع معظم الأمة على ضلالة ومن تتبع كلام الصحابة وعلماء الأمة سلفها وخلفها يجد التوسل صادرا منهم بل ومن كل مؤمن في أوقات كثيرة واجتماع أكثر الأمة على محرم أو كفر لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لا تجتمع أمتي على ضلالة قال بعضهم إن هذا حديث متواتر وقال تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس فكيف تجتمع كلها أو أكثرها على ضلالة وهي خير أمة أخرجت للناس فاللائق بهؤلاء المنكرين إذا أرادوا سد الذريعة ومنع الناس من الألفاظ الموهمة لتأثير غير الله تعالى أن يقولوا ينبغي أن يكون التوسل بالأدب وبالألفاظ التي ليس فيها إيهام كان يقول المتوسل اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك صلى الله عليه وسلم وبالأنبياء قبله وبعباده الصالحين أن تفعل بي كذا وكذا لا أنهم يمنعون من التوسل ولا أن يتجاسروا على تكفير المسلمين الموحدين الذين لا يعتقدون التأثير إلا لله وحده لا شريك له ومن الشبه التي تمسك بها هؤلاء المنكرون للتوسل قوله تعالى لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا فإن الله نهى المؤمنين في هذه الآية أن يخاطبوا النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ما يخاطب بعضهم بعضا كان ينادوه باسمه وقياسا على ذلك يقال لا ينبغي أن يطلب من غير الله تعالى كالأنبياء والصالحين الأشياء التي
Página 15
جرت العادة بأنها لا تطلب إلا من الله تعالى لئلا تحصل المساواة بين الله تعالى وخلقه بحسب الظاهر وإن كان الطلب من الله على أنه الموجد للشئ والمؤثر فيه ومن غيره على أنه سبب عادي لكنه ربما يوهم التأثير فالمنع من ذلك الطلب لدفع هذا الايهام والجواب أن هذا لا يقتضي المنع من التوسل مطلقا ولا يقتضي منع الطلب من موحد فإنه يحمل على المجاز العقلي إذا صدر من موحد فلا وجه لكونه شركا ولا لكونه محرما فلو قالوا إن ذلك خلاف الأدب وجازوا التوسل وشرطوا فيه أن يكون بأدب والاحتراز عن الألفاظ الموهمة لكان له وجه وأما المنع مطلقا فلا وجه له قال العلامة ابن حجر في الجوهر المنظم ولا فرق في التوسل بين أن يكون بلفظ التوسل أو التشفع أو الاستغاثة أو التوجه لأن التوجه من الجاه وهو علو المنزلة وقد يتوسل بذي الجاه إلى من هو أعلى منه جاها والاستغاثة معناها طلب الغوث والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره وإن كان أعلى منه فالتوجه والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم وبغيره ليس لهما معنى في قلوب المسلمين إلا طلب الغوث حقيقة من الله تعالى ومجازا بالتسبب العادي من غيره ولا يقصد أحد من المسلمين غير ذلك المعنى فمن لم ينشرح لذلك صدره فليبك على نفسه نسأل الله العافية فالمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى وأما النبي صلى الله عليه وسلم فهو واسطة بينه وبين المستغيث فهو سبحانه وتعالى مستغاث به حقيقة والغوث منه بالخلق والإيجاد والنبي صلى الله عليه وسلم مستغاث به مجازا والغوث منه بالكسب والتسبب العادي باعتبار توجهه وتشفعه عند الله لعلو منزلته وقدره فهو على حد قوله تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى أي وما رميت خلقا وإيجاد إذ رميت تسببا وكسبا ولن الله رمى خلقا وإيجادا وكذا قوله تعالى فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وقوله صلى الله عليه وسلم ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم وكثيرا ما تجئ السنة لبيان الحقيقة ويجئ القرآن الكريم بإضافة الفعل لمكتسبه ويسند إليه مجازا كقوله تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وقوله صلى الله عليه وسلم لن يدخل أحدكم الجنة بعمله فالآية بيان المسبب العادي والحديث لبيان سبب فعل
