جعلت تفيدة تفكر في مقاطعة ست حميدة، وما ذكر الحاج عن أتعاب الطبيب. أما عبد العظيم فاستغرقه التفكير في الحال التي سقطت بها العمة نظيرة. ما أشبهها بموت أبيه، وموت جده من قبل! ولعل حينه إذا حان أن يجيء على نفس الحال. يا لها من ميتة سريعة لا يدري أحد عنها شيئا! وثبت عينيه على الوجه الشاحب ذي الفم المنحرف، وتساءل: ترى هل تتألم الآن؟ هل تود الاستغاثة فلا تستطيع، أو أنها غائبة عن الوجود كله؟ .. وهي امرأة في الثمانين، كذلك مضى جده في نفس السن، أما أبوه فمات في الستين دون زيادة، وعلى ذلك؛ فلا قاعدة هنالك يركن إليها، والأمر لا يعدو أن يكون طيشا وعبثا. وتمتمت تفيدة: يمكن ربنا يأخذ بيدها!
فرفع الحاج مصطفى حاجبيه الكثيفين بشكل غير عادي، وقال: ربنا قادر على كل شيء.
لكن نظرة عينيه أكدت ما ينقض قوله من أساسه. ولاذوا بالصمت مليا. وكاد الصمت يستقر بالحجرة كلها، لولا كلمات ندت عن امرأة أو أخرى بقصد المجاملة والمداهنة، وجميعها توجه نحو الراقدة، مثل: «الله يأخذ بيدها» و«كانت طيبة وأميرة» و«وجودها بيننا خير وبركة». فابتسم باطن عبد العظيم لسابق علمه ما بين عمته وبينهن من مشاحنات ونقار دائم. وكان الحاج مصطفى أعلم بذلك، غير أنه كان أجرأ من قريبه، فتساءل فجأة بصوت مرتفع: اليوم الثالث من الشهر، فهل حصلت ست نظيرة إيجار الشقق؟
وقلب عينيه في الوجوه الواجمة، حتى ارتفع صوت قائلا: أنا أعطيتها الأجرة، والله شهيد!
وإذا بسيل من التوكيدات ينهمر. كل واحدة أكدت أنها دفعت الإيجار، مستشهدة بزميلة أخرى، أو بمناسبة لم يشهدها أحد، فقال عبد العظيم: طبعا معكن الإيصالات!
فقالت امرأة: نحن تتعامل معها بلا عقود ولا إيصالات، ولكن ليس في ذمتنا مليم واحد.
وقالت أخرى: ومعلوم أيضا أنها لم تكن لتسكت عن متأخرة في الدفع!
فقال الحاج مصطفى منذرا: سأدعو على الكاذبة!
فقال أكثر من صوت: ادع، وبيننا وبينك ربنا.
وكان الشك قويا، ولكن لم يكن لدى أحد حيلة، فرفع الحاج مصطفى يديه ناظرا إلى فوق وقال: أنت أعلم بكل شيء، حسبنا الله ونعم الوكيل!
Página desconocida