وهذا ناموس عام ينطبق على الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وعلم الاجتماع. وبما أن نمو المجتمع تابع لأسباب عمومية، لا سلطة للإرادة البشرية عليها، فسيادة الشعب مربوطة بالجهل، لا يمكنها أن تهتدي الطريق أو تعرف الوسائل التي ينمو بها المجتمع، وجل ما تستطيع هو أن تقر وتثبت هذه الوسائل، وعليه فليسن المندوبون عن الشعب ما شاءوا من الأحكام والشرائع والقوانين؛ فالعبرة في جعلها ذات فعل نافذ. وقد عمل سبنسر إحصاء للقوانين التي صدرت في إنكلترا ولم تنفذ، فإذا بها فوق ما يتصوره العقل.
من أين إذن هذه الثقة العمياء بما يمكن للبرلمان أن يجريه من إصلاح؟ وعلام هذا الإيمان بالحكومة الذي يشبه ايمان المتوحش بالصنم؟ يعزو سبنسر ذلك إلى انتشار التعليم. ومن العقائد الراسخة في الأذهان أن التعليم يهذب الشعب وينيره، وهذا وهم؛ لأنه لا يوجد صلة بين قضية هندسية وأدب النفس. ولا يكفي تعليم الأولاد ما هو الخير ولماذا يسمى خيرا ليصنعوا الخير عندما يكبرون؛ فانتشار التعليم غير كاف ليجعل الشعب قابلا للحكم الحر، ولا بد من الأخلاق، بل قد يساعد التعليم الناقص على نشر أخطاء كثيرة.
وإذا كان المثقفون لا يقبلون بمطالعة ما يخالف طريقة تفكيرهم وشعورهم، فما قولك بالشعب إذا كان لا يتذوق إلا ما يوافق هوى في نفسه! وأبلغ دليل على نتائج هذا التعليم هو هذه النشرات التي تغذي الأوهام؛ لأن الجريدة تسعى قبل كل شيء إلى إرضاء مشتركيها، فتقوي فيهم بهذه الطريقة أميالا شتى يصعب تحقيقها، وتجعلهم يظنون أن الحكومة قادرة على معالجة كل الشئون، ومن واجبها التدخل في كل كبيرة وصغيرة، وتردد على مسامعهم في كل سانحة إمكان تبديل النظام الحالي. وبما أنهم هم الذين سينتخبون، فمن مصلحتها تقوية هذه العقيدة في رءوسهم، وهكذا يصبح الشعب الذي هو صاحب السيادة ألعوبة في يد رجال السياسة.
ثم يحمل سبنسر على النواب حملة شعواء، متهما إياهم بالجهل والوعود الكاذبة والأثرة وتضحية مصالح البلاد في سبيل مصلحتهم الخاصة.
لقد كان لما كتبه «سبنسر»، وخصوصا في كتابه «الفرد ضد الدولة»، صدى بعيد حتى قيل عنه: إنه فوضوي. وما لا ريب فيه أن هذا الكتاب الصغير قد ساعد كثيرا في بث الدعوة إلى الفوضوية، ولا سيما في الولايات المتحدة، بتشويههم كلامه وتفسيره تفسيرا يوافق مصلحتهم. وسبنسر نفسه يقول: بين ويلين هما: استبداد الاشتراكية وحرية الفوضى أفضل الفوضى مع كل ما فيها من شقاء. ولكنه ليس فوضويا بكل معنى الكلمة؛ لأن الفوضويين يطالبون بإبطال كل وظائف الدولة، بينما هو يريد إبطال البعض ودعم البعض الآخر ؛ فيطلب من الحكومة عدم التدخل في شئون الدين والتربية والأعمال الخيرية؛ لتكتفي بالمحافظة على النظام.
هناك في نظره مبدأ عام يسيطر على علم السياسة، وهو التعارض بين أدب الأسرة وأدب الدولة. أدب الأسرة يقضي بالعناية الفائقة للولد الضعيف الهزيل، المحروم من نعم الحياة، والاشتراكية تريد إدخال هذا الأدب في الحكومة؛ لتساعد أصحاب العاهات والعيوب وضروب النقص. وهذا ما جعلهم يتهمون سبنسر بقساوة القلب، مع أنه يطلب أن تقوم جمعيات خاصة بعمل الخير، لا أن تتلهى به الحكومات فتصل إلى تقهقر النسل بدلا من تحسينه. هو يريد أن يتحمل كل إنسان مسئوليته، فلا يتكل على غيره في ضعفه وكسله وجهله، فلا يبقى في ميدان الجهاد وتنازع البقاء إلا الأنسب، وليس الأنسب هو القوي، بل الأكثر أهلية واستعدادا.
الأرض المجهولة
اسمح لي، أيها القارئ الكريم، أن أسير بك الآن نحو بقعة من الأرض لا تجدها على المصور الجغرافي، وفيها من المفاجآت والعجائب والأسرار ما لا تقع عليه العين في أية ناحية من البسيطة.
هذه البقعة ليست ملكا لأحد دون سواه، ولا سبيل لدولة من الدول أن تستأثر بها فتركز علمها عليها. والثلوج الخالدة والشمس المحرقة أبعد من أن تمنع الزائر من الوصول إليها.
قد عرفت ولا ريب ماذا أريد بهذا القول؛ فهذه الأرض المجهولة هي الطبيعة البشرية، هي أنت وأنا، هي كل ما أقلته الأرض وأظلته السماء ممن ينتسب إلى الأسرة الإنسانية. ولا تحمل كلامي على المزاح أو تظن فيه مبالغة ما؛ فهي الحقيقة تبدو لك، إذا ما تمعنت، في أجلى مظاهرها.
Página desconocida