Página 16
الفاعل الحقيقي وهو فضل الله تعالى وبالجملة فإطلاق لفظ الاستغاثة لمن يحصل منه غوث باعتبار الكسب أمر معلوم لا شك فيه لغة ولا شرعا فإذا قلت أغثني يا الله تريد الإسناد الحقيقي باعتبار الخلق والإيجاد وإذا قلت أغثني يا رسول الله تريد الإسناد المجازي باعتبار التسبب والكسب والتوسط بالشفاعة ولو تتبعت كلام الأئمة وسلف الأمة وخلفها لوجدت شيئا كثيرا من ذلك بل في الأحاديث الصحيحة كثير من ذلك ومنه ما في صحيح البخاري في مبحث الحشر ووقوف الناس للحساب يوم القيامة بينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فتأمل تعبيره صلى الله عليه وسلم بقوله استغاثوا بآدم فإن الاستغاثة به مجازية والمستغاث به حقيقة هو الله تعالى وصح عنه صلى الله عليه وسلم لمن أراد عونا أن يقول يا عباد الله أعينوني وفي رواية أغيثوني وجاء في حديث قصة قارون لما خسف به أنه استغاث بموسى عليه السلام فلم يغثه بل صار يقول يا أرض خذيه فعاتب الله موسى حيث لم يغثه وقال له استغاث بك فلم تغثه ولو استغاث بي لأغثته فإسناد الإغاثة إلى الله تعالى إسناد حقيقي وإسنادها إلى موسى مجازي وقد يكون معنى التوسل به صلى الله عليه وسلم طلب الدعاء منه إذ هو صلى الله عليه وسلم حي في قبره يعلم سؤال من يسأله وقد تقدم حديث بلال بن الحرث رضي الله عنه المذكور فيه أنه جاء إلى قبره صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله استسق لأمتك أي ادع الله لهم فعلم منه أنه صلى الله عليه وسلم يطلب منه الدعاء بحصول الحاجات كما كان يطلب منه في حياته لعلمه بسؤال من يسأله مع قدرته على التسبب في حصول ما سئل فيه بسؤاله ودعائه وشفاعته إلى ربه عز وجل وأنه صلى الله عليه وسلم يتوسل به في كل خير قبل بروزه لهذا العالم وبعده في حياته وبعد وفاته وكذا في عرصات القيامة فيشفع إلى ربه وكل هذا مما تواترت به الأخبار وقام به الاجماع قبل ظهور المانعين منه فهو صلى الله عليه وسلم له الجاه الوسيع والقدر المنيع عند سيد: ومولاه المنعم عليه بما حباه وأولاه وأما تخيل المانعين المحرومين من بركاته إن منع التوسل والزيارة
Página 17
من المحافظة على التوحيد وإن التوسل والزيارة مما يؤدي إلى الشرك فهو تخيل فاسد باطل فالتوسل والزيارة إذا فعل كل منهما مع المحافظة على آداب الشريعة الغراء لا يؤدي إلى محذور البتة والقائل يمنع ذلك سدا للذريعة متقول على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وكان هؤلاء المانعين للتوسل والزيارة يعتقدون أنه لا يجوز تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم فحيثما صدر من أحد تعظيم له صلى الله عليه وسلم حكموا على فاعله بالكفر والإشراك وليس الأمر كما يقولون فإن الله تعالى عظم النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم بأعلى أنواع التعظيم فيجب علينا أن نعظم من عظمه الله تعالى وأمر بتعظيمه نعم يجب علينا أن لا نصفه بشئ من صفات الربوبية ورحم الله البوصيري حيث قال دع ما ادعته النصارى في نبيهم * واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم فليس في تعظيمه بغير صفات الربوبية شئ من الكفر والإشراك بل ذلك من أعظم الطاعات والقربات وهكذا كل من عظمهم الله تعالى كالأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين وكالملائكة والصديقين والشهداء والصالحين قال تعالى ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب وقال تعالى ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه ومن تعظيمه صلى الله عليه وسلم الفرح بليلة ولادته وقراءة المولد