فارتسمت الدهشة في وجه الشاب، حتى قال علي الكفراوي مدير الدفترخانة: لا تدهش، كان قوة نشاط عجيبة، لكنه لم يرتفع بفضل شهاداته، بل إنه لم يحصل عليها إلا حين وجد نفسه في مركز لا يليق أن يستمر فيه دون شهادة عالية، كان قذرا بكل معنى الكلمة، ولكنه في القدرة على العمل فاق إبليس نفسه!
فعاد محمد الفل يقول، وهو يكور راحته على السبحة: العمل؟! ذكرتني يا سي علي، كانت حياته عملا خالصا، عمل .. عمل .. عمل، أيمكن أن يعد ذلك فضيلة؟! ما قيمة العمل إذا لم يختم يوم الإنسان بساعة صفاء ومحبة تجعل للحياة طعما؟ هه؟ أما مديرنا العام - السابق والحمد لله - فلم يتمتع بحياة على الإطلاق، دوسيهات .. ملفات .. مذكرات .. تلك كانت حياته، حتى يوم الجمعة كان يواصل العمل في بيته، وكان يعمل كل يوم حتى ساعة متأخرة من الليل، وحتى في الأعياد والمواسم الرسمية، ولم يقم في إجازة اعتيادية في حياته كلها مرة واحدة، عمل .. عمل .. عمل، وكان هدفه من العمل خدمة وكيل الوزارة أو الوزير؛ ليتقاضى في النهاية علاوة أو درجة، حياة كاملة مضت على وتيرة واحدة بين مسكنه في الحدائق وميدان لاظوغلي .. أعوذ بالله!
فقال عبد السلام زهدي وكيل الوارد ووجهه يتقلص اشمئزازا: حتى الطعام كان يتناوله شطائر في مكتبه بسرعة ولهوجة، وانقطعت أسبابه بأسرته أو كادت، حتى بناته المتزوجات لا يراهن إلا خطفا، وامرأته قضت حياتها في شبه فراغ مخيف، إنه مجرم ولكنه قضى على نفسه بالعقوبة التي يستحقها، ذلك الرجل البغيض الذي لم يعرف من الدنيا إلا الملفات والمذكرات والتعاليم المالية.
وهز رغيب إسكندر رأسه في أسى وقال: لكنه لم يكن عدو نفسه فقط، كان أيضا عدو الآخرين.
وسرعان ما سال الامتعاض من زوايا الأعين، وقال محمد الفل بنبرة مغيظة محنقة: لم أر موظفا كذلك، الرجل استغل جهود جميع مرءوسيه ليفيد هو منها وحده، ويمنع الخير عن الآخرين، كما لو كان سيؤخذ من لحمه ودمه!
فأردف عبد السلام زهدي قائلا: وحتى هذا شر سلبي، أما مقالبه وغدره ونميمته ووقيعته؛ كل أولئك فشر إجرامي، كم أحرق قلوبا هذا الرجل! - قل كم خرب بيوتا! - الله يرحمه فريد قناوي مات، وهو يدعو عليه على فراش موته! - وحسني غنيم مدير الحسابات السابق شل بسببه!
فقال يسرى طاهر كاتب القيودات: لا حصر لضحاياه، لكنه لم يفكر إلا في شيء واحد هو مصلحته، وترك الوزارة بلا صديق، أؤكد لكم أنه لا صديق له في الدنيا.
وحوالي الساعة السادسة من مساء الخميس، وقف تاكسي أمام نادي «فينكس»، فنزل منه حسين الضاوي. جاء ليشهد الحفل الذي يقام لتكريمه فوق حديقة السطح لمناسبة إحالته على المعاش.
كان قضى في المعاش يوما واحدا، يوم الأربعاء، يوم لن ينسى في الأيام. أقل ما يقال فيه إنه جعله يتساءل فيما يشبه الرعب: هل حقا يستطيع أن يتحمل يوما آخر كذلك اليوم؟! وحيرته في مسكنه صباحا تحت أعين امرأته المشفقة هم آخر لا ينسى. والراديو تسلية لم تخلق له، لا يكاد يعرفه، ولم يجد الفرصة ليتعرف به. والكون كله بدا أنه كف عن الحركة. وارتدى بدلته التي لم يعد لها معنى كأنها بدلة عسكرية لضابط متقاعد، وغادر البيت غارقا في الكرب، ومشى حتى أدركه الإعياء سريعا، فاستقل عربة إلى وسط المدينة. أزعجه الازدحام كأنما سد مسالك تنفسه. وتريث قليلا أمام معارض المحال التجارية، ولكن عينيه لم ترغبا في رؤية شيء ولم يكترثا لشيء، وخشي أن تقع عليه في تخبطه عين أحد من معارفه، أي من الأعداء، فلاذ بأول مقهى صادفه، ومضى إلى آخر ركن فيه. لم يكن ارتاد مقهى منذ أربعين عاما، مذ كان يجالس يسري طاهر وعلي الكفراوي ورغيب إسكندر وعبد السلام زهدي في مقهى المالية في الزمان الأول. وقال لنفسه إنه يأوي أخيرا إلى ملجأ الكسالى والعجزة، فعصرته حسرة.
وتصفح جريدة، ولكن ماذا يقرأ؟ لم يهمه في الجريدة فيما مضى إلا أخبار الوفيات والدواوين. وسرعان ما تململ في مجلسه فكرهه وكره من فيه، وطوقته الوحدة كالقبر، وشعر في انفصاله عن الوزير والوكيل والمذكرات بضياع أبدي. غادرة القهوة ليسير بلا هدف على ما في ذلك من جهد لم يعتده، ووجد نفسه يمر بسينما فدخل. والسينما كذلك مكان لم يطرقه طوال الأربعين عاما إلا مرات معدودات في مناسبات الاحتفالات التقليدية بخطبة بناته، ولم يلبث فيها إلا نصف ساعة، ثم غادرها وهو يزفر مللا ويأسا، وعاد إلى البيت ذليلا. وجد ابنتيه المقيمتين في القاهرة في زيارته، فجالسهما طويلا لأول مرة منذ عهد لا يذكره، واستقر بنفسه أول إحساس بالارتياح في يومه الجهنمي. ثم وجد نفسه منفردا بزوجته في جلسة مرهقة، والراديو يواصل ضجيجه لا يهمه منه شيء ولا يهزه شيء. وساءل نفسه: ألا يعد امرأته في معسكر أعدائه المزدحم؟ هي لم ترض يوما عن أسلوب حياته، واحتجت المرة بعد المرة على إهمالها وفراغها وجفاف حياتها، ولولا أن وجدت ملاذا في بيتي ابنتيها لحطمت حياتها بيديها. ترى هل ارتاحت إلى هذه النهاية الخانقة؟! .. هل تحلم بشيء من الأنس تجده في وحشته المنكسرة؟! وحين استلقى في فراشه تساءل في رعب: كيف يتحمل يوما آخر كهذا اليوم؟!
Página desconocida