عنه وأرضاه، وكان قد رزقه الله معرفة بكتابه، وسنة نبيه ﷺ، مع اطلاعه على مسالك الرأي، وطرقه، متمرِّسًا بالبيان وفنونه، مع عقل ثاقب، ورأي صائب، وحجة بالغة، ومكانة عالية، فنظر إلى ذلك الخلاف المحتدم، ورأى اقتصار أهل الحديث عليه دون سواه من جدال ونظر، كما رأى غلوَّ أهل الرأي، وتوسعهم في فن الاستنباط والنظر، فوضع كتابه المسمى بـ "الرسالة" جامعًا فيه بين الحديث والرأي، مبيّنًا الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيَّد، والمجمل والمبين، والعام الذي أُريد به الخاص، والظاهر الذي أُريد به غير ظاهره وتكلم فيه على حُجِّية أخبار الآحاد، وتقديمها على القياس، ومنزلة السنة ومكانتها، وتكلم على القياس، والإجماع، والاجتهاد، وشروط المفتي في دين الله تعالى، إلى غير ذلك من المباحث الأصولية التي حررها، ودونها. فكانت هذه الرسالة بمثابة القانون القويم الذي يعوَّل عليه، ويحتكم إليه، مع خلوها من علم المنطق الذي أُحدِث بعد ذلك.
وبذلك خف أثر النزاع بعد أن علم كلا الفريقين القواعد التي يجب عليهم أن يلتزموها، ويسيروا على نهجها، وصاروا على بينة مما يدافعون به عن مذاهبهم، وآرائهم.
ثم جاء العلماء من بعده، فواصلوا البحث، ونظموا الأصول، ورتبوها، غير أنه أُدخل فيها علم المنطق والجدل نتيجة لحركة الترجمة النشطة؛ حيث ترجمت علوم اليونان في العهد العباسي الأول إلى اللغة العربية.
1 / 10