والقيام عند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم وإطعام الطعام وغير ذلك مما يعتاد الناس فعله من أنواع البر فإن ذلك كله من تعظيمه صلى الله عليه وسلم وقد أفردت مسألة المولد وما يتعلق بها بالتأليف واعتنى بذلك كثير من العلماء فألفوا في ذلك مصنفات مشحونة بالأدلة والبراهين فلا حاجة لنا إلى الإطالة بذلك ومما أمر الله بتعظيمه الكعبة المعظمة والحجر الأسود ومقام إبراهيم عليه السلام فإنها أحجار وأمرنا الله بتعظيمها بالطواف بالبيت ومس الركن اليماني وتقبيل الحجر الأسود وبالصلاة خلف المقام وبالوقوف للدعاء عند المستجار وباب الكعبة والملتزم والميزاب كما جرى على ذلك السلف والخلف وكلهم في ذلك لا يعبدون إلا الله ولا يعتقدون تأثيرا لغيره ولا نفعا ولا ضرا لأن ذلك لا يكون إلا لله وحده ولا
Página 18
يكون لأحد سواه والحاصل كما تقدم إن هنا أمرين أحدهما وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ورفع رتبته عن سائر المخلوقات والثاني افراد الربوبية واعتقاد أن الرب تبارك وتعالى منفرد بذاته وصفاته وأفعاله عن جميع خلقه فمن اعتقد في مخلوق مشاركة الباري سبحانه وتعالى في شئ من ذلك فقد أشرك كالمشركين الذين كانوا يعتقدون الألوهية للأصنام واستحقاقاتها للعبادة ومن قصر بالرسول صلى الله عليه وسلم في شئ عن مرتبته فقد عصى أو كفر أما من بالغ في تعظيمه بأنواع التعظيم ولم يصفه بشئ من صفات الربوبية فقد أصاب الحق وحافظ على جانب الربوبية والرسالة جميعا وذلك هو القول الذي لا إفراط فيه ولا تفريط وإذا وجد في كلام المؤمنين إسناد شئ لغير الله تعالى يجب حمله على المجاز العقلي ولا سبيل إلى تكفير أحد من المؤمنين إذ المجاز العقلي مستعمل في الكتاب والسنة فمن ذلك قوله تعالى وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا فإسناد الزيادة إلى الآيات مجاز عقلي وهي سبب عادي للزيادة والذي يزيد في الإيمان حقيقة هو الله تعالى وحده لا شريك له وقوله تعالى يوما يجعل الولدان شيبا فإسناد الجعل إلى اليوم مجاز عقلي لأن اليوم محل لجعلهم شيبا فالجعل المذكور واقع في اليوم والجاعل حقيقة هو الله تعالى وحده وقوله تعالى ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا فإسناد الاضلال إلى الأصنام مجاز عقلي لأنها سبب في حصول الاضلال والهادي والمضل حقيقة هو الله تعالى وحده لا شريك له وقوله تعالى حكاية عن فرعون يا هامان ابن لي صرحا فإسناد البناء إلى هامان مجاز عقلي لأنه سبب آمر فهو يأمر بذلك ولا يبني بنفسه والذي يبني إنما هم الفعلة وأما الأحاديث النبوية ففيها من المجاز العقلي شئ كثير يعرف ذلك من وقف عليه من ذلك الحديث المتقدم بينما هم كذلك استغاثوا بآدم فإغاثة آدم عليه السلام مجازية والمغيث حقيقة هو الله تعالى وأما كلام العرب ففيه من المجاز العقلي ما لا يحصى كقولهم نبت الربيع البقل فجعلوا الربيع وهو المطر منبتا والمنبت حقيقة هو الله تعالى فإسناد الانبات إلى الربيع مجاز عقلي فإذا قال العامي من المسلمين نفعني النبي صلى الله عليه وسلم أو أغاثني أو نحو ذلك فإنما يريد الإسناد
Página 19
