فوثبت الفتاة من مجلسها، ووقفت منتصبة أحد مرفقيها يلامس صفة الموقد، وشعاع النار يفيض على شخصها، ويغمره من خصرها النحيل إلى ذيلها، وصاحت: «ملاهي ومطارب! أي ملهاة تريد المرأة إذا كانت تحب الرجل الذي تعاشره وتعايشه؟ الرجل نفسه لذتها، وملهاتها، ومطربتها! فحسبها انتظاره غائبا، وتمريضه عليلا، ومراقبته والنظر إليه منشغلا بواجباته وأعماله، أي لذة وملهاة تبتغي بعد ذلك؟»
فيرنو «إصطفيان» إلى ذلك القوام اللين الناعم، ويصغي إلى تلك الكلمات التي كان يود لو تكون صادرة عن عقيدة راسخة. ولكن ريبته بالنساء عامة، حملته على الظن بأن الفتاة توارب، وتداهن جريا على عادة النساء من الشغف بإرسال الكلام الطنان المزخرف تأثيرا في نفس المخاطب. وكان رأيه في النساء أنهن جميعا كاذبات منافقات، وغادرات خائنات، متجرات في سوق الحياة بمحاسنهن، يبعن فيها ويشترين كأي سلعة، ولكنه مع كل ذلك كان يشعر في أعماق قلبه - وكان له قلب وإن كان قد انكمش، وضمر وتقبض من قلة الاستعمال - بشره شديد ونهم حاد إلى فتاة تحبه لذاته، وإن فرط حدة هذا النهم قللت نفاذ بصيرته، وأعمته عن غرائز الفتاة وطباعها.
فضحك ضحكة خفيفة ثم قال: «إنك لتنظرين إلى هذا الأمر الخطير نظرة خيالية روائية؟» - «ماذا تريد بذلك؟» - «أنت تحسبين أن الزوجة تمحض زوجها الحب والمودة، وتلازمه في الشدة والبلاء، فيقتحمان الأهوال والأخطار جنبا إلى جنب ... إلى غير ذلك.» وهنا يتثاءب ثم يقول: «ولكني رأيت الحب يذهب بذهاب المال، والحب لا يكون حيث الفقر والفاقة.»
قالت الفتاة ولم تشأ أن تفند رأيه، وتنقض مذهبه خشية أن يعود إلى اتهامها بالآراء الخيالية الروائية: «ولكن ثلاثمائة جنيه في العام لا تعد فاقة وفقرا.» - «حقا، إنها لتكفي ما دام هنالك اثنان فقط، ولكن متى جاء الأطفال كثرت المطالب وازدادت الحاجات.» - «أترى كثرة الأولاد من ضروريات الحياة؟» - «كلا! لا أرى ذلك البتة.» - «ألا ترى أن أجل نعم الزواج هي قلة الذرية؟» - «بلا شك.» وهنا ينهض من مجلسه، ويدخل يديه في جيبيه: «هي أكبر مناعم الحياة الزوجية بلا ريب.»
يعقب ذلك سكوت، ويلبث الفتى أثناءه قلقا مترددا دقيقة أو اثنتين، ثم يضحك ضحكة مرة قاسية، ويقول: «لو رزقت الأولاد لكرهتها، وأي شيء أسوأ من أن يدخل المرء داره فيفاجئه الأطفال بالصراخ والعويل؟»
لم تجب الفتاة على ذلك، وأطرق الفتى مليا ثم ألان لهجته وقال: «ولا تنسي أن حب الزوجة لبعلها لا يلبث أن يتحول إلى أولادها. أجل، إن الحياة أهنأ بغير الأولاد والعيش أرغد.»
وأعقب ذلك فترة سكون أحس كل منهما في خلالها بشيء من الراحة، والطمأنينة لاتفاقهما أخيرا في تلك النقطة.
ثم تحفز الفتى للذهاب، وقال: «سأذهب الآن لأني أخشى أن يفوتني موعد الغداء.»
هنا تقبل الفتاة على النار فتحركها، فيسطع لها لهب متألق وهاج يملأ الغرفة ضياء، ويكشف عن شخص كل منهما للآخر.
ولا تحاول الفتاة حجزه وإبقاءه، ثم ينظر كل إلى صاحبه نظرة الوداع.
Página desconocida