حنظل والعسكري
هذه الأقدام الثقيلة تبعث وقعا له في صدره صدى مخيف، والنحنحة الصادرة عن صاحبها نذير بالمتاعب والآلام، إنه الشاويش قادم في ظلمة الليل. تمنى أن يفر من وجهه لكنه لم يستطع، وبكل مشقة قام وهو يلقي بثقله على الجدار في أول المنعطف، وكان يترنح، وحاله تنذر بالانهيار في أية لحظة. وفتح عينيه بجهد صوب القادم كالقدر، حاول كثيرا أن يتحرك فتبددت محاولاته في الظلام، كما بعثرت ذكرياته، ولاح على شعاع الفانوس وجهه الكالح المغبر الفظ كالنائم، ولم يكن على جسده إلا بقايا جلباب ممزقة، وباطنه المجنون يحترق رغبة في الحقنة المحرمة. - حنظل .. تعال!
آه .. هذا النداء المشئوم تعقبه الصفعات واللكمات. وبصوت يائس مكروب توسل قائلا: رحمة الله يا حضرة الشاويش!
وقف أمامه حاجبا عنه شعاع الفانوس، شابكا بندقيته بكتفه، فاشتد التصاق حنظل بجدار عطفة شنافيري. كان يعاني الخوف ويدافع الغيبوبة ويعلن المسكنة، ولكن ما بال الشاويش لم يهدر ولم يلعن ولم يصفع؟! - أخذت الحقنة؟ - لا، وربك. - لكنك نائم أو كالنائم! - لأني لم آخذها! - تعال معي، المأمور يطلبك!
فتنهد من صدر مجنون جائع، وهتف: أنا في عرضك!
فوضع على منكبه يدا آدمية، لا حديدية ولا عسكرية، فتعجب حنظل دون أن ينبس، فقال الشاويش: تعال ولا تخف! - لم أفعل شيئا!
مضى به برفق وهو يهمس له: ستجد أن كل شيء طيب، لا تخف!
وقف في حجرة المأمور على مبعدة متر من بابها الذي أغلق وراءه، لا يتقدم خطوة، ولا يرفع عينيه إلى النظرة التي تستقر عليه من وجه محنك، والضوء الساطع مسلط على جسده الطيني الذي لا يكاد يستره شيء، وقد بدا بين الجدران البيضاء الملساء والأثاث الوقور شيئا متخلفا عن الزمن. توقع حنظل صاعقة، ولكن جاءه صوت المأمور في نبرة آدمية غير منتظرة ككل شيء في تلك الليلة: اجلس يا حنظل، مساء الخير!
يا رب السموات! ماذا جرى للدنيا؟! - أستغفر الله يا حضرة المأمور، أنا خادمك!
ولكنه حدجه بنظرة تأنيب وهو يشير بإصبع آمر إلى مقعد جلدي، فتردد كثيرا، ثم لم ير بدا من الإذعان، فجلس على طرف المقعد وهو ينظر إلى قدميه الترابيتين، في ضخامة قدمي تمثال، المطمورتين تحت طبقات من القشرة الأرضية. ورغم ذلك لم يصدق شيئا، فقال في ذل: يا حضرة المأمور، أنا رجل مسكين، كثير الخطايا، ولكن بؤسي أفظع من خطاياي، والرحمة عند الله مفضلة على العدل.
Página desconocida