المجازي والقرينة على ذلك أنه مسلم موحد لا يعتقد التأثير إلا لله فجعلهم ذلك وأمثاله من الشرك جهل محض وتلبيس على عوام الموحدين وقد اتفق العلماء على أنه إذا صدر مثل هذا الإسناد من موحد فإنه يحمل على المجاز والتوحيد يكفي قرينة لذلك لأن الاعتقاد الصحيح هو اعتقاد أهل السنة والجماعة واعتقادهم أن الخالق للعباد وأفعالهم هو الله تعالى لا تأثير لأحد سواه لا لحي ولا لميت فهذا الاعتقاد هو التوحيد المحض بخلاف من اعتقد غير هذا فإنه يقع في الاشراك وأما الفرق بين الحي والميت كما يفهم من كلام هؤلاء المانعين للتوسل فإن كلامهم يفيد أنهم يعتقدون أن الحي يقدر على بعض الأشياء دون الميت فكأنهم يعتقدون أن العبد يخلق أفعال نفسه فهو مذهب باطل والدليل على أن هذا هو اعتقادهم أنهم يقولون إذا نودي الحي وطلب منه ما يقدر عليه فلا ضرر في ذلك وأما الميت فإنه لا يقدر على شئ أصلا وأما أهل السنة فإنهم يقولون الحي لا يقدر على شئ كما أن الميت كذلك لا يقدر والقادر حقيقة هو الله تعالى والعبد ليس له إلا الكسب الظاهري باعتبار الحي والكسب الباطني باعتبار التبرك بذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأخيار وتشفعهم في ذلك والخالق للعباد وأفعالهم هو الله وحده لا شريك له وقد تقدم كثير من الدلائل الدالة على صحة التوسل ولا بأس بإلحاق أدلة تدل على ذلك زيادة على ما تقدم ذكر العلامة السيد السمهودي في خلاصة الوفاء إن من الأدلة الدالة على صحة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ما رواه الدارمي في صحيحه عن أبي الجوزاء قال قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلى عائشة رضي الله عنها فقالت انظروا إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق قال العلامة المراغي وفتح الكوة عند الجدب سنة أهل المدينة يفتحون كوة في أسفل قبة الحجرة المطهرة وإن كان السقف حائلا بين القبر الشريف والسماء قال السيد السمهودي بعد كلام المراغي وسنتهم اليوم فتح الباب المواجه للوجه الشريف ويجتمعون هناك وليس القصد
Página 20
إلا التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والاستشفاع به إلى ربه لرفعة قدره عند الله وقال أيضا في خلاصة الوفاء أن التوسل والتشفع به صلى الله عليه وسلم وبجاهه وبركته من سنن المرسلين وسيرة السلف الصالحين ا ه وذكر كثير من علماء المذاهب الأربعة في كتب المناسك عند ذكرهم زيارة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسن للزائر أن يستقبل القبر الشريف ويتوسل به إلى الله تعالى في غفران ذنوبه وقضاء حاجاته ويستشفع به صلى الله عليه وسلم قالوا من أحسن ما يقول ما جاء عن العتبى وهو مروي أيضا عن سفيان بن عيينة وكل منهما من مشايخ الإمام الشافعي قال العتبى كنت جالسا عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول وفي رواية يا خير الرسل إن الله أنزل عليك كتابا صادقا قال فيه ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي وفي رواية وإني جئتك مستغفرا ربك عز وجل من ذنوبي ثم بكى وأنشأ يقول يا خير من دفنت بالقاع أعظمه * فطاب من طيبهن القاع والاكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه * فيه العفاف وفيه الجود والكرم قال العتبى ثم استغفر الأعرابي وانصرف فغلبتني عيناي فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال يا عتبى الحق الأعرابي فبشره إن الله غفر له فخرجت خلفه فلم أجده وليس محل الاستدلال الرؤيا فإنها لا تثبت بها الأحكام لاحتمال حصول الاشتباه على الرائي كما تقدم ذلك وإنما محل الاستدلال كون العلماء استحسنوا الإتيان بما تقدم ذكره وذكروا في مناسكهم استحباب الإتيان به للزائر وليس في قولهم وفي رواية كذا وفي رواية كذا منافاة لاحتمال أن الراوي حكى ذلك بالمعنى فمرة عبر بقوله يا خير الرسل ومرة عبر بقوله يا رسول الله وعلى ذلك يحمل أمثال هذا وقال العلامة ابن حجر في الجوهر المنظم وروى بعض الحفاظ عن أبي سعيد السمعاني أنه روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه إنهم بعد دفنه صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام جاءهم أعرابي فرمى بنفسه على القبر الشريف على
Página 21